لوح القَدَر الرقمي


حميد كوره جي
الحوار المتمدن - العدد: 8572 - 2025 / 12 / 30 - 11:39
المحور: الادب والفن     

"هل يمكن للبيانات الرقمية أن تنبض بالحنين؟" سارة، مهندسة المعالجة العصبية التي ظنت أنها نجحت في فك ارتباطها بماضيها المثقل بالأتربة، تجد نفسها فجأة وجهاً لوجه مع حقيقة مذهلة: "اللغة لا تموت، بل تغير جلدها فحسب". في قبو مظلم بقلب السويد، تكتشف أن كل سطر كود تكتبه بمثابة صرخة من "أوروك" القديمة. رحلة سريالية في اللاشعور الجمعي، تبحث فيها بطلة القصة عن نقطة التقاء بين برودة التكنولوجيا ودفء طين بابل.




لوح القدر الرقمي

الفصل الأول: النجاح المغترب
انتهى يوم العمل الأخير في "مركز ستوكهولم للذكاء الاصطناعي" قبل عطلة الميلاد. خرجت سارة وهي تشعر بنشوة الانتصار؛ فقد تم تعيينها رسمياً "مهندسة معالجة عصبية"، وهي مهنة مرموقة لا يفهم والداها المهاجران من العراق حتى اسمها. بالنسبة لهما، هي مجرد فتاة "تجلس خلف الشاشات"، وكان حلمهما دائماً أن يراها طبيبة أو محامية، إذ لا يستوعبان موهبتها ومهنتها الراقية التي كانت بالنسبة لسارة جسراً بنته بجهدها لتربط بين هويتها السويدية وجذورها الرافدينية. كانت سارة قد نجحت في فك شفرة خوارزمية معقدة، وهي تحمل هذا النجاح في حقيبتها كأنه "لوح قدر" بابلي حديث.
الفصل الثاني: نداء الأرشيف
بينما كانت سارة تغرق في قيلولة ثقيلة في شقتها، رن هاتفها برقم غريب. المتحدث كان "ليون"، المسؤول عن الأرشيف المحصن.
-"سارة، لقد وصلت "البوابة العصبية". لقد حجزتِ استعادة ذاكرة بابل منذ أمد بعيد، ألا تريدين رؤية الحقيقة؟".
كان صوت ليون مشروخاً، يشبه حفيف سعف النخيل اليابس. تذكرت سارة أنها طلبت جهازاً يعالج البيانات التاريخية لتبهر والديها، لعلها تجد في الأرقام ما يرمم صلتها بهويتها المفقودة. ارتدت معطفها وهرعت إلى المركز وسط صمت سويدي مطبق.
الفصل الثالث: في زقورة البيانات

عندما دخلت سارة القبو، لم تعد الجدران مجرد رفوف خرسانية، بل بدت وكأنها كُسيت بآجر بابل المصقول. كانت الإضاءة تخبو وتسطع مثل شموع في معبد قديم، وصور الكتابات المسمارية تومض على الشاشات كأنها شيفرات أزلية لا تقبل المحو. على الكرسي خلف المنضدة، لم يكن "ليون" مجرد موظف، بل بدا كأنه حارس البوابة "هومبابا". استدار ببطء، وكان وجهه قد استحال إلى لوح طيني مشقق، تتسرب منه "أيقونات رافدينية" لآلهة منسية، وعيناه غائرتان كأنها محاجر تماثيل "سومرية".
الفصل الرابع: ترانيم السليكون والطين

تقدمت سارة، خطواتها فوق الأرضية الرخامية لم تعد تصدر صوتاً، بل غوصاً خفيفاً كمن يمشي فوق طمي خلفه انحسار الفرات. قالت بصوت يرتجف بين الكبرياء والخوف:
– "ليون.. هل حبسنا الأبدية في رقائق السليكون؟ أم أننا نؤرشف موتنا فقط؟"
استدار الكائن. لم يكن ينظر إليها بعينين، بل بوهج "بكسلات" زرقاء تتداخل مع شقوق طينية قديمة. لم يتحدث بلسان، بل بدا صوته كأنه تداخل ترددات إذاعية قديمة مع حفيف سعف النخيل:
– "الأبدية يا سارة ليست مخزناً للبيانات.. إنها التكرار. انظري إلى كود البرمجة الخاص بكِ، ألا تلمسين فيه أصابع الكاهن الذي نقش أول حرف مسماري؟ هو لم يكن يكتب عقداً تجارياً، كان يحاول منع اللحظة من الانفلات. وأنتِ.. أنتِ لا تبنين جسراً، أنتِ تحاولين العودة إلى ضفة لم تغادريها قط."
رفعت سارة يدها لتمسح وجهها، فبدت أصابعها على الشاشة الكبيرة خلفها كأنها ظلال أجنحة "ثور مجنح". صرخت:
– "لكنني اخترعت لغة جديدة! تجاوزت بها غبار التاريخ."
ضحك الكائن، وكان ضحكه يشبه انكسار الزجاج في بئر عميقة:
– "اللغة لا تموت، هي فقط تغير جلدها. كل صفر و واحد في خوارزميتك هو نبضة قلب لأسلافك الذين ماتوا وهم ينظرون إلى النجوم في أوروك. أنتِ لا تبرمجين مستقبلاً، أنتِ فقط تعيدين ترتيب الحنين."
الفصل الخامس: الانهيار والتحول
هجم الكائن عليها، وشعرت سارة بيدين تمسكان بعنقها كأنها أغلال بابلية، وبدأ وجهها يغوص في داخله. أحست بآلام تمزق كيانها وكأن "تيامات" تلتهم وعيها السويدي. لكن في تلك اللحظة، لم تشعر بالألم فقط، بل بتدفق ذكريات لم تكن ملكاً لها؛ رأت وجوهاً من حضارات شتى تطفو فوق القار الأسود، وأدركت أن "الجهاز" لم يكن فخاً، بل مرآة أرتها أن جرحها الشخصي ليس إلا قطرة في محيط الوجع البشري المشترك.
الفصل السادس: العودة إلى "البيت"
استيقظت سارة على رنين هاتفها، كانت لا تزال مستلقية في شقتها، ولا تدري إن كانت قد عادت من الأرشيف أم أنها لم تغادر أريكتها قط. كان ضوء الصباح السويدي الشاحب يتسلل من النافذة، لكنها شعرت بحرارة غريبة في راحة يدها، كأنها كانت تقبض على جمرة أو حفنة رمل دافئة.
نظرت إلى شاشتها، كان المتصل "أمي". أجابت سارة بصوت متهدج: "نعم يا يُمَّه؟"
جاءها صوت والدتها، مشحوناً بلكنة عراقية دافئة: "سارة حبيبتي، حلمت بكِ الليلة.. رأيتكِ تمشين على الماء في مكان قديم جداً. هل أنتِ بخير؟ هل أتعبكِ الجلوس خلف تلك الشاشات؟"
نظرت سارة إلى شهادة مهندسة المعالجة العصبية المعلقة على الجدار. لم تعد تراها مجرد ورقة إثبات جدارة، بل استمراراً للوح الطيني الأول. رأت في الحروف والرموز المعقدة امتداداً لوشم قديم على يد جدتها، وخيطاً خفياً يربط "عقل الآلة" بـ "قلب بابل".
– "أنا بخير يا أمي.. بخير جداً. الآن فقط فهمت ما أفعل. أنا لا أجلس خلف الشاشات كما تظنين.. أنا أرمم ألواح القدر التي ضاعت منا."
سكتت الأم قليلاً، ثم قالت بنبرة هادئة: "بارك الله بكِ يا ابنتي.. المهم ألا تنسي أن طيننا واحد، مهما بردت البلاد."
أغلقت سارة الهاتف، وخرجت إلى صقيع ستوكهولم وهي تشعر أنها تحمل في داخلها زحام بابل وهدوء الشمال، متصالحة مع حقيقة أن روحها ليست إلا حلقة في سلسلة لا تنتهي، وأن كل كود تكتبه هو رسالة حب مشفرة إلى زمن لن يموت.