التأطير الأحادي للإبداع -2


حميد كوره جي
الحوار المتمدن - العدد: 8527 - 2025 / 11 / 15 - 13:18
المحور: الادب والفن     

يبقى الفن غير المباشر قادرًا على أن يصل بعمق إلى قلوب الناس وعقولهم، بما يترك أثرًا بعيد المدى يتجاوز الصخب المؤقت للأعمال الدعائية المباشرة.
عندما يجد القرّاء في الرواية الملتزمة تجارب إنسانية شاملة مثل الحب والخسارة والصمود، تزداد قدرتهم على التعاطف مع القضية المطروحة بمعزل عن سياقاتها السياسية الضيقة. هذا الأمر يخدم مسار النضال عبر تعزيز التعاطف من قبل الأطراف الخارجية التي قد تكون غير منحازة مسبقًا. الفن الملتزم حين يكون عميقًا، يتمكن من توحيد الأفراد حول مشاعر إنسانية مشتركة مثل الحنين للوطن أو السخط تجاه الظلم، دون الحاجة إلى جمعهم تحت مظلة برنامج سياسي واحد. هذا النوع من الوحدة المبنية على الأحاسيس يُعتبر أكثر قوة واستدامة مقارنة بالاتحادات القائمة على شعارات عابرة.

يفشل الفن الملتزم غير المباشر عندما يصطدم بجمهور يبحث عن الترفيه البسيط أو الخطاب الوعظي الصريح دون أن يكون مستعدًا للتأمل العميق. هذا الجمهور قد يتجنب مواجهة الحقائق الصعبة والنقد الذاتي الذي يمثله الفن، ويرفض أي محتوى فني لا يتماشى بالكامل مع توجهه الحزبي أو السياسي المباشر. نجاح هذا النوع من الفن يعكس مستوى نضج فكري وثقافي يمتلكه الجمهور، ويؤكد قدرته على إدراك أن الحقيقة والجمال يتمتعان بقدرة تأثير تفوق أدوات الصراع التقليدية.

بالإشارة إلى قائمة المؤلفين العظماء الذين استشهد بهم ماركس، مثل شكسبير وغوته وبلزاك، يتم أحيانًا استخدام هذه الاستشهادات لاستخلاص رؤى واسعة حول العلاقة بين الإبداع الفني والأنثروبولوجيا البشرية بشكل قد يبدو مبالغًا فيه. صحيح أن ماركس أعجب بهؤلاء الكتاب واحتفى بأعمالهم، لكن تحويل إشاراته إلى قاعدة فلسفية لتعريف الفن باعتباره انعكاسًا لجوهر الإنسان وحلقة وصل اجتماعية، قد ينطوي على قراءة موسعة وتكهنات زائدة تستند إلى دلائل ثانوية.

واستخدام مصطلحات مثل "دائمًا" في هذا السياق يعبر عن تعميم غير دقيق قد يغفل التنوع التاريخي للفن. هناك فترات طويلة في التاريخ كان فيها الفن موجهًا لخدمة مصالح النخب الحاكمة، الكنيسة، الطبقات الأرستقراطية أو حتى مجرد تعبير ذاتي عن الجماليات الشخصية أو وسيلة للهرب من الواقع، دون ارتباط وثيق بمفاهيم مثل "مواجهة الرأسمالية" أو "النضال الثوري". مثل هذه المقاربة تُبسط تاريخ الفن أحيانًا، ممّا يقلل من ثراء وتعددية التجربة الفنية عبر العصور.

كما أن هذا الطرح يهمش القيمة التي يحملها الإنتاج الفني المنتمي لمجتمعات مستقرة أو الذي يتناول موضوعات إنسانية عامة تتجاوز الاهتمام بفكرة التحولات الاجتماعية أو التغيرات السياسية. فالفن الذي يعالج مسائل وجودية، دينية، أو حتى جماليات خالصة لا يقل أهمية أو شرعية مقارنة بالفن المرتبط بالنضالات الاجتماعية والسياسية.
التحول من وصف الفن بأنه "ثوري بطبيعته" إلى فرض ضرورة أن يكون "الفن ثوريًا اليوم"، يضفي بعدًا أيديولوجيًا صارمًا يفرض على الفنانين والكتّاب، وخصوصًا الأكراد منهم، الالتزام بقضية وطنية أو اجتماعية معينة. هذا النهج الأيديولوجي يتناقض مع جوهر الحرية الإبداعية، مما يضع الفن تحت قيود فكرية مشددة.

الفن ليس ملزمًا بأن يكون وسيلة لتحقيق أهداف سياسية. التركيز المبالغ فيه على "رسالة التغيير" يقلل من أهمية القيمة الجمالية أو الحسية للأعمال الفنية. العديد من الأعمال الفنية تُبدع من أجل الجمال ذاته، أو الإتقان، أو التعبير عن رؤية شخصية للفنان، بعيداً عن أي توجيه ثوري أو اجتماعي مباشر.

الفن هو أداة أساسية لاستكشاف الذات والوعي والتعبيرات الإنسانية المتنوعة كالحب، والخسارة، والقلق الوجودي. تسييس الفن يضيّق آفاقه، حيث ينحصر في التعبير عن "النضالات الطبقية" أو "القضايا الوطنية"، ويهمش التعبير عن التجارب الفردية والكونية التي تشكّل جزءاً أساسياً من طبيعة الإنسان.

الفن الحقيقي لا يقتصر على دعم الثورات؛ بل قد يكون أحيانًا نقدًا لاذعًا للواقع بعمومه، بما يشمل الحركات الثورية ذاتها بعد نجاحها. تحويل الفن إلى أداة خاضعة لأجندة سياسية يحد من قدرته على تقديم نقد موضوعي أو رفض شامل لكل الأطر القائمة.

يوفر الفن مساحة للتأمل والتعبير الحر، ويمنح الناس فرصة للهروب من قسوة الواقع، وهي وظيفة لا يمكن وصفها بـ"الثورية" في السياق الماركسي، لكنها تظل جوهرية لصحة الإنسان النفسية واستمراريته. إنكار هذه الوظيفة يعبر عن تجاهل لأحد أهم أبعاد العلاقة بين الإنسان والإبداع.

عندما يُطلب من الفن أن يخدم قضية معينة، فإنه غالبًا ما يُحصر في أشكال مباشرة وواقعية لضمان نقل الرسالة بوضوح، مما يحد من تطور أشكال التعبير الفني التجريدية والرمزية والسريالية. هذه الأشكال قد تكون أكثر عمقاً وتأثيراً في إدراك الوعي العام، لكنها تُهمل لصالح متطلبات التوجيه السياسي الواضح.

اعتبار الفن مجرد أداة لتحقيق غايات محددة يفقده طبيعته كغاية إنسانية قائمة بذاتها، إذ تُفرض عليه قيود تقلل من قيمته الفكرية والجمالية لصالح قيم دعائية أو منفعة آنية. تاريخ الفن مليء بالأعمال التي ركزت على الجمال، الروحانيات، التجربة الإنسانية الفردية، أو التعبير عن المشاعر الإنسانية دون أن تكون أدوات في صراعات سياسية أو ثورية.
الفن كوسيلة للتأمل الروحي والكمال الجمالي
الأعمال الفنية والسياقات التاريخية تعكس دوافع الإبداع التي غالبًا ما تتمحور حول الجوانب الجمالية والروحية والإنسانية بدلاً من الثورة أو التغيير. خلال عصر النهضة، كان التركيز منصبًا على السعي لتحقيق الكمال والجمال المثالي، حيث قدمت أعمال مثل "الموناليزا" دراسة دقيقة للشخصية الإنسانية، بينما خدمت جداريات الفاتيكان أهدافًا دينية وجمالية في آنٍ واحد. في المقابل، ارتكز فن الزِن الياباني على التأمل والتنوير، معبرًا عن البساطة والهدوء والارتباط العميق بالطبيعة، مما يعكس أبعادًا روحية غنية. أما فن الروكوكو في القرن الثامن عشر، فقد احتفى بالبذخ والأناقة الأرستقراطية، مصورًا أنماط الحياة بأسلوب مثير للإعجاب ومصمم لمنح المتعة البصرية للنخبة، دون التطرق لقضايا اجتماعية أو إحداث تغيير حقيقي,

الموسيقى كأداة للتعبير عن المشاعر والجماليات النقية
الأعمال الموسيقية، بحسب أزمنتها وسياقاتها، غالبًا ما ركزت على تحقيق أهداف جمالية وروحية تخلو من الطابع الثوري.

موسيقى الباروك (يوهان سيباستيان باخ)
في القرن الثامن عشر، وقبل الثورة الفرنسية، كانت موسيقى الباروك تهدف إلى تمجيد الله وإبراز المهارات التقنية. أغلب أعمال باخ تضمنت مقاطع موسيقية دينية كـ "الكانتات" و"القداسات"، بالإضافة إلى قطع تعليمية وهيكلية مثل الـ "فوغا". وكانت هذه المؤلفات موجهة لإثراء الطقوس الكنسية واستعراض التنظيم المنطقي والبراعة الفنية في التلحين.

الموسيقى الرومانسية (شوبان)
خلال القرن التاسع عشر، ركزت الموسيقى الرومانسية على التعبير عن المشاعر الفردية والحالة النفسية. تميزت أعمال شوبان، خصوصًا مقطوعاته للبيانو، بالتعبير عن مشاعر الحنين، والحزن العميق، والفرح الشخصي، حيث عكست رؤية الفنان كرمز للعبقرية البشرية المعذبة. هذه الموسيقى كانت ذات طابع ذاتي عميق يُبرز أبعاد النفس الإنسانية بدقة.

الموسيقى الانطباعية (ديبوسي ورافيل)
في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، سعت الموسيقى الانطباعية إلى خلق تأثيرات حسية وصور جمالية تستحضر المشاعر والانطباعات. اعتمدت هذه الموسيقى على استخدام النغمات والصوتيات لخلق أجواء مميزة تصور مشاهد كضوء القمر أو حركة أمواج البحر، دون أن تكون حاملة لرسائل اجتماعية مباشرة.



الأدب لاستكشاف الذات والوجود

الهايكو الياباني: أدب كلاسيكي يركز على لحظات عابرة وتأمل الطبيعة، من خلال قصائد قصيرة تعزز التأمل الروحي بعيداً عن السياسة.

تيار "تيار الوعي" (فيرجينيا وولف، جيمس جويس): أسلوب أدبي من أوائل القرن العشرين يعرض تدفق الأفكار والمشاعر الداخلية للشخصيات بهدف فهم الذات الإنسانية وتعقيداتها بعيداً عن التغيير الثوري.

القصائد الغنائية عبر العصور: من الشعر الرومانسي والمعاصر، تهتم بالعواطف والتجارب الشخصية، كالحب والحزن وتأمل الجمال والبحث عن معنى الحياة.

الأدب ليس دائماً سلاحاً في الصراع، بل وسيلة للاحتفاء بالوجود الإنساني واستكشاف العقل والجمال. الزعم بأن الفن دائماً أداة ثورية يغفل جانباً كبيراً من الإبداع البشري.

الفن والأدب يمكنهما دعم القضايا الكبرى بفعالية حين يبتعدان عن التسييس والخطاب المباشر، ويركزان على التأثير في الوعي والمشاعر.

استراتيجيات الفن لدعم النضال مع تجنب التسييس المبالغ فيه

لضمان تحقيق توازن بين الرسالة الفنية والنضال المجتمعي، ينبغي على العمل الفني أن يتبنى دوراً إنسانياً نقدياً بدلاً من الاكتفاء بكونه وسيلة دعائية تحريضية. بدلاً من الانشغال برصد الأحداث السياسية اليومية، يمكن للفن أن يكون وسيلة لتوثيق الذاكرة التاريخية والثقافية المشتركة. الأعمال السردية التي تحافظ على التراث أو الفنون التشكيلية التي تستلهم الرموز الشعبية، جميعها تساهم في تعزيز الإحساس بالهوية المشتركة التي تعد أساساً للصمود والبقاء.

دور الأدباء في خدمة قضية النضال يظهر في حفاظهم على اللغة وتطويرها. عندما تُكتب الرواية أو القصيدة بلغة تواجه تهديداً، يصبح ذلك بذاته تعزيزاً للوجود والهوية. على سبيل المثال، نجد أن شعر الشاعر الكردي أحمدي خاني كان بمثابة تأسيس للهوية القومية عبر استخدام لغة راقية، مما جعل أعماله تمثل جهداً ثقافياً وجودياً أكثر منه تحريضاً مباشراً.

الأدب يسعى إلى الابتعاد عن الشعارات المباشرة ليغوص في أعماق تجربة الفرد داخل الأزمة. الروايات التي تنقل معاناة عامل أو مأساة نازح تحمل قوة عاطفية أكبر بكثير مقارنة بمقال سياسي جاف. على سبيل المثال، تجد أن الأدب الواقعي الذي يسلط الضوء على الفساد والظلم الاجتماعي وتناقضات السلطة بأدوات فنية عالية، كما في أعمال نجيب محفوظ، يمتلك القدرة على إحداث تغيير من خلال تعزيز الوعي النقدي لدى الجمهور.

الفن الجيد يثير الأسئلة العميقة ويسلط الضوء على التناقضات داخل المجتمع بما في ذلك التحديات القائمة بين صفوف المناضلين. هذا النوع من النقد الذاتي يضمن استمرارية الحركة ويجعلها قابلة للتجديد الفكري باستمرار.

يمكن للموسيقى وفنون الرسم والنحت أن تغرس روح الصمود والأمل والمقاومة السلمية دون اللجوء إلى خطاب دعائي مباشر يحرض على العنف أو الصراع. الأدب الذي يسمح للفرد بالتعبير عن مشاعره وألمه ويمنح الآخرين فرصة للتعاطف معه يتحول إلى أداة لتمكين الأفراد ومساعدتهم على مواجهة الواقع بشجاعة. الفن يخلق مساحة آمنة لتفريغ المشاعر السلبية بعيداً عن الانزلاق نحو اليأس، مما يعيد شحن القدرة على الاستمرار والتحدي.

حين يركز الفنان على جودة عمله وجمالياته، يمنح إبداعه قيمة إنسانية عالمية تتجاوز السياقات اللحظية. العمل الفني الراقي يظل مؤثراً وقادراً على جذب اهتمام أوسع لفترة طويلة، بينما تفقد الرسائل الدعائية المباشرة قيمتها مع تغير الأحداث أو الظروف السياسية.

الفن الذي يخاطب العواطف الإنسانية والجماليات الأساسية بعيداً عن التحيز الأيديولوجي يصبح عاملاً للتواصل بين الثقافات والشعوب المختلفة، فيقدم القضية بأسلوب إنساني شامل يدعمها بشكل أكثر فعالية على المستوى العالمي.