أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - شعرية نزار قباني تحت مجهر صلاح نيازي: لماذا أحسَّ نزار بالشيخوخة وهو في سن الأربعين؟















المزيد.....


شعرية نزار قباني تحت مجهر صلاح نيازي: لماذا أحسَّ نزار بالشيخوخة وهو في سن الأربعين؟


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 2167 - 2008 / 1 / 21 - 10:13
المحور: الادب والفن
    


لم يحظَ الشاعر الراحل نزار قباني باهتمام جدِّي من قبل النقاد العرب على رغمٍ من نجوميته الشعرية التي لم يبُّزها أحد طوال حياته. فقد " ملأ الدنيا وشغَلَ الناس " بجماهيريته ونجوميته، ومع ذلك فقد ظل شِعره مهمّشاً على الصعيد النقدي الى أجل غير مسمّى. ويبدو أن الناقد صلاح نيازي كان يعرف سلفاً بأن نزار قباني " لا يُطيق النقد " ولا " يغفر " لمنتقديه! لذلك تريث قليلاً قبل أن ينشر دراساته النقدية الأربع في كتاب مستقل. وقد لفتَ نيازي عناية القارئ في مُستهل الكتاب الى وجود آراءٍ وتصوراتٍ متكررةً عن تجربة نزار قباني الشعرية مرّدها أن هذه الدراسات النقدية قد كُتبت منفصلة عن بعضها البعض. وقد آن الأوان لكي يطلِّع عليها القارئ مجتمعةً بعد أن إرتدت حُلة كتاب نقدي جديد لا يخلُ من بعض التعديلات واللمسات الأخيرة التي أوحت للقارئ بوجود خيط لا مرئي يعزّز رؤية الناقد المنهجية في الرصد والتحليل. إرتأى نيازي أن يقدّم للقارئ نبذة مختصرة عن السيرة الذاتية والإبداعية للشاعر نزار قباني. وقد إقتبسها عن " معجم البابطين " الكويتي. كما إستهل الكتاب بمقدمة مقتضبة تغطي الموضوعات والثيمات التي توقف عندها الناقد. إضافة الى الفصول الأربعة التي شكلّت متن الكتاب. وقبل الحديث عن أهمية المفاتيح الرئيسة التي توفرت عليها المقدمة الدالة والمركّزة لا بد من الإشارة الى قصيدة " أماتَ أبوك؟ " التي رثا فيها وفاة والده لسببين أساسيين: الأول، أن د. نيازي يعتبر هذه القصيدة بمثابة " البوّابة المسحورة التي دخل منها الى عالم نزار قباني الشعري " وهو من دون شك، عالم ملئ بالتناقضات والأسرار والمواقف الغامضة التي تستدعي ناقداً متخصصاً في " النقد النفساني " أو ربما الى طبيب أو محلل نفسي في الأقل! أما السبب الثاني فهو كون الناقد نفسه مولعاً بعدد من القصائد الرثائية التي يتحدث عنها دائماً بإعجاب كبير لعل أبرزها قصيدة الطغرائي في رثاء زوجته، وقصيدة مالك بن الريب في رثاء نفسه. كما أن نزاراً نفسه قد رثا إبنه توفيق، وزوجته بلقيس في قصيدتين مشهورتين غير أن ناقدنا الكبير نيازي وقع إختياره على هذه القصيدة تحديداً لأمر كامن في تضاعيف نفسه يمكن تلمّسه في متن الكتاب الذي تمحوّر حول موضوعات عديدة من بينها سلطة الأب، وأية سلطة أخرى لبِست لبوس القمع والإستبداد. لم يغالِ نيازي، كدأبه دائماً، بعدد المفاتيح النقدية التي سيفتح بها " أقفال ومغاليق " النصوص الشعرية لنزار قباني، وإنما قال بتواضع جم أن لديه مفتاحان فقط. وقد إستعار المفتاح الأول من الشاعر والروائي الإنكليزي روبرت كريفز الذي قال " إن نصف الشاعر امرأة "، والمفتاح الثاني هو إنتحار أخته وصال في سن الخامسة والعشرين لرفضها الزواج من رجل لا تحبه. ولا أدري لماذا ركّز نيازي على هذه الحادثة المفجعة من دون أن يشير، ولو من طرف خفي، الى حوادث أُخَرْ عانى منها نزار، لا تقل فجائعية عن سابقتها مثل موت ولده الشاب توفيق بالنوبة القلبية، أو إغتيال زوجته بلقيس في إنفجار السفارة العراقية في بيروت؟ شرع نيازي في قراءته النقدية لتجربة نزار الشعرية من جملة تصورات ذاتية وموضوعية لعل أبرزها أن شعر نزار قباني هو " سيرة ذاتية " وكنت أتمنى على الناقد أن يسميها " سيرة ذاتية- شعرية " لكي نميزّها عن أنواع أدبية أخرى محايثة لها كالسيرة الغيرية، والسيرة الذاتية- الروائية، واليوميات، والشهادات، والرسائل، والمحاورات وما الى ذلك. وحقيقة الأمر أن تجربة نزار الشعرية ليست كلها سيرة ذاتية، فهناك عدد غير قليل من الدواوين الشعرية التي تتمحور حول أفكار وثيمات ورؤى موضوعية لا علاقة لها بالمنحى الذاتي السيري ونذكر منها، تمثيلاً لا حصراً، " هوامش على دفتر النكسة "، " ثلاثية أطفال الحجارة "، " السيرة الذاتية لسياف عربي " وأضاف في مكان آخر بأن شعر قباني هو " وثيقة شخصية " غير أن الوثائق في الجانب الأدبي لا قيمة لها ما لم تنصهر في سياق فني لافت للإنتباه. والحق يقال إن ثلث تجربة نزار الشعرية في الأقل تتوفر شروط ومقاييس العمل الفني الناجح. آخذين بنظر الإعتبار أن هذه التجربة برمتها تلعب على ثنائية " البساطة والعمق " وربما يكون التوصيف أكثر دقة لو قلنا أن نزاراً قد إجترح فعلاً تقنية " السهل الممتنع " في عدد كبير من قصائده الذاتية والموضوعية. تناول نيازي في كتابه النقدي أربع مجموعات شعرية وهي " قالت لي السمراء "، " قصائد "، " قصائد متوحشة " و " كتاب الحب " وقد أعتبر الناقد أن " كتاب الحب " هو أهم دورة شعرية في حياة نزار قباني، وهو تقييم دقيق فيما يتعلق بشعر قباني السير-ذاتي. أما شعره الموضوعي فتلك قضية أخرى تحتاج الى دراسة منفصلة، خصوصاً وأن الناقد لم يركِّز عليها إلا في بعض الحالات التي تحدث فيها بعمق كبير عندما كان نزار يُشرك قارئه الموضوعي في النص، ولم يسند إليه مهنة التفرّج أو التلّقي السلبي. أعتقد أن د. نيازي قد تناول المجموعات الشعرية التي تعزز رؤيته الفكرية، ومنهجه النقدي فقط. ومن هنا فإن تركيزه قد إنصبَّ على المجموعات الأربع آنفة الذكر من دون أن يهمل المجموعات الأخرْ التي تجاوزت الأربعين بحجة أنها سيرة ذاتية متصلة ولا يجوز إهمالها بأي حال من الأحوال. تتبع نيازي في الفصل الأول من الكتاب تأثر نزار ببعض الشعراء والفنانين العرب والعالميين أمثال المتنبي، وبدر شاكر السياب، وجورج بيزيه، وإيغور سترافنسكي وغيرهم. وقد وصل الأمر ببعض قصائد نزار الى حد التناص التام على صعيد الفكرة والصورة الشعرية. وقد أشار نيازي الى صدى المتبني في عدد محدود من أبيات نزار قباني من بينها " تخيلتُ حتى جعلتُ العطور / تُرى . . ويُشم إهتزاز الصدى " ألا يذكرنا هذا البيت مباشرة ببيت المتنبي الذي يقول فيه: " أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي / وأسْمَعَتْ كلماتي منْ به صممُ "؟ وفي قصيدة أخرى لنزار لم يتوقف عندها نيازي مع أنها وردتْ ضمن مقتبساته الرئيسة حيث يقول فيها: " مَنْ ينتقي / لي من كروم المشرق / من قمر محترق / حُقاً غريب العبق / آنية مسحورة خالقها لم يُخلق " ولا شك في أن هذه القصيدة مستوحاة وزناً وإيقاعاً ومناخاً من قصيدة المتنبي الشهيرة التي يقول فيها " أي محل أرتقي / أي عظيم أتقي / وكل ما قد خلق / الله وما لم يخلق / محتقر في همتي / كشعرة في مفرقي". كما توقف نيازي عند صورة النجوم التي إستوحاها نزار من المتنبي أيضاً من دون أن يصمه بالسرقة أو الإنتحال. تجدر الإشارة الى أن نزاراً قد إعتاش على بعض مضامين السياب وأفكاره التي جسدها في قصيدتي " المومس العمياء " و " أنشودة المطر " كما أثبت نيازي تأثر نزار كلياً بـ " أوبرا كارمن " لجورج بيزيه، و " الطير الناري " لسترافنسكي، وأَسْمى هذا التأثر إمتصاصاً تارة، وتشبعاً تارة أخرى، وتمثلاً أو تقمصاً تارة ثالثة، وهكذا دواليك من دون أن يُشِر الى إستعارة نزار أو إستلافه أو سرقته المدروسة بعناية فائقة، وأكثر من ذلك فقد شبهه هو أمثاله بـ " العصافير التي تمتلك البيادر كلها وتكتفي بحبات قليلة ". وخلال الفصل الأول الذي تمحور حول ديوان " قالت لي السمراء " أثار نيازي ستة أسئلة مهمة جاءت على وفق التسلسل الآتي " هل كان نزار مؤلفاً أم عازفاً موسيقياً؟ " ولكي لا نطيل في الإجابة نقول إن نزاراً كان مولعاً بهوايتين أساسيتين وهما الموسيقى والرسم، فلا غرابة إذاً أن يكون مثل المؤلف أو الملحن أو العازف الموسيقي الذي يعتمد إعتماداً شبه كلي على الإيقاع والميلودي في آن معاً، وهذا ما يفسر سبب نجاح العديد من قصائده التي غناها المطربون والفنانون العرب. فالإيقاع والموسيقى حاضرتان في قصائده دائماً حضور الألوان التي سوف يشير إيلها نيازي لاحقاً. فأَحّب هوايات نزار الفنية الى نفسه هي الرسم، إذْ كانت حياته الواقعية أو المتخيلة عبارة عن حقل واسع من الألوان. وقد أكد نزار هذا الأمر في حوارات صحفية متعددة. وربما جاء عنوان الكتاب " نزار قباني . . رسّام الشعراء " منسجماً جداً مع رأينا المتواضع الذي نسوقه في هذا المضمار. أما السؤال الثاني فهو يتمحور حول نظرة نزار الى المرأة، وهل هي تجريدية أم جسدية؟ وقد أجاب نيازي غير مرة ومن خلال تحليل العديد من النصوص الشعرية أن نظرة نزار للمرأة تجريدية. وقد توصل الى سبب نفسي دقيق جداً وهو ضعف حاسة اللمس لدى نزار قباني، بل أنه أسماها بالحاسة الأضعف. تركز السؤال الثالث حول دور الحواس في شعره. وما هي الحاسة الأقوى لديه؟ وبالمقابل ما هي الحاسة الأضعف لديه؟ ولا شك في أن هذا المقترب النقدي، كما أشرنا في مقالات سابقة، هو مقترب خاص بنيازي، عربياً في الأقل. وفي هذا الكتاب يقدم نيازي قراءة نقدية تفصيليه عن دور الحواس في شعر نزار قباني. وقد توصل في بحثه الى أن حاسة اللمس هي الحاسة الأضعف لديه، أما حاسة الشم فهي أقوى الحواس عنده طراً. وقد شهدت بعض قصائده صراعاً مريراً بين بعض حواسه كحاسة السمع والبصر. وتحيل القاري الى تحليلات نيازي المنطقية التي إعتمدت على المنظورية وتقنية الحواس في آن معاً، وخصوصاً في قصيدة " طوق الياسمين " و " رسالة من تحت الماء " وغيرها من القصائد التي وضعها الناقد على " طاولة " التشريح. أراد الناقد في سؤاله الرابع أن يبين للقارئ ما نوع المرأة التي كان يفضلها نزار قباني؟ وهل كان يحبها أم يعشق حضورها فقط؟ وقد كشفت الدراسة من دون لبس أو مراوغة أن الشاعر كان يعشق حضور المرأة، ويخشى الإقتراب منها، لذلك ظلت المرأة في شعره وحياته شكلاً تجريدياً محضاً. أما السؤالان الأخيران اللذان يدوران في فلك واحد أيضاً فهما: لماذا أحس نزار بالشيخوخة في سن الأربعين؟ والسؤال السادس والأخير: لماذا كرِه لحم الأنثى عارياً؟ ومنْ يتمعن في قراءة الفصل الأول سيلمس لمس اليد أن نزاراً شعر بالوهن المبكر، وليس العجز الكامل، الأمر الذي دفعه للإحساس المبكر بالشيخوخة. أما الإجابة على السؤال الأخير فتقتضي العودة الى قصيدتيه المعنونتين " الى عجوز " و " البغي ". ففي الأولى يقول نزار: " إني قرفتك ناهداً متدلياً / وقرفت تلك الحلمة المتهرئة / أنا لا تحركني العجائز فإرجعي / لك أربعون . . وأي ذكرى سيئة ". وفي قصيدة " البغي " يقول: " هذه المجدورة الوجه إنزوت / كوباء . . كبعير نتنِ / أخرجت ساقاً لها معروقةً / مثل ميْت خارج من كفنِ ". ثمة أفكار أُخرْ كثيرة في الفصل الأول سأشير إليها بعجالة وهي خلاصات توصل إليها الناقد بعد فحص وتدقيق طويلين منها أن نزاراً قد " تشبّع بالمصطلحات القرآنية، وأفاد من دلالاتها العميقة " لكنه طبعاً طوّعها بالإتجاه الذي يخدم النص الشعري، ويعمّق أبعاده الجمالية.
المنحى السردي في شعر التفعيلة
إنتقل نزار في ديوان " قصائد " الى شعر التفعلية بعد أن أدرك حجم المساحة الضيقة التي يتحرك فيها نصه الشعري. وقد أشارة نيازي إشارة دقيقة جداً الى أن الأشكال الشعرية الحديثة أقدر على إستعياب المنحى السردي الذي تتوفر عليه قصائد نزار، خصوصاً وأن ثيماته تتناول غالباً أحداثاً يومية عابرة. لم يتخلَ نزار عن الموسيقى نهائياً لأنها عنصر أساسي من عناصر البنية الداخلية لنصه الشعري، لذلك " صعَّد الموسيقى بتكرار بعض الكلمات والجمل وكأنها أصداء متلاطمة " مستفيداً، كما يشير نيازي، من تجربة السياب نفسها، والذي تأثر هو الآخر بتجربة ت. أس. إليوت الشعرية وما تنطوي عليها من أصداء موسيقية، لكن نيازي يعترف لنزار بفضله في " تطوير الصدى الى أبعاد تثير الإعجاب حقاً " وأن منْ يقرأ قصيدة " طوق الياسمين " يشعر بهذا الصدى المتلاطم الذي خلقه الشاعر و " الموسيقار " نزار قباني. وتأكيداً على المنظورية التي يعتمد عليها الناقد والتي تعينه كثيراً في معرفة زاوية النظر التي يطل بواسطتها الشاعر على الحدث برمته، ورؤية موقع الحدث بتفاصيلة الدقيقة هي التي مكَّنت الناقد في النهاية من متابعة أحداث الحانة كلها. أي أنه بتعبير نيازي " حصر حاستي السمع والبصر في مكان ضيق حتى يرى ويسمع الجريمة من كثب ". وجد السرد طريقه الى قصائد نزار من خلال هذه المجموعة الشعرية، ثم إمتدَّ وتغلغل في مجموعاته الشعرية اللاحقة. والمتتبع لشعر نزار يعرف جيداً أن أغلب قصائده تتوفر على قصص وحكايات بعضها مفجعة عميقة، وبعضها الآخر طريفة خفيفة الظل. والقصة بطبيعتها كجنس سردي يحتاج دائماً الى بداية، وحدث، وشخصيات، وحوار، وتصعيد درامي، وذروة، ونهاية، ومتلقٍ يسمع الحدث أو يشاهده من مكان ما. كل هذه المعطيات الجديدة أضفت جواً مغايراً على قصيدة نزار التي إنتقلت من شكلها التقليدي " المقموع " الى شكلها المتحرر الحديث الذي يتطلب مناخات جديدة غير مطروقة سابقاً. ومن هنا تأتي أهمية ملاحظة الناقد نيازي الذي تتبع تطوِّر نزار سمعياً وذوقياً وشمياً والذي إنتقل لاحقاً الى مرحلة العطور المصنعة، والإسطوانات المصنعة في الفصل الرابع والأخير قبل أن يعود الى الغابة، رمز البراءة الأولى. توصل نيازي في هذا الفصل الى نتيجة مهمة وهي خلو شعر نزار من التأمل. ويبدو أن عنايته بالثيمات اليومية الخاطفة، إضافة الى نرجسيته الخارجة عن الحد " فكلنا نرجسيون بقدر أو بآخر " هي التي حرَمَتْه من متعة التأمل، والتمثّل، وإطالة النظر في الموضوعات التي يعالجها ويتعاطى معها بإستمرار. لا بد من الإشارة الى أن هذا الخلل الكبير في شعر نزار، وطريقته الإزدرائية الساذجة للمرأة هي التي كشفت عن نذالة وخسة نمط محدد من الرجال، أكثر مما كشفت عن حقارة نمط محدد من النساء اللواتي سقطن في شراك الغواية و فخاخ الخديعة والإغراء. وعلى رغم من كل المثالب آنفة الذكر إلا أن نزاراً ظل متبشثاً بقدسية العمل الإبداعي. فالكتابة بالنسبة إليه هي خلاصه الوحيد في هذا العالم المتشابك حتى وإن لم يوصله الى الصفاء الذهني المرتجى. ويرى نيازي بأن أهمية العالم الإبداعي الذي أخلص إليه نزار إنما تكمن في ثقة الشاعر بالمنحى الفني الذي يستحق أن نفني من أجله سنوات أعمارنا. وفي هذا العالم وحده تتوحد حواس الشاعر، وينسجم عقله الباطن مع " الظاهر " إن صح التعبير. وقد توصل الناقد في نهاية هذا الفصل الى عدد من الخلاصات المنطقية، من بينها تضاؤل عدد المرات التي ورد فيها ذكر النهد عن الدواوين السابقة، كما أن الإشارة اليه في هذا الديوان قد وردت تحت معانٍ إنجيلية وإسلامية. أما الملاحظة الثانية فهي أن إهتمام نزار بالجسد قد ضعف الى درجة كبيرة، وقد تحول هذا الإهتمام الى الملابس التي ترتديها المرأة. بينما تمحورت الملاحظة الثالثة حول إحساس نزار بالخوف من أشياء غامضة كثيرة حتى خالطه الإحساس بأنه طفل صغير بحاجة الى حماية وعناية كبيرتين. وإنطلاقاً من هذه الخشية الغامضة فقد ولج الى عالمه السري المنعزل، إذ تلاشت بعض الأمكنة العامة من حياته كالمقهى وما يتوفر عليه من حميمية، بينما برزت بقوة الحانة التي تشي بالجو العام أو المناخ الرسمي الذي يفتقر الى الأجواء الخصوصية. ومع هذه الخسارة الواضحة التي مُني بها نزار إلا أن الأمكنة قد تحددت لديه، وأصبحت لها جغرافية تشير إليها، وتُحيل الى عوالمها. وربما تتمظهر الخسارة الأكبر لدى القرّاء لأن مادة النص الشعري التي يكتبها نزار تتمحور في الغالب على تجاربه الخاصة بحسب نيازي، فلا غرابة إذاً في أن يمتح الشاعر من خزين ذكرياته. ومن المعروف أن المذكرات لا تتيح للقارئ فرصة المشاركة في الحدث، وإنما تكتفي بأن تضعه في زاوية التلقي السلبي. أما النقطة الجوهرية الأخيرة التي أشار إليها نيازي فهي الألوان التي يستعملها الشاعر كثيراً قد إنتقلت من كونها صفة لأسم أو لحدث الى عنصر مستقل قائم بذاته وهذا ما يعزز حاسة البصر عن الشاعر الرسام.
الإحساس المبكر بالشيخوخة
كشف ديوان " الرسم بالكلمات " إحساس نزار المبكر بالشيخوخة وهو في سن الأربعين. وقد تعمق هذا الإحساس حينما وقف الشاعر على مشارف الخمسين. وعلى رغم من أن الناقد نيازي قد أوضح غير مرة بأن هذه الحالة العصية تحتاج الى طبيب نفساني، أكثر من إحتياجها الى ناقد متخصص، ولكنه تناسى أن خبرته الأدبية، وتجاربه الحياتية الواسعة قد أمدته بمعرفة دقيقة في هذا الجانب. ومنْ يقرأ هذا الكتاب أو غيره من كتب نيازي النقدية سيكتشف من دون عناء كبير بأن هذا الرجل يتوفر على معرفة نفسانية عميقة نأمل ألا يستهين بها. فهو دقيق الملاحظة، وقادر على الرصد والإلتقاط بعين الناقد والمراقب والمتأمل في آن معاً. وهو لا يثير أسئلة فقط، وإنما يقترح حلولاً منطقية محايدة. ويكفي أن نحيل القارئ الكريم الى التناقضات الكثيرة التي وقع فيها نزار، لكنها لم تفلت من عين الناقد المتفحصة. فالوهن الذي شعر به نزار أحالهُ الناقد الى صديقات نزار نفسهنَّ، فهن الوحيدات القادرات على معرفة هذا السر الدفين. وبمقابل هذه الإحالة فإن الناقد قد أجهد نفسه كثيراً لكي يتوصل الى السبب الحقيقي الذي كان يقف وراء عزوف نزار عن جسد المرأة بعد سن الأربعين. وهناك قصائد كثيرة وضعها تحت مشرح النقد والتحليل، وإكتشف من خلالها أن نزاراً كان يعاني من فاجعة حقيقية لم يمر يها شاعر عربي آخر. لذلك فقد بدأ يبحث عن الأمومة والحماية والإنزواء، لأن المرأة التي كان يحبها لم تعد مهتمة به، بل أنها صارت تلتقيه في المقاهي والأمكنة العامة. وتوصل نيازي الى أن نزاراً كان يطيل النظر الى المرآة، ولكن ثقته بنفسه بدأت تتزعزع بعد الأربعين حينما رأى " خيوط العنكبوت " وهي تزحف في طيات شعره. وعلى رغم من " فشله المعلن " الذي كشفت عنه قصائده بصراحة متناهية، إلا أنه ظل يكابر حتى الرمق الأخير، ويغامر في ملئ الفراغ، وتبديد الوحدة بواسطة ذر الرماد في العيون. وحينما شعر باليأس المطلق قرر العودة الى الغابة العذراء من جديد. وقد عزز هذه العودة بالإنتقال من الشعر الذاتي الى الشعر الموضوعي لكي يخفف من وطأة محنته. أما الخطوة الحاسمة والأخيرة فقد " تخلص نهائياً من حاسة اللمس، وهي سره الدفين " مستعيراً اللون والفرشاة والسطح التصويري، الأمر الذي أهلّه لأن يكون الرسام الشاعر أو الشاعر الرسام. تجدر الإشارة الى أنني لم أتوقف طويلاً عند الفصلين الأخيرين لعدة أسباب من بينها. أن الناقد نفسه قد أشار الى تكرار الثيمات في دراساته النقدية الأربع التي نشرها منفصلة في عدد من الصحف والمجلات. أما السبب الثاني فهو خشية الإطالة التي لا يتحملها مقال في صحيفة يومية، والسبب الثالث والأخير هو تحريض القارئ الكريم على إقتناء الكتاب أو إستعارته بغية الإطلاع عليه لأنني شخصياً أعِّده درساً نقدياً يوفر المتعة والفائدة والفهم العميق لمفهوم المنظورية، وتقنية الحواس، وكشف التناقضات والتعارضات اللامنطقية التي وقع فيها الشاعر بقصد أو من دون قصد.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيت بلانشيت . .السمكة الصغيرة التي سقطت في نافذة العنكبوت
- غمامة زها حديد تهبط على ضفة التيمز
- مارك والنغر يفوز بجائزة تيرنر الفنية: عمل يجمع بين المفردة ا ...
- - متاهة بان - للمخرج المكسيكي ديل تورو: تحفة بَصَرية تؤرخ لن ...
- - مئذنة الشعر -. . قراءات نقدية في التجربة الشعرية لباسم فرا ...
- الروائي مجيد خضر الهماشي يستجير من الرمضار بالنار، ويتخذ من ...
- الفنان التونسي لطفي عبدلي: الوسامة وحدها لا تكفي لخلق الجاذب ...
- في شريطه القصير - البغدادي - لميثم رضا: عراقي وبريطانية يتقا ...
- قراءة في الأداء التعبيري لنيكول كدمان في - الموت من أجل . . ...
- حدود الفنتزة في فيلم - لص بغداد -
- المخرج رونالد إيميريش يوحِّد قوى الأرض ضد طواغيت السماء
- المخرج الأمريكي ويْس كرافِن يستوحي - موسيقى القلب - من - عجا ...
- أمجد ناصر وشروط الإستجابة لقصيدة النثر الأوروبية الخالصة
- - غصن مطعّم بشجرة غريبة - مختبر للمقارنة بين ثقافتين وبيئتين
- آن إنرايت . . . ثالث روائية آيرلندية تختطف جائزة البوكر للرو ...
- بيكاسو الرسام الأكثر عرضة للسرقة في العالم
- في معرض كاووش الأخير: نساء فاتنات، وكائنات مُجنَّحة، وأُغنيا ...
- ظلال الليل لناصر بختي: جنيف تُقصي المهاجرين، وتنفي أبناءَها ...
- في مسرحية - ديمقراطية ونص - لأحلام عرب: الرئيس آخر مَنْ يعلم ...
- بعيداً عن بغداد كتاب جديد للفوتوغراف العراقي قتيبة الجنابي


المزيد.....




- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - شعرية نزار قباني تحت مجهر صلاح نيازي: لماذا أحسَّ نزار بالشيخوخة وهو في سن الأربعين؟