بيت ليس للتحديث


حميد كوره جي
الحوار المتمدن - العدد: 8475 - 2025 / 9 / 24 - 16:19
المحور: الادب والفن     

على عتبة منزله القديم، توقّفت أنفاس فارس للحظات. تلك الجدران المغطاة بالقش والمسقوفة بأخشاب الصاج ظلت كما هي، تصارع تجاعيد الزمن وتحتفظ برائحتها المعتقة. ومع ذلك، قلبه كان يدرك حقيقة واضحة لا تقبل النقاش: هذا البيت ليس للبيع. لم يكن مجرد منزلٍ عادي، بل كان صندوقًا يخبئ فيه ذكرياته، مكانًا يَصعب التخلي عنه مهما طالت السنوات.

في تلك اللحظة، بدا مكتبه الصغير في المدينة وكأنه تحول إلى مساحة تحمل بين جدرانها أحلامه القديمة؛ مكان يمزج بين ما مضى وما هو حاضر الآن. فارس، الذي تعدى عمره الخمسين، وجد نفسه يعود بخطواته إلى الأيام التي كان فيها طفلًا يمسك قطعة صغيرة من العلكة بين أصابعه بكل سعادة. تذكّر عليّا وعمر، صديقي طفولته، كيف كانوا يقضون ساعات تحت أشعة الشمس التي باتت الآن أشبه بظلال خفيفة مع حلول الفجر. عادت إلى ذهنه فكرة الحب، لكنه لم يكن مجرد شعور عابر، بل كان مركز عالمه الذي كان يدور حوله، لكنه في النهاية أفلت من قبضته كالنسيم الذي لا يمكن الإمساك به.

تدفقت إلى عقله كلمات ليلى، حبه الأول، التي كانت تنساب إليه عبر رسالة غامضة: "قلبي يضيق من أجلك". كانت تلك العبارة ترتسم في ذاكرته بوضوح، تذكر كيف وصف لها مشاعره ذات يوم بأنها أشبه بخط من قائمة طعام غير مفهومة. علاقتهم بدت كما لو أنها لغة غريبة، تتكرر وتتلوي دون أن تصل إلى معنى واضح. حينها لم يُدرك أن اللحظات الأجمل تتسرب مثل قطرات الندى التي تختفي سريعًا بمجرد أن يلامسها شعاع الشمس الأول.
كان فارس يبحث عن شيء لم يكن متأكدًا من وجوده، ربما عن تلك القبلة التي لم تُمنح، ذلك الحب الذي تلاشى، وعن الذات التي تركها خلفه دون رجعة. سمع صدى صوت خالد، صديقه الذي غادر الحياة، وهو يقول له عبارة ظل يرددها طوال الوقت: يا له من ورق أصفر! من أين يأتي هذا الورق؟ ولماذا يظهر؟ وقف فارس يتأمل المعنى خلف هذه الكلمات، محاولًا فك رموز الحياة التي تبدو أحيانًا لغزًا معقدًا، حيث يمتزج الفقر مع الذل في مواجهة كبرياء رجل يأبى أن ينحني مهما اشتدت الرياح.

مع حلول المساء، جلس فارس أمام نافورة قديمة في فناء المنزل، يستمع إلى صوت تدفق الماء الذي ذكره بصوت ياسمين، حبه الذي انتهى قبل أن يبدأ. كان عجزه عن نسيانها حقيقة يطاردها في كل زاوية من ذلك المكان؛ فقد رأى وجهها ينعكس في ضوء القمر المتسلل من شرفة المراقبة، وسمع صوتها ينبعث من حنجرة غنائية متصدعة يقرأ منها اسمها وكأنه كتاب مفتوح يعيد قراءة الماضي باستمرار. كانت ياسمين أشبه بـ "أفيون النسيان"، ذلك الشعور الذي يتسلل ببطء ليحاول أن يغطي الذكريات دون أن يمحوها تمامًا.

في تلك الليلة، كان القرار واضحًا بالنسبة لفارس؛ التصالح مع الماضي لم يعد خيارًا، بل ضرورة. أدرك أن العزلة ليست عقابًا مفروضًا عليه، بل هي مساحة للتفكير والتأمل. أضاء سماور قديمًا في الشرفة وترك البخار يصعد في الهواء كما لو كان يحمل معه بقايا الألم المختبئ في داخله. لم يعد يخشى تلك "نار الوحدة" التي كانت تؤرقه، بل بدأ يرى فيها ضوءًا جديدًا يوجهه نحو فهم أعمق للحياة. أدرك أن كل خطوة خطاها على الطريق كانت جزءًا من رحلته المرسومة له، وأن حتى الأمور البسيطة مثل "الطرق الرخيصة الثمن" كانت تمثل فصلًا لا يمكن تجاهله في روايته الشخصية.

في صباح مشرق، فتح فارس باب المنزل على مصراعيه، فغمرته نسائم الياسمين والورد التي حملت معها ذكريات طفولته العزيزة. وبينما كان يستمتع بهذا الشعور، تسلل إلى أذنه صوت دافئ مليء بالمودة: "أهلاً بميلاد جديد لك يبعث الحياة في أرجاء المكان". نظر حوله ليجد سلمى، زوجته، تقف أمامه بابتسامة تشع حبًا وحنانًا. في تلك اللحظة، أدرك فارس أن الأبواب ليست فقط وسيلة لاستدعاء الماضي، بل يمكنها أن تكون بوابة لحاضر يحمل بدايات نابضة بالأمل والحياة.


شعر فارس حينها أن الحب لم يغادره أبدًا، بل كان كامنًا في التفاصيل الصغيرة المحيطة به، في خطواته، وفي الذكريات التي تحمل أثرًا عميقًا. كل لحظة قضاها بين أزهار الياسمين كانت تشير إلى شيء أبعد من مجرد ذكرى؛ كانت تعيده إلى حب سلمى الذي لم يغِب عنه أبدًا، وانتظر بصبر كي يدركه. كان ذلك هو المعنى الحقيقي الذي بحث عنه طويلًا، ليكتشف أن الحياة ليست فيما ضاع منه، بل فيما يعثر عليه مجددًا ويحيا به بكل تفاصيله.