ثلاثة قرون من الجمود: كيف دفع العرب والمسلمون ثمن حظر آل عثمان الطباعة؟


حميد كوره جي
الحوار المتمدن - العدد: 8483 - 2025 / 10 / 2 - 21:58
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

ويسألون لماذا تخلفنا؟

يوم الثامن والعشرين من ديسمبر يحمل في طياته ذكرى لا تُنسى لإحدى اللحظات المفصلية في تاريخ البشرية، حيث شهد العالم أول كتاب يُطبع باستخدام آلة الطباعة التي ابتكرها يوهان غوتنبرغ في عام 1452 ميلادي. هذا الاختراع لم يكن فقط إنجازًا تقنيًا بل كان انقلابًا ثقافيًا وتأثيره امتد على الحضارات والمجتمعات كافة، مرسخًا أهمية التكنولوجيا كعامل رئيسي في التغيير. ومع ذلك، يوجد درس عميق يمكن استخلاصه من التاريخ عندما ننظر إلى كيفية تعامل الإمبراطورية العثمانية مع هذا الابتكار. تلك الإمبراطورية تبنت نهجاً متحفظاً للغاية، مما أدى إلى تأخر في استخدام هذه التقنية لمدة تقارب ثلاثة قرون، وهو ما يعكس جموداً عقلياً تجاه التطور وتحديات العصر.

ما حدث في الدولة العثمانية ربما يُعتبر دليلاً ملموساً على نتائج مقاومة التطورات الفكرية والتقنية. بمعزل عن العوامل الأخرى، يعد رفض تقنيات طباعة الكتب في تلك الحقبة رمزًا لعدم الانفتاح على الابتكارات التي كانت تُشكل روح العالم الحديث. آلة الطباعة لم تكن اختراعًا عاديًا بل حجر أساس لتحولات ثقافية ضخمة غيرت طبيعة انتشار المعرفة وعززت دخول المجتمعات البشرية عصر النهضة. ومن الغريب أن الإمبراطورية العثمانية، على الرغم من قربها الجغرافي من ألمانيا، موطن غوتنبرغ وأرض ولادة الابتكار، انغلقت على نفسها ورفضت الاستفادة من هذه التقنية في وقت مبكر.

الجدير بالذكر أن غير المسلمين داخل الإمبراطورية العثمانية كانوا يتمتعون ببعض الحرية في استخدام الطباعة وإنشاء مطابع خاصة بهم. فعلى سبيل المثال، تأسست مطبعة للأرمن في إسطنبول عام 1567، تلتها مطبعة لليونانيين في عام 1627. ومع ذلك، كان استخدام الطباعة بالحروف العربية، وهو نظام الكتابة المستخدم لكتابة اللغة التركية العثمانية آنذاك، متأخرًا بدرجة كبيرة.
السماح بالطباعة بالحرف العربي جاء بعد مسيرة طويلة من التعقيدات والقيود الدينية والثقافية. ففي عام 1726 صدرت فتوى تجيز استخدام الطباعة للحروف العربية بشرط عدم طباعة الكتب الدينية، وشكلت هذه الفتوى البداية الرسمية للانتقال نحو الطباعة الحديثة لتلك اللغة. بعد ذلك بعامٍ كامل وفي 1727 ميلادي، تمت الموافقة السلطانية على تأسيس أول مطبعة حكومية للطباعة بالحرف العربي بتوجيه من السلطان أحمد الثالث. ولم يبدأ عمل المطبعة فعلياً إلا بحلول عام 1728 عندما صدرت نسخة مترجمة إلى التركية من كتاب "قاموس وانقولى"، الذي كان النص الأول الذي طُبع باستخدام هذه التقنية.
هذه الواقعة التاريخية تقدم لنا درساً بالغ الأهمية حول مدى تأثير الجمود الفكري والمقاومة غير المبررة للتغيير على تقدم المجتمعات. إنه درس للمستقبل يحثّنا على تبني التغيير والانفتاح على الابتكارات الجديدة كي نتجنب الوقوع في مصيدة الماضي، ونضمن تطورًا مستدامًا يلبي احتياجات العصر ويحمي إرثنا الثقافي ويعززه. لا نجد أي نص ديني مقدس سواء في القرآن أو السنة، يحظر قبول الاكتشافات التقنية. كما أن هناك حديث يقول: اطلبوا العلم حتى ولو من الصين. أو اطلب العلم من المهد إلى اللحد. أعتقد أن العلم أنهم يرون العلم ما يفيدهم ويقوي من سلطاتهم.
إن حظر الطباعة كان مدفوعًا برغبة السلطة العثمانية في الحفاظ على سلطتها ومنع الأفكار التي قد تقلل من طاعة الرعايا للسلطان.
إن المؤرخين يقدمون بالفعل عدة أسباب لحظر الطباعة (خاصة باللغة العربية والحرف العربي) في وقت مبكر، وتتمحور هذه الأسباب حول السلطة والاستقرار الاجتماعي حيث كانت الكتب المخطوطة تخضع لرقابة دقيقة من قبل العلماء والمؤسسات الدينية والقصر. وكان إدخال الطباعة سيعني انتشاراً سريعاً وغير قابل للتحكم للأفكار، بما في ذلك الأفكار السياسية أو الدينية المغايرة التي قد تهدد شرعية السلطان. كما أن الطباعة هي وسيلة لـ"دمقرطة" المعرفة، وهو ما قد يتعارض مع طبيعة الحكم المطلق.
وكانت هناك طبقة قوية من النساخ والخطاطين الذين كانت حرفتهم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بإنتاج الكتب المخطوطة. فكان إدخال الطباعة يعتبر تهديداً اقتصادياً مباشراً لهم، وقد أدت معارضة هذه الفئة (التي كان لها نفوذ اجتماعي) دوراً في الضغط على السلطة لمنع أو تقييد التقنية.
إضافة إلى ما ورد أعلاه، كان هناك تخوف مبدئي من أن يؤدي استخدام الآلة في طباعة الكتب الدينية (القرآن تحديداً والأحاديث) إلى أخطاء أو تحريف، أو أنه يُقلل من قدسية النص المكتوب بخط اليد. هذا التخوف سهل استخدامه كذريعة لإصدار الفتاوى التي قيدت الطباعة لسنوات طويلة ،كما أشرت أعلاه، لم تُجز الطباعة بالحرف العربي إلا بشرط عدم طباعة الكتب الدينية في البداية.

التأخير في تبني الطباعة كان على الأرجح نتيجة لتضافر عدة عوامل، لكن التفسير الأقوى تاريخياً هو مزيج من الخوف على مصالح النخب (النساخ والعلماء التقليديين) ورغبة السلطنة في الحفاظ على الاحتكار المركزي للمعلومة ومنع ظهور أفكار متمردة أو مناهضة لسلطة القصر.
إن حظر الطباعة كان نابعًا من وجهة نظر انتقائية للعلم، حيث يُنظر إليه على أنه مقبول فقط ما يفيد السلطة ويقويها، هذا التفسير التاريخي يتفق مع تحليلات الكثير من المؤرخين والباحثين في هذا المجال.

صحيح أن النصوص الإسلامية تشجع بقوة على طلب العلم (كما ذكرت الأحاديث المذكورة)، لكن النخبة الحاكمة والمؤسسة الدينية التقليدية قد تفرّق عملياً بين نوعين من "العلم":
• العلم المقبول (التقني والشرعي الموجه): وهو العلم الذي يخدم الدولة مباشرة، مثل الهندسة العسكرية، والفلك (لتحديد أوقات الصلاة)، والطب، والعلوم الشرعية التي تعزز شرعية السلطان. هذا العلم لا يهدد النظام القائم.
• المعرفة المهددة (العلم المكتبي): وهي المعرفة التي تتيح النقاش العام والتحليل النقدي للأفكار السياسية والاجتماعية والدينية. الطباعة كانت وسيلة لنشر هذه المعرفة بسرعة فائقة خارج نطاق سيطرة الدولة والمؤسسة الدينية.

في العصر العثماني، كانت المعرفة تُنشر عبر المخطوطات التي تسيطر عليها المؤسسات الرسمية (المدارس والمكتبات الكبرى). كان هذا يضمن المركزية أي أن تكون المعلومات خاضعة للمراجعة والموافقة قبل الانتشار.
والتحكم بمعنى سهولة كبت أي فكر معارض أو حديث عن "تقليل طاعة الرعايا للسلطان".

إدخال الطباعة كان سيخلق فضاءً عاماً للمعلومات لا يمكن السيطرة عليه بنفس السهولة، مما يهدد بنشوء حركات فكرية وسياسية مستقلة عن إرادة القصر.

في تلك الحقبة، لم تكن الطباعة مجرد آلة، بل كانت رمزاً للتحول الفكري والثقافي الذي يحدث في أوروبا (عصر النهضة والتنوير). كان هناك تخوف لدى بعض النخب من أن قبول هذه التقنية سيفتح الباب لتيارات فكرية أوروبية جديدة قد تقوض الهوية التقليدية أو تتحدى التراتبية الاجتماعية التي يقوم عليها الحكم العثماني.

يمكن القول إن الحظر لم يكن موجهاً ضد الطباعة كـ"تقنية" (إذ سُمح بها للأقليات في البداية)، بل كان موجهاً ضد الطباعة كـ"أداة للانتشار الفكري الحر" الذي كان يُنظر إليه على أنه تهديد لسلطة النخبة والنموذج الفكري السائد.

هذا الموقف يذكرنا ببيت الشعر المنسوب إلى علي بن أبي طالب:

"إذا هبت رِياحُكَ فاغتنمها
فإن لكل خافقةٍ سكونُ"