تعديل الماركسيين الجدد لرؤية انجلز للزواج
حميد كوره جي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8570 - 2025 / 12 / 28 - 16:15
المحور:
العلاقات الجنسية والاسرية
يعتبر فريدريك إنجلز أن الزواج ليس علاقة روحية ثابتة، بل هو بناء اجتماعي يتغير تبعًا لتطور الأنظمة الاقتصادية. في كتابه "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة"، يربط نشأة الزواج الأحادي ببزوغ الملكية الخاصة، حيث ظهرت الحاجة لضمان انتقال الثروة إلى الأبناء الشرعيين، مما أدى إلى تقييد حرية المرأة، وهي الخطوة التي وصفها بـ "الهزيمة التاريخية للجنس الأنثوي".
يميز إنجلز بوضوح بين نوعين من الزواج: الأول هو الزواج البرجوازي الذي اعتبره مجرد "مهزلة" ومؤسسة قانونية تسعى لجمع الثروة، حيث يغيب الحب وتحل مكانه المصالح المادية، ما يجعل المرأة تتحول إلى "خادمة كبرى" داخل المنزل. والثاني هو علاقات الطبقة العاملة، التي يرى أنها أكثر صدقًا لأنها بعيدة عن هوس الميراث الكبير، وتعتمد على "الحب الجنسي الفردي" والارتباط الحر، وهو ما انعكس في حياته الشخصية.
تعرَّض هذا التصور المادي لانتقادات جوهرية من عدة تيارات فكرية. فالليبراليون يعارضون اختزال الزواج في البعد الاقتصادي ويؤكدون أنه عقد مدني يقوم على إرادة الأفراد وحرياتهم الشخصية، بدلاً من أن يكون مجرد انعكاس لصراع الطبقات. من جانب آخر، ينتقد الاتجاه الحداثي اعتماد إنجلز على بيانات أنثروبولوجية قديمة، مشيرًا إلى أن النظام الأبوي وسلطة الرجل تمتد جذورهما إلى عوامل نفسية وبيولوجية وثقافية ربما تكون أعمق وأقدم من ظهور الملكية الخاصة بحد ذاتها. أما من وجهة النظر الروحية المناقضة لإنجلز، فتعتبر الرؤية المسيحية الزواج سرًا مقدسًا ووحدة روحية تتجاوز الحدود المادية والمصالح، ليكون بذلك في تناقض مباشر مع التفسير المادي البحت.
الماركسية الجديدة: تطوير النص لا تقديسه
لم يتوقف الماركسيون الجدد، مثل ممثلي مدرسة فرانكفورت والمفكرين من التيار النسوي الاشتراكي، عند تحليل نصوص إنجلز بشكل ثابت أو تقليدي، بل سعوا إلى تطوير هذه النصوص لتتناسب مع التحديات الجديدة التي واجهتهم، خاصة ما يتعلق بمعالجة مفهوم "الاختزال الاقتصادي". ولتحقيق ذلك، أقدموا على تسييس قضايا كانت تُعتبر مجالات هامشية في الدراسات الاقتصادية التقليدية، مثل العمل المنزلي. وقد برزت في هذا السياق أفكار سيلفيا فيديريتشي التي قدمت تحليلاً جديداً لدور الزواج في تعزيز النظام الرأسمالي عبر ما وصفته بـ"العمل المجاني" الذي تؤديه المرأة من خلال أدوارها في إعادة الإنتاج الاجتماعي. طالبت فيديريتشي بالاعتراف بالقيمة الاقتصادية لهذه الأعمال التي غالباً ما يتم تجاهلها.
وفي إطار تطويرهم للفكر الماركسي، رأى الماركسيون الجدد أن مفهوم "الحب الرومانسي" قد يُستخدم أحياناً كوسيلة لإضفاء طابع جذاب أو مقبول على أنماط الاستغلال المادي القائمة في العلاقات العائلية. كما اعتبروا أن الأسرة تُمارس دوراً باعتبارها "جهازاً أيديولوجياً" يُعنى بغرس قيم الطاعة والانصياع في نفوس الأجيال الجديدة، مما يساهم في ترسيخ الهياكل الاجتماعية والاقتصادية القائمة. وأقروا من جهة أخرى بأن سلطة الرجل ضمن إطار الزواج قد تستمر حتى في حال حدوث تغيرات جوهرية في النظام الاقتصادي، وهو ما يجعل الكفاح من أجل التحرر الثقافي ضرورياً ومكملاً للنضالات الاقتصادية. هنا تتبدى الحاجة إلى معركة ثقافية مستقلة تهدف إلى تفكيك هذه النظم الأبوية وتعزيز المساواة في سياقاتها الاجتماعية والرمزية.
النموذج الاسكندنافي
تعد دول شمال أوروبا، مثل السويد، نموذجًا حديثًا لتطبيق هذه الأفكار، حيث تمكنت من المزج بين استقلالية الفرد الليبرالية والمسؤولية الاجتماعية الاشتراكية. فجسدَت ذلك عبر سياسات مثل "إجازة الوالدية المشتركة" و"النظام الضريبي الفردي" و"توفير الرعاية الشاملة"، ما أسهم في تحرير الزواج من أي طابع مادي استغلالي، ليصبح بذلك عقدًا يجمع بين أفراد أحرار، مقتربًا من فكرة "الارتباط الحر" التي دعا إليها إنجلز.
وباختصار، لا يمكن النظر إلى أفكار إنجلز بشأن الزواج كمجرد عقيدة جامدة، بل كأداة تحليلية قادرة على الكشف عن تداخل "الاحتياجات المادية" مع "المشاعر الإنسانية". وتستمد تلك الأفكار قوتها من مرونتها وقدرتها على مواكبة التطورات؛ فالفكر الماركسي الحقيقي اليوم هو الذي يقرأ منظومة الزواج دراسيًا في سياق التحولات التي أوجدها العصر الرقمي ودولة الرفاه، مشددًا على أن تحرير الإنسان يبدأ بتفكيك كافة أشكال السيطرة، سواء كانت اقتصادية أم ثقافية.
وفي هذا السياق، تنظر المدرسة الماركسية الجديدة، التي تستوحي جذورها من فكر إنجلز، إلى "الحب الرومانسي" ليس فقط بصفته عاطفة إنسانية بحتة، بل كأداة اجتماعية ذات تأثيرات اقتصادية عميقة تشكل بنية الأسرة وتؤثر على النظام الرأسمالي ككل.
"الحب" كغطاء للعمل غير المأجور (الإنتاج الاجتماعي)
ترى النسويات الاشتراكيات، مثل سيلفيا فيديريتشي، أن مفاهيم مثل "الحب" و"التضحية" تُستغل لتبرير قيام النساء بآلاف الساعات من العمل المنزلي المجاني. عوضاً عن المطالبة بحقوق مالية أو اعتراف مادي بدورهن في إدارة البيت وتربية الأطفال، تُقنع النساء بأن هذا الجهد جزء طبيعي من "حبهن الحقيقي". هذه الفكرة تُجنب النظام الرأسمالي والحكومات دفع تكاليف هائلة على خدمات الرعاية والتنظيف والطهي التي ينتجها العمل المنزلي.
أما الماركسيون الجدد، فيرون أن الرأسمالية قد حولت الحب الرومانسي إلى سلعة بطرق تؤدي إلى جعل الأسرة وحدة استهلاكية مفرطة. إذ أصبح التعبير عن الحب مرتبطاً بقدرة الشريك على شراء المنتجات (مثل الهدايا، حفلات الزفاف الفاخرة، أو المنازل في مناطق مرموقة). هذا التوجه يزيد من الضغوط الاقتصادية على العائلات، حيث أصبحت النفقات المادية مقياساً لنجاح العلاقة، ما يخدم بشكل مباشر المصالح الرأسمالية ويغذي منظومة الإنتاج والاستهلاك.
وفقاً لتحليل مدرسة فرانكفورت، الأسرة المبنية على مفهوم "الحب الرومانسي" التقليدي تُسهم في تشكيل وعي زائف لدى الأفراد. فالعائلة النووية تُحجم الفرد داخل "شرنقة" عاطفية ضيقة، مما يقلل من انخراطه في القضايا الاجتماعية والاقتصادية الكبرى. بالتالي، يصبح اهتمام الشخص مقتصراً على تحقيق الرفاهية لشريكه وأطفاله، وهو أمر يعزز النزعة الفردية الاقتصادية ويُضعف روح النضال الجماعي والتضامن العمالي.
من جهة أخرى، ذكر إنجلز أن "الحب الجنسي الفردي" الحقيقي لن يزدهر ما لم تُرفع الضغوط الاقتصادية. فالعديد من الأزواج اليوم يجدون أنفسهم مجبرين على الاستمرار في علاقات غير سعيدة لأسباب مالية محضة، مثل المشاركة في الديون، السكن المشترك، وتكاليف الحياة اليومية. في هذا السياق، يعمل "وهم الحب" كنوع من الرابط الاجتماعي الذي يخفي واقع الأسرة المعاصرة باعتبارها أقرب لـ"شركة صغيرة ذات مسؤولية محدودة"، هدفها الرئيسي هو البقاء الاقتصادي بدلاً من أن تكون ارتباطاً عاطفياً حقيقياً ومتحرراً.
من منظور ماركسي جديد، فإن "الحب الرومانسي" في المجتمع الحديث ليس مجرد شعور، بل هو محرك اقتصادي بارع. فهو يخفي الاستغلال خلف ستار العاطفة، ويحول الأسرة من مؤسسة للارتباط الإنساني إلى وحدة دعم لوجستي للنظام الرأسمالي.