أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - السيرة الذاتية- الروائية: - غصن مطعم بشجرة غريبة - مثالاً















المزيد.....


السيرة الذاتية- الروائية: - غصن مطعم بشجرة غريبة - مثالاً


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 2203 - 2008 / 2 / 26 - 10:09
المحور: الادب والفن
    


تعريف السيرة الذاتية

لا يزال مصطلح " السيرة الذاتية " مُشوّشاً، يكتنفه اللبس والغموض، ليس بسبب صعوبة تأويله، بل لكونه جنساً أدبياً زئبقياً، غير متعيّن، ولا يميل إلى السكونية والاستقرار. وهذا الحراك الإجناسي متأتٍ من كونه الفن الأدبي الأكثر مرونة، وقدرة على التراسل مع بقية الفنون القولية، والإفادة منها وذلك لقربها من أنواع أدبية محايثة لها " كرواية السيرة الذاتية، والمذكرات، واليوميات، والرسائل، والشهادات، والمحاورات، وقصيدة السيرة الذاتية." كما يذهب الناقد حاتم الصكر. وقبل الوصول إلى تعريف محدّد للسيرة الذاتية لا بد لنا من التفريق بين السيرة الذاتية، التي يتطابق فيها المؤلف والشخصية والسارد إلى الدرجة التي يمكن فيها تذييل النص بعبارة " أنا الموقِّع أدناه "(1)، وبين " السيرة الغيرية " التي تُكتب عن شخص بارز ومبدع في أي حقل من الحقول الأدبية والفنية والفكرية والسياسية والعلمية وما إلى ذلك. فالسيرة الذاتية لا يُخشى عليها من التداخل مع السيرة الغيرية حسب، وإنما يُخشى عليها من الخلط بينها وبين التاريخ والمذكرات واليوميات والرواية. فالسيرة الذاتية بوصفها جنساً أدبياً بحسب فيليب لوجون " Philippe le jeune " هي " حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفه خاصة " (2). ومن أبسط تعريفات السيرة الذاتية هو تعريف ستاروبنسكي حيث يقول: "هي سيرة شخص يرويها بنفسه"(3) وهناك باحثون ودارسون ومنظّرون عرب عرّفوا السيرة الذاتية تعريفاً دقيقاً. فالباحث محمد عبد الغني حسن قد قال عن التراجم الذاتية أو الشخصية: " هي أن يكتب المرء بنفسه تاريخ نفسه، فيسجّل حوادثه وأخباره، ويسرد أعماله وآثاره. ويذكر أيام طفولته وشبابه وكهولته، وما جرى له فيها من أحداث تعظم وتضؤل تبعاً لأهميته".(4) كما يرى الباحث أنيس المقدسي " أن فن السيرة نوع من الأدب يجمع التحرّي التاريخي والإمتاع القصصي."(5).
نشأة السيرة الذاتية

بعد تعريف السيرة الذاتية لا بد من الإشارة إلى الخلاف المحتدم بصدد نشأة السيرة الذاتية، فمنهم من يراها جنساً أدبياً عربياً موغلاً في القدم مثل الباحث كارل بروكلمن حيث يعتقد أن هذا الجنس الأدبي نشأ في العهد الجاهلي، بينما يرى الدكتور عبد الرحمن بدوي أن العرب غير قادرين على كتابة السيرة الذاتية. ويبدو أن رأي بروكلمن هو الأقرب للصواب حيث يقول: " كان عرب الجاهلية يفخرون بذكر مآثرهم ومآثر أسلافهم وأيامهم، وأنسابهم، وكان سمرهم يجري على رواية أيامهم"(6) كما توصلت الباحثة تهاني عبد الفتاح شاكر في أطروحتها الموسومة بـ " السيرة الذاتية في الأدب العربي " إلى أن سيرة سلمان الفارسي هي أول نواة لسيرة ذاتية عربية في القرن الأول الهجري. ثم تتبعت نماذج متناثرة لسير ذاتية في " كتاب الأغاني " لأبي فرج الأصفهاني، واستشهدت بما قالته هيلاري ليلباترك أن "سيرة الشاعر الأموي نصيب هي أقدم سيرة ذاتية في الأدب العربي.
لم تقتصر النماذج المتناثرة للسير الذاتية على " كتاب الأغاني " وإنما تجاوزته إلى كتب ورسائل أدبية معروفة مثل "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" لابن أبي أصيبعة، ورسالة " الصداقة والصديق " لأبي حيّان التوحيدي التي نتلمّس فيها بعض ملامح السيرة الذاتية والنفسية لمؤلفها الذي يتوفر على نفَسٍ إبداعي عالٍ. كما أن كتاب " المنقذ من الضلال " للغزالي هو سيرة ذاتية أيضاً صوَّر فيه جانباً من أزمته الروحية الحادة التي لازمته طوال ستة أشهر حيث عانى صراعاً داخلياً مريراً أفضى به إلى التوحّد بعد أن ترك التدريس، وكرّس حياته للطرق الصوفية، وانقطع إلى التأمل الفلسفي. ثم تستنتج الباحثة إن آخر بذور السيرة الذاتية في الأدب العربي القديم التي وصلتنا في كتاب هي سيرة العلامة ابن خلدون التي تحمل عنوان " التعريف بابن خلدون ورحلته شرقاً وغرباً" وهي سيرة ذاتية لم تحظَ بالعناية والنقد والتحليل ربما لأنها لم تكن سوى هامشٍ قياساً باهتمامه التاريخي المعروف.
وإذا سلّمنا جدلاً أن السيرة الذاتية هي نوع أدبي غربي خالص كما يدّعي بعض النقاد والمنظّرين الغربيين، وأن العرب لم يعرفوا هذا الجنس الأدبي بمواصفاته ومعاييره الأوروبية فإن كتاب " الأيام " لطه حسين هو الأنموذج الأقرب إلى " السيرة الذاتية " الأوروبية مع انطوائه على خلل سردي كبير وهو أن الراوي لا يروي بضمير المتكلم، وإنما بضمير الغائب، بينما تقتضي شروط السيرة الذاتية التطابق بين " أنا المؤلف، والسارد، والكائن السيري "، وإذا تجاوزنا " كتاب الأغاني " ورسالة " الصداقة والصديق " و " المنقذ من الضلال "، و " كتاب العِبَر " لابن منقذ، و" نصوص ابن سينا " بحجة أنها لا تتوفر على عناصر السيرة الذاتية المعاصرة فإن الأدب العربي الحديث قد عرف هذا النوع الأدبي منذ ثلاثينات القرن العشرين، ويمكننا الإشارة إلى " قصة حياة " للمازني، و " طفل من القرية " لسيد قطب، و " حياتي " لأحمد أمين، و " أيام الطفولة " لعبد المجيد بن جلون، و " سبعون " لميخائيل نعيمة، و " سجن العمر " لتوفيق الحكيم، و " مذكرات " لجورجي زيدان، و " بقايا صور " و " المستنقع " لحنا مينا، و " معي " لشوقي ضيف، و " عينان على الطريق " لعبد الله الطوخي، و " الخبز الحافي " لمحمد شكري، و " أوراق العمر " للويس عوض، و " البئر الأولى " و " شارع الأميرات " لجبرا إبراهيم جبرا، و " أوراقي. . حياتي " لنوال السعداوي. وفي العراق هناك نماذج من السيَر الذاتية لعل أبرزها هو كتاب الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي الموسوم بـ" أية حياة هي؟- سيرة البدايات " وهناك نماذج أُخَر للسيرة الذاتية كتبها سياسيون ومفكرون وفنانون عراقيون نذكر منها " ليلة الهرير في قصر النهاية " لأحمد الحبوبي، و " الهروب إلى الحرية " للدكتور حسين الشهرستاني، و " جدار بين ظلمتين " لبلقيس شرارة ورفعة الجادرجي، و " في ضيافة الوحش " لطارق صالح الربيعي والتي سنتوقف عندها في متن هذا الفصل بعد أن نرسم بدقة ملامح السيرة الذاتية التي تميّزها عن بقية الأجناس الأدبية القريبة منها والمحايثة لها.

ملامح السيرة الذاتية

لا يعدّ الكثير من النقاد والباحثين السيرة الذاتية وثيقة تاريخية يمكن الاعتماد عليها فالدكتور حاتم الصكر يعتقد " أن الصدق المطلوب غير مؤكد في كتابة السيرة الذاتية وذلك لما تتعرض له السيرة الذاتية من إمكان الخطأ أو التصحيف المتعمد كالنسيان أو التناسي، والحذف والإضافة، والتعديل والتكييف، وإكراهات الوعي القائم زمن الكتابة والاسترجاع اللاحق للأحداث (7) وإضافة إلى هذه المخاطر فإن هناك خشية من تسرّب الخيال إلى الحقيقة، أو تداخل بعضهما في بعض. ولهذا فقد أدرك غوته منذ وقت مبكر ملامح السيرة الذاتية وخصائصها الدقيقة، ولهذا فقد أطلق على ترجمته الذاتية اسم " الشعر والحقيقة " ليبرّأها من شطحات الخيال وأضاليله أحياناً. وربما يكون الملْمح الذي استخلصته الباحثة تهاني عبد الفتاح شاكر مفيداً في التفريق بين السيرتين الذاتية والغيرية حيث ترى أن كاتب السيرة الذاتية يقدّم الشخصية من " الداخل إلى الخارج "، أي أنه يبني نصه على قوة الانفعالات، واحتدام المشاعر الداخلية المتناقضة، ثم علاقتها بالظروف الخارجية المحيطة بها، ودرجة تأثرها وتأثيرها في المجتمع. أما السيرة الغيرية فلا تتيح للمؤلف سوى الأحداث القارة الجاهزة التي تسمح له بالحركة من " الخارج إلى الداخل ". وإذا كانت الرواية تتيح للمؤلف فضاء أوسع للخيال فإن السيرتين الذاتية والغيرية تضيّقان الخناق على شطحات الخيال وتهويماته المُختَلَقة.
وإذا كان بعض النقاد والباحثين يستمرئون الخيال، ولا يجدون ضيراً في استعماله من قبل كُتّاب السيرة الذاتية، ولكن عليهم أن يكونوا صادقين، ولا يختلقون أحداثاً مفتعلة ووقائع مصطنعة. يقول بليون أدل في هذا الصدد:" ولكاتب السيرة أن يطلق لخياله العنان كما يحلو له، وكلما أمعن في خياله كان أفضل، وذلك في طريقة ربطه مواده بعضها ببعض، ولكن عليه ألاّ يختلق مواده ويتحرّى الصدق والصراحة فيما يسرده."(8) وكما هو معروف فإن الصدق والصراحة يحتاجان إلى " شجاعة البوح والاعتراف " وخصوصاً فيما يتعلق بالتابوهات الثلاثة " الدين والجنس والسياسة "، ويرى بعض من النقاد والمحللين أن الصدق مسألة نسبية، وأن الكاتب الجريء والمنفتح نفسه لا يستطيع أن يكون مُحايداً، أو ناقلاً للحقيقة كما هي عليه. وسواء أكانت الأسباب والمحرّضات التي تدفع بالكُتّاب لكتابة سيرهم الذاتية هي تعرية الذات، أم كشف المستور، أم فضح المسكوت عنه، أم مجرد رغبة غريزية لنيل الشهرة، وتحقيق الخلود المجازي فإنا سنتوقف الآن عند سيرة ذاتية – روائية واحدة وهي " غصن مطعم بشجرة غريبة " على أمل أن نتاول مستقبلاً عدداً من السير الذاتية التي دبجتها أنامل كُتاب عراقيين ينتمون إلى شرائح ثقافية وسياسية واجتماعية، ويعتقدون أن منجزهم الإبداعي، ومواقفهم السياسية من الفرادة والتميّز والتألق ما يمنحها أحقية الكتابة والتدوين.
" غصن مطعّم بشجرة غريبة " أنموذجاً
لا تبدأ " غصن مطعم بشجرة غريبة " بداية تقليدية، فكل شيء فيها متداخل: الزمان، المكان، الأحداث، الشخصيات وما الى ذلك. ولعل أغرب ما في هذه السيرة بنيتها المعمارية المراوغة. فالفكرة الأساسية التي يقوم عليها النص السيري تبدأ من نهاية الفصل الثاني، علماً بأن هذه السيرة مقسّمة الى ستة فصول وهي " الناصرية، بغداد، حلب، تركيا، ميلان، لندن " يقول الكائن السيري " اختنقت، اختنقت، أمنيتي الوحيدة لا الوصول الى لندن، لا العيش فيها، ولكن الموت في مكان آخر. الموت بإرادتي أقصى حلم. أردت أن " أحس باللذة السوداء في الوفاة " كما قلت مرة في قصيدة " كابوس ". أردت أن أختار نوع موتي كما إختار السهروردي موته. أشقُ عليَّ أن يشفي قاتلي غليله. أن أموت تحت قدميه وآلات تعذيبه مُهاناً مُذلاً. أمنيتي أن أحرمه من إشباع حقده. " (9 ) تتجسد المراوغة الفنية بدءاً من المقتَبس التالي حيث يقول " إنتهت حياتي حقاً، وإنني ذاهب للتفتيش عن موت كريم "(10) ثم يعزز هذا النزوع بالتأكيد على أن " كل يوم جديد هو إطالة في دفني خارج تلك الحدود الطاحنة "(11) ثم يمضي الى القول في مكان آخر " الآن أستطيع أن أقرر مصيري في أية لحظة، أصبحت إرادة موتي بيدي، وهو حق لا أريد لأحدٍ أن يفرضه عليَّ بالتجويع والتعذيب والإذلال"(12) من حق القارئ أن يتساءل: لماذا يريد هذا الكائن السيري أن يهرب خارج العراق ويموت موتاً كريماً؟ هناك عدة حوادث لاذ بها السارد لتبرير هربه من العراق من بينها وهي الأشد وقعاً على نفسيه الشخصية الساردة " رأيت عبد الكريم قاسم في التلفزيون مثقوب الجبهة وعيناه مفتوحتان. رأيت الجندي وهو يهز رأسه الميت من شعره "(13) الحادثة الأكثر أهمية التي هيمنت على سياق النص هي الآتي: " شتمني المعلم بكل بذيئة، كانت أمي على لسانه " . . . " عادية وسحاقية، ووالدي قرناناً قواداً ومأبوناً. رفع السماعة وخاطب منظمته. وصل هذا الإبن الـ " . . . " الشيوعي. طبيعي " نكسر عينه " جرَّ مسدسه من حزامه ووضعه على الطاولة وصرخ: قم إنزع بنطلونك من الآن. حضِّر نفسك سنشقك شقاً هذه الليلة"(14) الحادثة الثالثة والأخيرة التي سأتوقف عندها هي إصابة أخيه بجرح خفيف في ذراعه كما نُقل له. كان الجرح في القلب! " إنغرزت السكين في ظهر أخي من الخلف"(15) ولهذا فإن الكائن السيري يخاف من كل خطوٍ يمشي وراءه في الليل لأنه يحمل سكيناً أبدياً في ظهره. ربما يتساءل البعض: أليست هناك أسباب أُخَرْ للهجرة وترك العراق الى الأبد؟ هل قالت الشخصية الساردة كل شيء؟ وهل كانت أمينة لميثاق السيرة الذاتية الذي يُبرم بين الكاتب والقارئ عادة ؟ أم أنها أجلّت أشياء كثيرة، ولمَ هذا التأجيل؟ لنؤجل الإجابة قليلاً كما أجلّها الكاتب نفسه حتى الصفحات الأخيرة من النص السيري. بدأ نيازي في الأشهر الأولى من تواجده في لندن يتأمل ذاته ويطيل النظر في المرآة يومياً مكتشفاً حسناته وعيوبه. " كنت أقترب من نفسي أكثر فأكثر. أتحدث إليها، وأتحاور معها. فرحت بإكتشاف ممالكي المطمورة"(16).
بدأ نيازي بتعلّم اللغة الإنكليزية وهي رحلة شاقة ومضنية معاً. وقد توصل الى عدد من الحقائق نذكر منها " أن الجملة الإنكليزية ليست يقينية جافة. تسمع الكلمة الإنكليزية وكأنما إشترك في صياغتها شخصان في آنٍ واحد: أحدهما يروي وآخر يعترض، لذا تكثر فيها خطوط الرجعة، والجُمل الإعتراضية، وكل ما يقلل من يقينيتها الى ذلك فهي لا تغفل عن الاحتمالات غير المتوقعة"(17) وفي السياق ذاته الذي يكشف فيه الفرق بين الجملتين العربية والإنكليزية يقول: " الجملة الإنكليزية غير معنية بالجانب الغيبي، وإنما بالجانب القانوني وبالمنطق في آنٍ واحد"(18). هل أن الجملة العربية متعجرفة ومتغطرسه ومغرورة، أم أنها تعتمد على طبيعة قائلها ودرجة تحضّره، وثقافة خالقها وعمق مخزونه الفكري والإنساني؟ يرى الكائن السيري " أن الأم العراقية تُرضع طفلها الغرور مع الحليب: أجمل طفل، أفضل طفل في المدرسة، درجاته أعلى الدرجات بين أقرانه، المعلمون يستغربون من ذكائه، جاء بالمرتبة الأولى. بِجُمل كهذه تنمّي الأم في طفلها روحاً ديكية، قوية في المظهر، هشّة في الداخل، والديك مهما كان تطوّسه أجبنُ من عليها"(19) الكاتب لا يستثني نفسه هنا حيث يقول: " شربت الإعتداد بالنفس والطوح منذ البداية، وها أنا اليوم أحاول شيئاً مستحيلاً. أريد أن أعزل حليب الأم عن تلك الأمراض الخطرة المعدية"(20). يقترح علينا الكائن السيري أن نُدخل معظم شعرنا ونثرنا في مستشفى الأمراض النفسية. يا ترى هل أن هذا الإقتراح معقول ومقبول وقابل للتطبيق، أم أنه مجرد حلم عابر راود مخيلة الكاتب؟ لندقق النظر في الأبيات الشعرية التالية: قال ودّاك بين ثميل المازني وهو يتحدث عن العرب طبعاً" " إذا أُستُنجدوا لم يسألوا مَنْ دعاهم / لأية حرب أم بأي مكان "(21) يتساءل نيازي تساؤلاً مشروعاً: هل أنا حقاً من أولئك الذين يهبّون لأية حرب، وبأي مكان؟ دعنا نسمع الكائن السيري وكاتب النص نفسه فهو شاعر وناثر في آنٍ معاً حيث يقول في واحدة من قصائده " تعالي ننهب اللذات من غفلات دنيانا "(22). وربما يقفز الى الذهن سؤال مفاده: هل هذه صورة حب طبيعية ومألوفة، أم أنها عملية سطو مكشوفة في رابعة النهار؟ ففي هذا البيت وحده خمس مخالفات قانونية كما يعترف كاتب النص نفسه. كما أن مفتتح البيت يكشف عن نَفَسٍ إستعلائي واضح. فبدل كلمة " تعالي " لماذا لم يقل الشاعر " دعينا " أو " هيا " خصوصاً وأن التي يخاطبها هي حبيبته أو ثنية روحه في الأقل؟ هل أن الشخصية العراقية مغرورة بسبب البيئة أم التراث؟ وهل نحتاج فعلاً الى أقراص منع الغرور وهي الوصفة الشافية التي منحتها لندن الى كاتب النص كما ورد في إعترافاته المبثوثة في متن الكتاب. لنطيل النظر في الأفكار الآتية وهي كلها لأسماء عراقية معروفة لكنني سأتفادى ذكرها كي لا نقع فيما لا تُحمد عقباه. كتب أحد العازفين على غلاف إسطوانته بأنه " أعظم عازف منذ النبي داود "(23). قال شاعر معاصر " بأنه قرأ الشعر الفرنسي منذ بدايته الى الآن"(24). قال مغنٍ عراقي " بأن الصفة التي يكرهها هي التواضع"(25). هتف أسرى عراقيون في راديو طهران " يا خميني سير سير/ إحنا أبطال التحرير "(26). أسرى وأبطال، هذا ما يقوله الكائن السيري ثم يتمنى أن " توزع عينات من هذه الأهازيج على المختبرات النفسية لدراستها والتوقف عندها لأنها أصل كل داء في مجتمعنا "(27). ما الذي تعاني منه الشخصية العراقية على وجه التحديد: هل هو الغرور الخارج عن الحد، أم المبالغة المفرطة، أم الزهو المنفلت؟ هل أن شخصيتنا جُبلت على الوهم والعناد والغلّو؟ كيف لنا أن نصدّق البيت الشعري التالي: " إذا بلغ الرضيع لنا فطاماً / تخّر له الجبابر صاغرينا "(28). وقع الكائن السيري نفسه ضحية الغرور حيث قال ذات مرة لصاحب البيت الإنكليزي الذي إستأجر منه غرفة صغيرة: " لي القابلية أن أحفظ بسهولة مائة كلمة إنكليزية كل يوم. رد عليَّ بإستغراب مهذب: كل يوم؟ بسهولة؟"(29). إكتشف نيازي محنة الغرور التي أصابته في الصميم وإقترح علينا الحل حيث قال في متن هذه السيرة الذاتية " كان على حكوماتنا أن تفتح عيادات للمغرورين، وأن تفرض ضريبة على كل كلمة مغرورة يكتبها أديب"(30). تعلّم نيازي التواضع من طالب الدكتوراه الذي كان يراجع معه النصوص الشعرية العربية القديمة. فقد كان هذا الطالب، مثل أغلب المثقفين البريطانيين، أشبه بالجذر الصامت. وغالباً ما تكون الجذور الصامتة قوية الإرادة، تحفر ببطء وجَلَد وبلا توقف، لكنك لا تسمع لها ضجة أو دوّي. قرر الكائن السيري إستئصال بعض العادات المرضية التي تسكن في ذاكرته، وربما في وحدات دمه،" كالإعتداد بالنفس، والحديث عنها، والشكوى، منابزة الآخرين بالمطامح"(31) وأكثر من ذلك فقد إكتشف نيازي أن النياشين التي يضعها على صدره إنما هي أوسمة زائفة، ولا بد من نزعها الآن وليس غداً. فخلال مرحلة الدروس الخصوصية التي كان يعطيها لطالب الدكتوراه إكتشف الكائن السيري أن معرفته بالأدب العربي سطحية، تلقينية. كما أن إلمامه بالموسيقى والفن التشكيلي ضحل ومثير للشفقة. حينما تخلّص نيازي من ثقافته التلقينية التي تشبه الى حد ما " الأعشاب " التي تنتشر أفقياً، وتحوّل الى جذر صامت يحفر في العمق، بدأ التأسيس لمرحلة ثقافية جديدة ستترك أثرها على نتاجاته الأدبية في الشعر والنقد والترجمة، لأن ذاكرته بدأت توثق وتدوِّن، أي أنه إنتقل من طور الثقافة الشفاهية الى مرحلة الثقافة التدوينية، كما إنتقل من زراعة النباتات الموسمية الى زراعة الأشجار دائمة الخضرة، بتعبير الكاتب نفسه. يبدو أن سكرتيرة نيازي في الجامعة هي التي شذبت غروره الشديد. فقد حدّثها ذات مرة عن عدد كبير من مشاريعه الأدبية فما كان منها إلا أن وخزته بأدب جم قائلة: " As usual setting the Thames on fire "(32). وكان تعني أنه كالعادة " يجترح المعجزات، ويأتي بالمستحيل! " حينما إنتقل من مرحلة الثقافة السطحية اللجوجة العابرة الى مرحلة الثقافة التدوينية الراسخة تقننت قراءاته، وتعمقت ثقافته، وبدأ يحفر في العمق، ويعمل بصمت راهب متصومع. حينما تعلّم نيازي التواضع، ودخل مرحلة الثقافة التدوينية، بدأ مرحلة جديدة وهي مرحلة الإعترافات. ويندر أن تجد كاتباً عراقياً يعترف بعيوبه كلها دفعة واحدة كما فعل نيازي، اللهم إلا إذا إستثنينا الكاتب المبدع والشجاع عبد الستار ناصر الذي حقق قصب السبق في هذا المضمار شديد الحساسية. فبعض الأفكار التي أجلّنا الحديث في مقدمة هذه الدراسة المتواضعة هي التي تكشف لنا أن شخصية الكاتب الحقيقية مزدوجة، وربما ثلاثية الأبعاد. يقول الكائن السيري في واحدة من إعترافاته: " غادرت العراق حتى أختار ميتتي بإرادة حرّة. هل كنت صادقاً فعلاً أم أنني كنت أفتش عن حياة أفضل فخدعت نفسي"(33). كان نيازي يحب الشهرة ويكرهها في آن واحد، وهذا دليل دامغ على إزدواجيته حيث يقول: " لم تكن لديَّ رغبة في النشر، وفي نفس الوقت تهالكت على النشر لإثبات وجود فقط، ولم يخطر ببالي التفوق على أحد أو التصدر بأي معنى"(34). يمضي نيازي في إعترافاته المثيرة " لأعترف بأنني لست مترجماً. . ولأعترف أكثر أنني لست موهوباً بهذا الفن الصعب. ليست لي قابلية على تقمص روح الكاتب الأصلي بلغته الأم، لأعيدها حية بلغتي الأم"(35) يثير نيازي في خاتمة سيرته الذاتية سؤالاً شديد الأهمية مفاده " هل كل ما كتبته في هذه السيرة خديعة وتضليل؟ "(36) الجواب ليس خديعة بالطبع، ولكن الأفكار الإستهلالية لم تتضمن الجوانب الأُخَرْ التي دفعته للهجرة. فلقد إحتفظ بها لنفسه طوال عملية السرد، وما أن شارف على النهاية حتى فاجأنا بها جميعاً، كالبحث عن الثقافة الحقيقة العميقة، والعيش مع النماذج البشرية المتحضرة التي تحترم إنسانية الإنسان، وتمجد خصوصياته الخاصة، وأكثر من ذلك فإنه وقع في قلب الحَيرة. كان الكائن السيري الذي صرّح لنا في مقدمة سيرته أنه غادر العراق في أوائل الستيات من القرن الماضي بدافع البحث عن موت كريم، لكنه تراجع في خاتمة النص ليعترف بأنه قد بدافع البحث عن حياة أفضل، لكنه، مع ذلك، أصبح غصناً مطعماً بشجرة غريبة، لكنه ظل طوال العقود الأربعة الماضية يبحث عن هوية حتى ولو كانت " آجرة سومرية في صندوق زجاجي في متحف "(37). السؤال المهم هنا: هل يمكن لهذا الغصن المطعم بشجرة غريبة أن يعود الى جذوره السومرية؟ وما فائدة هذه العودة؟ في ختام هذه السيرة يرى نيازي أن اليقين الوحيد في حياته هو الحيرة " الحيرة هي ميراثي الأول والأخير "(38)

المصادر والإحالات
1- لوجون فيليب: السيرة الذاتية والميثاق والتاريخ الأدبي، ترجمة عمر حلي، المركز الثقافي العربي، بيروت 1994، ص24
2-المصدر نفسه، ص 22.
3- غريزي وفيق، السيرة الذاتية في الأدب العربي" لتهاني عبد الفتاح شاكر"، صحيفة البلد الإليكترونية، لبنان، بيروت، 10 يونيو،2005.
4- المصدر نفسه.
5- المصدر نفسه.
6- المصدر نفسه
7- الصكر حاتم: السيرة الذاتية النسوية: البوح والترميز القهري. مجلة فصول، عدد 63 شتاء وربيع 2004. ص 211. "
8- المصدر السابق.
9- نيازي صلاح: غصن مطعّم بشجرة غريبة، مؤسسة الإنتشار العربي، لبنان، بيروت، 2002، ص38.
10- المقتبسات الآتية من الرقم 10 حتى الرقم 38 مأخوذة كلها متن السيرة الذاتية- الروائية وسنكتفي بذكر أرقام الصفحات فقط، ص39،ص41. ،ص51 ،ص133،ص129 ،ص136 ،ص57،ص65 ،ص65 ،ص68 ،ص68،ص72،ص77،ص169 ،ص169 ،ص169 ،ص170 ،ص170،ص170 ،ص66،ص83 ،67 ،ص169 ،ص164،ص166 ،ص179 ،ص183 ،ص184،ص205.
* نص المحاضرة التي ألقاها الناقد عدنان حسين أحمد في منتدى الحوار الثقافي بتاريخ 9-2-2008 في لندن، وأدار الأمسية الشاعر وديع العبيدي.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التشكيلي الكردي صدر الدين أمين . . . من البكتوغرافي الى الشا ...
- - فهرس الأخطاء - والأنموذج المُحزِن للتيه العراقي:عبود الجاب ...
- هيمنة الشتاء النووي في - الطريق - الى العدم
- الروائي المصري رؤوف مسعد: أنا أقلية في المجتمع الهولندي، وأق ...
- الروائي المصري رؤوف مسعد: أنا متمرد بالسليقة على أسرتي، وطبق ...
- الروائي المصري رؤوف مسعد: ما أكتبه يثير القلق والحفيظة والضغ ...
- الديناصورات: عمالقة بتاغونيا: رسوم متحركة تحفِّز الخيال والر ...
- شعرية نزار قباني تحت مجهر صلاح نيازي: لماذا أحسَّ نزار بالشي ...
- كيت بلانشيت . .السمكة الصغيرة التي سقطت في نافذة العنكبوت
- غمامة زها حديد تهبط على ضفة التيمز
- مارك والنغر يفوز بجائزة تيرنر الفنية: عمل يجمع بين المفردة ا ...
- - متاهة بان - للمخرج المكسيكي ديل تورو: تحفة بَصَرية تؤرخ لن ...
- - مئذنة الشعر -. . قراءات نقدية في التجربة الشعرية لباسم فرا ...
- الروائي مجيد خضر الهماشي يستجير من الرمضار بالنار، ويتخذ من ...
- الفنان التونسي لطفي عبدلي: الوسامة وحدها لا تكفي لخلق الجاذب ...
- في شريطه القصير - البغدادي - لميثم رضا: عراقي وبريطانية يتقا ...
- قراءة في الأداء التعبيري لنيكول كدمان في - الموت من أجل . . ...
- حدود الفنتزة في فيلم - لص بغداد -
- المخرج رونالد إيميريش يوحِّد قوى الأرض ضد طواغيت السماء
- المخرج الأمريكي ويْس كرافِن يستوحي - موسيقى القلب - من - عجا ...


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - السيرة الذاتية- الروائية: - غصن مطعم بشجرة غريبة - مثالاً