أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عدنان حسين أحمد - الروائي مجيد خضر الهماشي يستجير من الرمضار بالنار، ويتخذ من اللغة الإنكليزية منفى له















المزيد.....


الروائي مجيد خضر الهماشي يستجير من الرمضار بالنار، ويتخذ من اللغة الإنكليزية منفى له


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 2154 - 2008 / 1 / 8 - 11:33
المحور: مقابلات و حوارات
    


ينتمي الروائي العراقي مجيد خضر الهماشي الى سرب الكُتّاب العراقيين المنفيين، أو الذين إختاروا المنفى بأنفسهم بعد أن ضاقت بهم مضارب الوطن الفسيحة بفعل الدكتاتورية، والإستبداد، وقمع الرأي الآخر، لكنه وجد نفسه مضطراً الى ولوج " المنفى اللغوي " بوصفه الوسيلة الناجعة لمخاطبة الآخر، وتفهّمه، والوقوف إزائه في المنطقة المشتركة في الأقل. وعلى رغمٍ من الصعوبات المعروفة في الكتابة بغير اللغة الأم قرر مجيد الهماشي أن يستهل مشروعه الأدبي في الكتابة باللغة الإنكليزية مستأنساً لفكرة " النفي داخل لغة أجنبية " بعد أن نفاه القمع السياسي المتطرف في العراق إبان حقبة السبعينات من القرن الماضي. فلم يجد بُداً من الوصول الى ليفربول أول الأمر، ثم الى لندن لاحقاً. لا شك في أن الصدمة العنصرية التي واجهته في ليفربول كانت كبيرة، وغير متوقعة بالنسبة إليه، خصوصاً وأنه يحمل مواصفاتهم الشكلانية ذاتها، فما بالك بذوي البشرات السُمر والصُفر والحنطية؟ إكتشف مجيد حال وصوله وإحتكاكه بالمجتمع البريطاني قبل نحو ثلاثة عقود أنه " كمن يستجير من الرمضاء بالنار " فمن جحيم الإستبداد المُر الى نار العنصرية اللاذعة، هذا ناهيك عن الغربة والإغتراب والحنين الى الوطن المُضاع. وبغض النظر عن الخسائر التي مُني بها مجيد الهماشي على الصعيد الشخصي والعائلي، إلا أنه كسب الرهان في نهاية المطاف، ودخل العقلية البريطانية خصوصاً، والغربية على العموم بواسطة سيرته الذاتية – الروائية الموسومة " من بغداد الى بيدلام: حكاية مهاجر " التي تبنتها " دار الساقي " في لندن، معززة نشرها في سان فرانسيسكو في وقت واحد. صحيح أن هذه السيرة قد إستغرقت الكاتب عقداً من الزمن، وهي مدة طويلة على أية حال، لكن عذر كاتبنا هو أن يبني أُسساً قوية لصرحه الأدبي المرتقب، وأن يضع قدمه على الطريق الصحيحة التي تفضي به الى عالم الإبداع الحقيقي الذي لا يوازي مجده أي مجد آخر. تجدر الإشارة الى أن مفردة " بيدلام " التي وردت في العنوان إضافة الى متن الكتاب بأنها تعني " المصح النفسي " الذي كان يستقبل الجنود البريطانيين العائدين من الحروب المتكررة التي كانت تشنها بريطانيا العظمى في مختلف أرجاء العالم. وتفادياً للإسهاب فإن أحداث هذه السيرة الذاتية – الروائية تدور بين مصحين نفسيين وهما بغداد ولندن، ولا ندري أي منهما قد فقد صوابه قبل الآخر. وفي الآتي إضاءات للمناطق المعتمة التي وردت في حياة الكائن السيري، أو في سيرته الذاتية التي تترجح بين ثقافتين وحضارتين لا يرى الكاتب إمكانية لقائهما أو تقاربهما في الأقل.
*لماذا إبتدأتَ مشروعك الأدبي بسيرة ذاتية- روائية. وهي تأتي غالباً بعد عدد من الكتب
والإصدارات في أجناس أدبية متنوعة؟ لماذا قلبتَ المعادلة رأساً على عقب، وأصررتَ على أن تكون " من بغداد الى بيدلام " هي الركيزة الأولى لتجربتك الأدبية؟
-أنا سعيد بسؤالك هذا، ليس فقط لأنك تقر فيه أنني قلبت المعادلة رأساً على عقب. وهذا ما كنت أتمنى أن أنجح فيه، ولكن أيضا لأنه يدخل في عمق فكرة الكتاب، ويستحق أن أرد عليه ببعض التفصيل. أولاً كان بامكاني أن أكتب قصة خيالية بحتة، أو أن أكتب قصتي نفسها، ولكن باسماء مستعارة، وهذا مايفعله الكثيرون من الكُتابْ، خصوصاً الجُددْ منهم، ولكني اعتقدت أن هذا ترف ليس بامكاني أن أتحمله لأننا فقدنا هويتنا كعراقيين، ويجب أن نسترجعها بواسطة طفرة نوعية في علم مراجعة الذات. كانت عندي أمنية منذ طفولتي وهي أن أكتب رواية خيالية لأنني تأثرت كثيراً بخيال " ألف ليلة وليلة " وخصوصاً " جزر الواق واق "، وكانت هذه هي نيتي بعد وصولي إلى انكلترا، ولكنني إكتشفت شيئاً فشيئاً أن تجربتي في انكلترا هي أغرب في واقعها من الخيال. كنت أفتش عن نفسي من خلال الكتابة بعدما وصلت الى مرحلة من الضياع لم يعد بامكاني معها حتى معرفة من أنا ومن أين أتيت ولماذا؟ دعني أروي لك حادثة طريفة وهي حقيقية 100%. دأبت زوجتي وأهلها وجيرانهم في ليفربول على مناداتي باسم (ماج) تودداً، ولكني كرهت هذا الاسم، ليس فقط لأنه اسم امراة، ولكنه كان اسماً لعجوز بائسة في مسلسل تلفزيوني أسترالي، ووصل بي الأمر الى تهديد زوجتي بالطلاق إن هي استعملت هذه التسمية ثانية، وعندها سألتني عن سبب غضبي، وعن معنى اسم مجيد وأخبرتها بأنه تيمناً بأحد أسماء الله الحسنى، ولكنها صُدمت، ولم تصدق أن أهلي قد اقحموا الله حتى في اسمي، وألحت عليَّ أن أتاكد لأن هذه مسؤولية جسيمة مما جعلني أحس بنوع من الارتباك. وفعلاً فكرت بالموضوع وكتبت الآتي: (من دون جميع الأسماء وقع اختيار والديي على تسميتي بمجيد " كلورياس وان"، ولو كان الامر يرجع لي فلن يكون هذا الاسم خياري الأول، ولكني أعتقد أنهم كانوا يمنّون أنفسهم لكي أكون متواضعا، أو متغطرساً، أو كان تعبيراً عن حبهم لي!). تجربتي في الغربة قاسية جداً، لكن الشيء الغريب أنني وجدت نفسي أتلذذ بالغربة. فكلما شعرت بقساوة الوحدة، كلما أحسست من أني إقتربت من الهدف. الكتابة بالنسبة لي كاالصلاة، نوع من التعبد لكي يقترب الانسان من خلالها لمعرفة ذاته. أنا لا اقصد الصلاة العابرة والتي تتحول الى مجرد عادة لقضاء الوقت، لكن الصلاة التي تعتمد الاخلاص والتركيز والترقب. وهذا هو السبب الرئيسي لمحاولة قلب المعادلة.
*لا شك في أن سيرتك الذاتية- الروائية مكتوبة أصلاً للقارئ الأوروبي والغربي على العموم. يا ترى لماذا قدّمت الخطاب القروي والبدوي أيضاً المتمثل بقرية " المريبي " وأهملتَ الخطاب المديني الذي يتواءم مع روح العصر عند عقدك للمقارنة بين حياتين وثقافتين وحضارتين، الأولى مركزها قرية عراقية، والثانية مدينة ليفربول أول الأمر ولندن في خاتمة المطاف. هل تعتقد أن الكفتين متوازيتان؟ ولماذا لم تتخذ من بغداد موضوعاً للمقارنة الندية مع ليفربول أو لندن؟
-هناك قول جميل جداً للكاتب الانكليزي صموئيل جونسون يتكلم فيه عن حالة الكبرياء عند البشر، وقد نجحت في ترجمة وتطويع معاني ذلك القول لكي يتلائم مع حكاية " سلمان وحصانه " لكن دار النشر رأت أنه يعيق انسيابية الحكاية، وإسمح لي أن أترجم بصورة سريعة ما كتبته: (دعني احكي لك عن الكبرياء. الرجال الأشداء قلما يكون لديهم اصدقاء، سواء في الغنى لانهم لايعرفون أحداً، أو في العوز لأن لا أحد يريد معرفتهم. تعثرت كثيراً في حياتي وعلمتني التجربة. أن سقوط الفارس من حصانه لا يجلب من العطف إلا القليل،
لأن الكبرياء كاالمغناطيس، لا يؤشر إلا الى الذات.) عندما انظر في المرآة لا أرى سوى مجيد الهماشي، ابن المريبي، البدوي، شكلي ربما لا يدل على أنني بدوي، لكن تفكيري وتصرفاتي تبقى بدوية لأنني عربي. في الحقيقة لم يكن لدي رصيد حضاري مشرف في بغداد لكي أستثمره لتقديم نفسي للمثقف الغربي، والذي يعرف حق المعرفة من أن بغداد، كمعظم المدن العربية، تحاول جاهدة إيجاد هوية لنفسها في انتحال الطابع الأوروبي، وهو يعرف حتى لو أن العربي نجح في تقمص بعض المظاهر الغربية فلن يأتي إلا باالدرجة الثانية في أحسن الأحوال. فما الجديد الذي يمكن أن يتعلموه من شخصية (سيكوند هاند). هم يريدوا أن يتعرفوا على روحية العالم العربي، لأنهم بحاجة ماسة الى من يرشدهم الى المُثُلْ العليا لأنهم وصلوا الى مرحلة يصفوها هم بـ(مورال أند سبيريتوال ديكلاين) اليأس الروحي، كما أنهم يريدون أن يعرفوا العربي من خلال ديانته، بداوته، كبريائه، وطرب مجالس الشعر، وكرم طقوس القهوة. مع الأسف الشديد أن المجتمع العراقي بشكل عام، ومجتمع بغداد بشكل خاص كان يتصور أن الحضارة والمدنية تتطلب التخلي عن القيم والمباديء التي ترعرعنا عليها، وكان في بغداد الكثيرون ممن تنكروا لأصولهم لكي يدعوا المدنية. لقد ولدت وترعرعت في قرية " المريبي " وهناك صقلت شخصيتي، وقد حُكِمَ علي هناك الى أن انتقلت الى بغداد لأداء الخدمة العسكرية، حيث مكثت فيها ثلاث سنوات فقط، وللأسف الشديد، لم أشعر بإنتماء حقيقي لها على رغم من بعض الذكريات العزيزة جداً هناك. كنت أبكي كل مرة أترك فيها بغداد وكأني أبكي على ما ينتظرها من بؤس و شقاء. ومع ذلك فقد تكلمت عن تجربتي في بغداد وذكرت الخطاب المديني المتاح لي من خلال مونولوج البعث في الفصل الثاني عشر، وبالمناسبة كنت قد سجلت تلك القطعة وجلبتها معي الى لندن: (. . . دربنا في العلا وحيد طويل، كالأماني وكل نُعمى تطول، وتمر السنون والبعثُ باق، ووراء السنين حلم جميل، فبذور الحياة تكمن فينا، وسيبقى البعث الاصيل الاصيل!) بالله عليك هل تجد أي معنىً في هذا الكلام يدعو للفخر أمام القارىء الانكليزي؟
*تتوفر سيرتك الذاتية – الروائية على لغة سردية سلسة، لكن الخطاب السياسي، والمعلومات التاريخية القارة التي لم تُذوّب تماماً في متن النص تعيق حركة السرد، وتربك تدفقه وجريانه. لماذا لم تعتمد على تقنية إمتصاص المعلومة، وترشيحها، واستثمار خلاصتها قبل أن تزجها في سياقها الإبداعي الأخير؟
-من حقك كناقد أن تقول هذا، لكن عنوان الكتاب يبقى هو ( من بغداد الى بيدلام ) فلماذا تتوقع مني أن أقيِّد نفسي بضوابط ومقاييس تناسب رتابة الآخرين. أنا من سكنة " الشماعية "وتريد مني أن أولي إهتماما لقواعد النحو مع الطبيب لكي يعطيني العلاج اللازم؟ ما يجب أن تعرفه هو أنني ربطت مصيري بمصير العراق، وما الكتاب إلا وسيلة واحدة لكي أعالج قضيتي بها. كعراقي أشعر أنني فقدت كل شيء، ولم أعد أملك سوى التاريخ لكي أدافع عن نفسي، هذا من ناحية أما من الناحية الثانية فإن القارىء الغربي يجد صعوبة بالغة في فهم قضايانا وتاريخنا. نحن بالنسبة إليهم مجرد علامة استفهام كبيرة لا ينفع معها اللف والدوران كما يفعل معظم الاعلاميين العرب، والذي يهمني هو ردود أفعال القرّاء التي أثبتت جدوى إصراري على إخراج الكتاب بهذه الصورة لأن 10 من 10 تقريباً أبدوا إرتياحاً جامحاً للصراحة والشفافية التي عالج الكتاب بها عقدة التاريخ. نعم هناك مجازفة كبيرة في فكرة توظيف التاريخ لخدمة سيرة ذاتية بشكل عام لأنك تصبح أسير أحداث لا تملك السيطرة عليها، لقد خطر صدام ببالي الآن لأنه أصبح يعرف هذه الحقيقة أحسن مني! ربما تكون إشكالية انسياب النص وتدفقه قد ساهمت في رفض الكتاب من قبل عدة دور نشر غربية، لكن هذا كان رهان صمّمت على مقاومته بكل ما أوتيت من عزم وإرادة لكي أثقف القاريء الانكليزي بطريقتي الخاصة، وليس كما يعتقد أستاذ التاريخ البريطاني عن الدور الذي لعبته بريطانيا في كارثة العراق من خلال تجربتي الشخصية سواء في الفصل الثالث، أوالحادي والثلاثين، أو غيره من الفصول، ولكن مثلما ترى بنفس الأسلوب الشعري السلس الذي تحدثت عنه حضرتك.
*إنطلقت في بناء نصك الأدبي من مقولة الشاعر البريطاني روديارد كبلنغ التي تقول بأن " ثقافة آسيا لن تلتقي مع ثقافة أوروبا والأمريكيتين ". كيف تشكلت لديك هذه الرؤية اليقينية التي إستعرتها من كبلنغ؟ ألا تعتقد بوجود مساحة مشتركة بين الثقافات والحضارات؟ وهل يمكن التخفيف من وطأة هذه الإختلافات والتناقضات الحادة بواسطة الحوار والتفاعل والإقناع؟ لماذا لم يستثمر نصك الأدبي منطقة " الإحتمال " ويتفادى الحركة في المنطقة " اليقينية التامة "؟
-لم أستعر شيئاً من كبلنغ. إنها تجربتي الذاتية في ليفربول ولندن. وهناك اشارة واحدة فقط في الفصل الثاني والثلاثين تشير الى يقينية عدم الالتقاء، وحتمية التناقض بين الشرق والغرب من خلال مشهد ( الكريسماس ) بيني وبين زوجتي. وهذه تجربة حية يمكن أن تتفق معها أو لا تتفق. نعم الحوار والتفاعل والاقناع له دور كبير في تقريب وجهات النظر، ولكن ليس أكثر. الأكيد أننا لن نتفق ونصبح أخوة في السراء والضراء لسبب بسيط جداً، وهو أن الخلاف بين الطرفين قديم جداً، وحول كتابين ورأيين طالما حارت العقول النيرة لفهمها. من ناحية يرتكز القرآن على فكرة (القضاء والقدر): بمعنى أن كل عمل نقوم به هو مقدَّر وفي يد الله، "مكتوب" وخارج أيدينا. ومن الناحية الثانية، فإن الإنجيل ينادي بفكرة "الارادة الحرة": الفكرة التي تقول إن بامكان الانسان أن يرسم نصبيه بنفسه، ويتحول بملىء إرادته الى إنسان سوي. لنكن واقعيين، نحن في الشرق، وهم في الغرب. هذه هي الحقيقة لكي لا نضحك على أنفسنا. فاين الملتقى؟
*أتعتقد أن أسباب مغادرتك للعراق منطقية وكافية لكتابة نص أدبي يبرر هروبك من جحيم الدكتاتورية الى وطأة التفرقة العنصرية؟ ما الذي يقوله بقية العراقيين الذين تعرضوا الى محن وفجائع يشيب بها الولدان؟ آخذين بنظر الإعتبار أنك ذكرت سببين رئيسيين فقط للهروب وهما " قص شعرك الطويل من قبل أجهزة الشرطة " و " ضرب المواطن الكردي العراقي على قارعة الطريق في قلب بغداد"؟
-أنني لم أقم بأي عمل يحتاج التبرير. رغبت السفر وسافرت، ولكن بالتأكيد هناك أسباب أخرى، لكنني وجدت من الأفضل أنها تذوب في "متن القصة" بدلاً من إجهارها لأناس لايفقهون الكثير عن تأريخي، وعن روحيتي كمسلم، وهذا ينطبق بالتحديد على الفصل الثالث والذي أذكر فيه بالتفصيل قصة ( الراعي الانكليزي ) وكانت تلك مرحلة تكوين الشخصية. و هناك حكاية شيِّقة أخرى لم أكتب عنها، لكنها ذابت في ذلك الفصل: ( كان عمري إحدى عشرة سنة عندما جاء البعث الى السلطة سنة 1968. وأتذكر جيداً صوت محمد سعيد الصحاف وهو يقرأ البيان رقم واحد يوم 17 تموز. كنت ألعب في شمس ( المريبي ) الحارقة مع إثنين من أخوتي ومجموعة من الأصدقاء. كنا نعرف أن شيئاً مهماً قد حصل من خلال الموسيقى الحماسية ونداءات الترقب الى أخبار سارة. وتمت إذاعة البيان في حوالي الساعة الثانية ظهراً، وكنت أحمل المذياع على كتفي. أكثر شيء استثارني هو أغنية عزيز علي (عِشنا وشِفنا وبعد نشوف، قْرينا الممحي والمكشوف) حيث أُعيد تكرار تلك الأغنية ما لا يقل عن ( )50 مرة في أثناء الثلاث أو أربع ساعات التي تلت قراءة البيان. وكنت أتوسل الى أخي الاكبر رشيد لكي يشرح لي مغزى تكرار الأغنية، لكنه نهرني وقال إنه غير مهم، وفي المساء أعلن الصحّاف من أن قائد الثورة، أحمد حسن البكر، تبرع بمبلغ مئة دينار مكافأة للمغني. وعندها قلت لأخي أنني فهمت المغزى الآن. أن هؤلاء القوم جاءوا ليبقوا، ولن يغادروا السلطة إلا بعد أن يقتلونا جميعا! لقد تركت العراق في نهاية السبعينيات، وكانت تلك الحقبة بمثابة شهر العسل، أو بالأحرى كاد العراق أن يفيض بالحليب والعسل، على الأقل لاؤلئك الذين كانوا ينعمون بحظوة عند الحاكم، ولكني أتفق معك من أن الأسباب التي ذكرتها كانت غير كافية، لكن القارىء الغربي حر والحر تكفيه الاشارة. لقد استقرأت المستقبل من خلال تلك الحوادث التي ذكرتها. وطرت من بغداد بطائرة جامبو معززاً مكرماً، فأين مني أولئك الذين غرقوا في بحر إيجه أو ماتوا عطشاً في صحراء تشاد أملا في الوصول الى ليبيا. ياحسرتي عليهم، يجب ألا ننسى هؤلاء الابرياء، وأتمنى أن يكتب عنهم أهلهم وأصدقائهم الذين لا زالو على قيد الحياة. وهذا جزء مما كنت أؤسس اليه من خلال كتابي. لقد وثَّق اليهود كل تجارب الشتات، وأطلقوا جملة (نيفر اكين) بعد هتلر، أما نحن فلم نصل لحد الآن حتى الى مرحلة الاعتراف بما حصل، ناهيك عن حل المشاكل.
*ما مرجعياتك الأدبية والفكرية في كتابة هذا النص السيري. وما هي الأهداف المعلنة والخفية التي تروم تحقيقها بواسطة هذه السيرة الذاتية- الروائية؟ وهل تركتْ الثقافة الإنكليزية بروافدها المتعددة بصماتها على هذا النص الأدبي، أم أنك مدين لثقافتك العربية والإسلامية على وجه التحديد؟
-أول قراءة جدية لي باللغة الانكليزية كانت كتاب (الاستشراق) للمرحوم أدوارد سعيد، وأتذكر جيداً صدمتي، وشعور الإهانة الذي أصابني بعدما قرأت مقولة كارل ماركس (أنهم لايستطيعون تمثيل أنفسهم، يجب أن يُمَثلوا!) وكان سعيد قد افتتح كتابه بها وقررت وقتها ومن غير رجعة أن أُمَثِلَ نفسي بواسطة الكتابة، وإذا حصل المستحيل، وأدخلت العرب، تلك الامة ممزقة الأطراف، ومقطّعة الافكار، ومتذبذبة الشخصية، معي الى ( بيدلام ) لنتلقى العلاج سوية فيها، وإن كان (المبتّل لا يخاف من المطر)! أنظر الفصل الخامس، صفحة 31. لكن المشكلة أنني لم أتمكن من فهم حتى نصف % من كتاب " الاستشراق " نظراً للأسلوب المعقد جداً الذي اتبعه ادوارد سعيد، وكان الكتاب دراسة أكاديمية بحته بنى الغرب على أساسها معظم سياساته الشرق أوسطية في السبعينيات. كنت أتالّم لعجزي عن فهم الكتاب، لكنني لم أتوقف، وواظبت على قراءته مرات ومرات الى أن تمكنت من هضم السياق العام للكتاب. كان الشخص الذي عرَّفني بأهمية ذلك الكتاب موظف كبير يعمل في وزارة الخارجية البريطانية. وقد أكد لي قائلاً: إذا تمكنت من استيعاب ذلك الكتاب فلن يستعصي عليَّ فهم أي كتاب آخر، وقد كان صادقاً. قرأت بعدها تاريخ العراق القديم والحديث في سيارتي وخلال العمل من مصادر عديدة، وبعدها درست بصورة مستفيضة تاريخ الإسلام في الاندلس، ولكن الطفرة النوعية حدثت لي في الدراسة الخارجية والمراسلة مع جامعة ( نيوكاسل ) حيث يتواجد أرشيف العراق الحديث وجميع رسائل المس بيل. أنا شغوف جداً باسلوب صموئيل جونسون، وقد قرأت تقريبا معظم أعماله، وأحفظ له الكثير عن ظهر قلب. كما كان لكتاب خليل جبران (النبي) وقع خاص في قلبي عندما قال: " ألم تسمع عن ذلك الرجل الذي نبش الأرض بحثا عن جذور فوجد كنزا؟" إنني في المنفى، وكما قال الاستاذ مالك حداد أن (الفرنسية منفاي) كذلك أنا أصبحت اللغة الانكليزية منفاي أيضاً. للأسف الشديد أن لغتي العربية لم تعد ملكاً لي لأن الحاكم ورجل الدين استباحها لمصلحته، وأكرهني على إستعمال لغة أخرى للتعبير عن رأيي. لقد كانت لي قدوة حسنة في محاولة إتباع أسلوب القرآن الكريم بعدم الإطالة والتركيز على معنى المفردة، ثم الجملة، ثم المعنى الشامل للقصة.
*ثمة بصمات يمكن تلمسها في النص السيري للكاتب البريطاني نوئيل دابو، ولزوجتك التي إنتقت عنواناً دالاً للكتاب. هل لك أن تتحدث لنا عن طبيعة هذا التعاون المشترك الذي أسفر عن ولادة هذا الكتاب السردي القيّم؟
-نوئيل دابو لم يكن كاتباً بالمعنى التقليدي. كان اختصاصه الموسيقى، وكنت قد تعرفت عليه من خلال عملي كسائق تاكسي. لقد كانت تلك المهنة بمثابة هدية من السماء، حيث مكنتني من اختيار أرقى الطاقات الابداعية، وكان نوئيل أبرز هذه الطاقات لأنه زودني بمصادر أدبية نادرة، وأشرف بشكل فعّال على مراجعة، وتحرير كتاباتي، وشاركني أيضا بكتابة الفصول المتعلقة بمدينة ليفربول نظراً لمعرفته بطبيعة مجتمعها الغريب. ومما زاد من علاقتنا كونه وأخيه زملاء للمرحوم الملك فيصل الثاني خلال أيام الابتدائية في مدرسة هارو. لقد كانت علاقة حميمة جداً حيث كنا نكتب عندي في البيت، وأمضينا أوقاتاً جميلة للغاية، وكذلك أوقاتاً عصيبة بسبب اختلاف وجهات النظر في عدد من الموضوعات، وكيفية تحريرها، واخراجها بالشكل المطلوب. أما زوجتي فانها لا تمتلك أي تحصيل علمي يذكر، لكنها تقرض الشعر بالفطرة، وكحال النساء بشكل عام لديها بديهية رائعة في انتقاء الأشياء، كاختيارها لي على سبيل المثال! لقد عثرت على عنوان الكتاب مصادفة عام 1998. بعد تلك الحادثة الطريفة المشار اليها في الفصل الثالث والعشرين، وكيف تحول منزل أختها ساندرا الى بيدلام حقيقي بسبب مشكلة إختلاف الثقافات، لكنني اتفقت معها فور سماعي ذلك العنوان لسببين، الأول هو خفة وقعه على مسامع الانكليز، وثانياً بسبب ثقتي المطلقة من أن بغداد مرشحة لتصبح بدلام ما بعده بدلام. وأود أن أحيطك علماً بأن كلا ولديَّ، عباس وجاسم يجيدان كتابة الشعر بطلاقة,، خصوصاً ابني الأصغر جاسم، حيث كتب أخيراً قصيدة رائعة مستنبطة من واقع العراق كجزء من التحضير لمسرحية ( هاملت ) التي سوف يقوم باخراجها في الامتحان النهائي بعد بضعة شهور.
*هل إطلعت على سير ذاتية- روائية عراقية أو عربية أو أجنبية قبل أن تشرع في كتابة نصك السيري؟ وكيف تنظر الى هذا الجنس الأدبي الذي يتراسل مع بقية الأجناس الأدبية الأخرى؟
-إنني أقرأ الآن سيرة الأستاذ الكبير صلاح نيازي ( غصن مطعم بشجرة غريبة) ووجدتها تشفي الغليل بدقتها وتفاصيلها. وقد حالفني الحظ أخيراً بلقاء الأستاذ صلاح وسألته عن شجرة العنوان (هل تقصد شجرة الناصرية الخبيثة؟) وكعادة الكبار كاد أن ينفجر من الضحك قبل أن يخبرني عن دلالة العنوان! ماعدا ذلك، كانت أول وآخر سيرة ذاتية عراقية قرأتها في لندن للسيد خالد قشطيني (جدتي وأنا) وهي أيضاً سيرة روائية سردية الى حد ما، لكنني قرأت أيضاً عدداً لا بأس به من السير والمذكرات لشخصيات انكليزية مثل ( مذكرات ونستون تشرتشل ) و (هنري كيسينجر ) و ( مارغريت ثاتشر ) وشخصيات إعلامية أخرى.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفنان التونسي لطفي عبدلي: الوسامة وحدها لا تكفي لخلق الجاذب ...
- في شريطه القصير - البغدادي - لميثم رضا: عراقي وبريطانية يتقا ...
- قراءة في الأداء التعبيري لنيكول كدمان في - الموت من أجل . . ...
- حدود الفنتزة في فيلم - لص بغداد -
- المخرج رونالد إيميريش يوحِّد قوى الأرض ضد طواغيت السماء
- المخرج الأمريكي ويْس كرافِن يستوحي - موسيقى القلب - من - عجا ...
- أمجد ناصر وشروط الإستجابة لقصيدة النثر الأوروبية الخالصة
- - غصن مطعّم بشجرة غريبة - مختبر للمقارنة بين ثقافتين وبيئتين
- آن إنرايت . . . ثالث روائية آيرلندية تختطف جائزة البوكر للرو ...
- بيكاسو الرسام الأكثر عرضة للسرقة في العالم
- في معرض كاووش الأخير: نساء فاتنات، وكائنات مُجنَّحة، وأُغنيا ...
- ظلال الليل لناصر بختي: جنيف تُقصي المهاجرين، وتنفي أبناءَها ...
- في مسرحية - ديمقراطية ونص - لأحلام عرب: الرئيس آخر مَنْ يعلم ...
- بعيداً عن بغداد كتاب جديد للفوتوغراف العراقي قتيبة الجنابي
- الفنان جمال بغدادي: أشبِّه الأصوات الجميلة بالورود، ولكل ورد ...
- الفنان جمال بغدادي: أشبِّه الأصوات الجميلة بالورود
- الروائي برهان الخطيب ل - الحوار المتمدن -: لم أخرج بعيدا عن ...
- الدورة السابعة لمهرجان الفيلم العربي في روتردام
- في - عرس الذيب - لجيلاني السعدني: تنجو الذئاب القوية، فيما ت ...
- المخرج هادي ماهود في فيلمه الجديد ليالي هبوط الغجر


المزيد.....




- مشتبه به في إطلاق نار يهرب من موقع الحادث.. ونظام جديد ساهم ...
- الصين تستضيف محادثات بين فتح وحماس...لماذا؟
- بشار الأسد يستقبل وزير خارجية البحرين لبحث تحضيرات القمة الع ...
- ماكرون يدعو إلى إنشاء دفاع أوروبي موثوق يشمل النووي الفرنسي ...
- بعد 7 أشهر من الحرب على غزة.. عباس من الرياض: من حق إسرائيل ...
- المطبخ المركزي العالمي يعلن استئناف عملياته في غزة بعد نحو ش ...
- أوكرانيا تحذر من تدهور الجبهة وروسيا تحذر من المساس بأصولها ...
- ضباط وجنود من لواء المظليين الإسرائيلي يرفضون أوامر الاستعدا ...
- مصر.. الداخلية تكشف ملابسات مقطع فيديو أثار غضبا كبيرا في ال ...
- مصر.. الداخلية تكشف حقيقة فيديو -الطفل يوسف العائد من الموت- ...


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عدنان حسين أحمد - الروائي مجيد خضر الهماشي يستجير من الرمضار بالنار، ويتخذ من اللغة الإنكليزية منفى له