أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زهير دعيم - عُشُّ السُّنونو














المزيد.....

عُشُّ السُّنونو


زهير دعيم

الحوار المتمدن-العدد: 2193 - 2008 / 2 / 16 - 10:28
المحور: الادب والفن
    



المساء هو المساء!فبالأمس فقط أحببتُ هذا الشارع المضيء في قلب المدينة , وأحببت ألنأمة الصادرة عن كلّ عابر تحت شُرفة بيتي...وعشقتُ تلك الظلال البعيدة المُمتدة من شجرة صفصاف عتيقة .
لستُ انكر أن هذا العشق جاء مُتأخرًا , فالقرية تُعشّش في كياني ووجودي , ..أبدًا أحببتها وذُبتُ جوىً بزيتونها وبيدرها وطابونها وإنسانها, ولكن الأيام مرهم للجرح تداوي وتكاد تُنسيكَ ملعب الصِّبا وعروسًا بريئة تحمل اضمامةً من حبق وتركض خلف النورج.
الأنوار هي الانوار , والشّارع هو الشارع نفسه, والشُّرفة ذاتها , فما بالي أرى الشارع باهتًا هذه المرّة والمارّين غُرباء والظلّ شبحًا .
أطفالي في الغرفة الاخرى يسرحون ويمرحون , أكاد اسمع فُتات كلماتهم ...سأقفزُ غدًا على ظهر جدّي ...لا سأقفزُ أنا وسيحملني معه الى الوادي , فتنبري أمل قائلة : "أنسيتم أنني حفيدته الوحيدة وعلى اسم زوجته, سأكون أنا التي ترافقه في شوارع القرية والفرحة تغمره!!...واتنهّد أنا ...أين حِصتي يا أولاد ؟ ماذا تركتم لي من أبي؟!
ويظهر أني قلتها بصوت مسموع رنَّ في اذن زوجتي وهي قادمة تحمل فنجانًا من القهوة .
- هو لكَ يا رئيف مثلما هو لنا ...انه بركتنا
- ايه...صدقتِ انه بركة كباقي العتاق المنغرسين في الارض , نعم يا هُدى , صدّقيني إنني أعتزُّ بذاك الجيل الذي لا يعرف غير الحجر والزّهر والشّحرور والشّهامة.
- والمدينة أين ذهبَتْ ؟
- سراب ..طِلاء ..كاعب حسناء
- سامحكَ الله , انّكَ تتجنّى يا رجل .
- عُذرًا فربما ما زلْتُ فلاحًا كما كنت من قبل , كنتُ اتضايق يومها من هذه الكلمة (فلاح), كنْتُ أمقتها لو تعلمين , وأتظاهر بالأصالة في التمدّن , وأتكلّف ما لستُ اتقن !!
وضحكت زوجتي , امّا أنا فارتشفتُ قهوتي ورحتُ أغوص في ذاتي اسابق الوقت وأتخيّل والدي بسرواله الاسود يُدلّل وُريقات الدالية , ويُحنّي يديه بتراب الكرم , انّه الأصيل حسب شريعة والدي ....واستفقت على صوت زوجتي , أين ذهبت , عُدْ لنا .
وكانت البسمة ما زالت مُعلّقة على شفتيها , ما الذي يُضحكها ابنة بائع الفلافل , أما زالت تتذكّرني وأنا احاول جاهدًا أن أستعمل السّكّين في أثناء وجبة الغَداء فخانتني يداي!!..تصببت عرقًا وخجلاً وقتها , ولعنت القرية والفلاّح ومن فيها , والآن اندم على تلك اللعنة , وعُدْتُ كما كُنتُ "افصفص"الدّجاج بيدي ّ وما عاد يهمّني أن الفت النظر , بل انني اعتزّ بخشونتي! وليقُل ساكن الشارع المضيء في قلب المدينة ما يقول!!.
أعرف تمامًا أنّ عهد الطابون في قريتنا قد انطوى منذ زمن بعيد , وأنطوت معه أشياء كثيرة , ولكن الذي لا ينقضي هي شريحة البشر هناك , فهُم من طينة لا تعرف الخداع والتكلُّف , بل تطرب للسنونو مثلما تطرب للميجانا, وتسكر من ماءٍ زُلال ٍسحَّ من مِزراب السطح , وتثمل من كأس عرق آنس قصاع التبولة !!
سقى الله تلك الأيام , جملة ما انفكّ يُردّدها والدي على مسمعي, في كلّ مرةٍ أزوره , ثمّ يتنهّد مُتذمّرًا من هذا الجيل , الذي نفَضَ يديه من كُلّ شيء مُقدّس , وترك الثعالب تعيث فسادًا في الكروم , انه يتألم والسنوات تزيد من ألمه , والحوادث تقضّ مضجعه.
"لا أرى في الافق وميضًا يا بنيّ " يقولها ودمعة حيرى تترقرق في عينيه , ويحاول أن يخفيها.. ثم يتابع " رعود أيامنا وثلجها غير هذه الرعود والثلوج يا رئيف , كانت بركة .
وأنْفَلِتُ من الذكريات وأعود لفنجاني وشُرفتي والشارع المُضيء الباهت .

******
لم نكد نصل زيتون القرية حتّى هلّل الأطفال تهليلا , ورُحت أنا بدوري اتذكّر لهم أسماء المواقع , فهذه "الخلّة "وتلك "الخِربة"وذاك تلّ الشهيدة , فهناك قبل ستين سنة أطلق الجنود النار على امرأة حامل من الحارة البعيدة , كانت عائدة من الحصاد حسب رواية أبي .
وصلنا القرية, وانعطفنا الى الشارع الجانبي الموصل الى بيتنا العتيق والكرم , فلم نقع لأحد على أثر , وراح الأطفال يبحثون عنه فوجدوه غافيا تحت الخروبة الأزلية , فأيقظوه فقام ضاحكا على غير عادته , فقد كان يُجن حين يوقظه احد من نومه ..يريد ان يشبع نومًا كان يقول !!
ضحك والدي , ونادرا ما رأيته يفعل ذالك كما يفعل الآن , ماذا حدث لهذا الفلاح الغليظ!!
وعانقنا واحدا واحدا وقبل حفيدته أمل قائلا ً : " ارى فيك يا أمل,
أمل الكبيرة الراحلة الى السماء , ارى فيك تلك التي احتملتني واحتملت العذاب والشقاء , وماتت وهي تُصلّي لنا جميعا ..
ومر سرب من الطيور المهاجرة فوقنا , فانشرح صدر والدي وقال انظروا هذه الطيور الجميلة العائدة الى أوطانها , ألا ترون معي انها جميلة يشدّها الشوق ..ثم امسك بيدي وقادني الى داخل البيت العتيق .....انظر يا رئيف , منذ ان رأت عيناي النور والسنونو تعشّش على جسر هذا البيت , وتُربّي صغارها جيلا بعد جيل , ولطالما أطربتنا الى ان جاء موسم بُعيد وفاة المرحومة امك بايام, فلم نجدها , هجرت العشّ وأضحى الجسر أطلالاً...ومرّت السنوات والسنونو بعيدة , بعيدة ..الى أن جاء نيسان الماضي فاستيقظت على زقزقة أعهدها ...نعم بنته من جديد يا ولدي , بنته من جديد وزرعت معه في قلبي أملاً جديدا ..
وسحّت دمعتان غمرتا ابتسامته المنحوتة على ثغر التاريخ ..

امّا أنا فعُدْت مع السنونو !!ّ!



#زهير_دعيم (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسالة الى مُنتحِر
- كذا أنا (2)
- الذي لا ينام
- هل انقسمَ المسيح ؟
- وطني
- بلادي تتزيّن بالمصريين
- كَيْفَ ؟
- مَريَم ...نوَّرتِ مصر
- ألأقباط هذا الشّعبُ الحيّ
- الحُبُّ أقوى
- أعطنيها
- بائِعةُ الورد
- عامٌ جديدٌ وأملٌ جديدٌ
- المجد لله في العُلى
- بابا نويل ومحمود الصغير
- ما بين بيت لحم واورشليم
- الوقت من ذَهَب
- الراعي الصالح
- قصص قصيرة جداً
- لا تبعدي


المزيد.....




- جو بايدن يقتحم موقع تصوير مسلسل شهير أثناء مطاردة الشرطة (صو ...
- باللغة العربية.. موسكو وسان بطرسبورغ ترحبان بالوفد البحريني ...
- انهيار منزل الفنان نور الشريف في السيدة زينب.. وابنة تعلق! ( ...
- كيف أعاد شفيق البيطار بادية بني سعد إلى البيوت بلغة عربية فص ...
- قتلى أو شهداء أو ضحايا؟ عن مفهوم التضحية ما بين اللغة والفلس ...
- الرواية بين المحلية والعالمية.. علامات من الرواية الأردنية
- خامنئي يبث رسالة باللغة العربية: لن نساوم الصهاينة أبدا ويجب ...
- خامنئي يبث رسالة باللغة العربية: لن نساوم الصهاينة أبدا ويجب ...
- حضور لافت للسينما العراقية في مهرجان عمان السينمائي
- إستذكار الفنان طالب مكي ..تجربة فنية فريدة تتجاوز كل التحديا ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زهير دعيم - عُشُّ السُّنونو