الوطن الحقيقي خبز وحرية وقيمة إنسانية


حميد كوره جي
الحوار المتمدن - العدد: 8425 - 2025 / 8 / 5 - 18:47
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير     

الأمن: وهم القوة أم قوة الحرية؟

يعتقد البعض أن تحقيق الأمن والاستقرار لا يتم إلا بفرض القوة، وأن التنمية تزدهر في ظل أنظمة قوية، حتى وإن كانت مستبدة. ولكن هذا النوع من الأمن، الذي يُفرض بالقوة ويقمع الحريات، غالبًا ما يكون وهميًا وسطحيًا. إنه يخلق حالة من الاحتقان المجتمعي التي قد تنفجر في أي وقت، ولا يعبر عن استقرار حقيقي.

في المقابل، يرى الكثيرون أن الأمن الحقيقي والمستدام ينبع من الحرية واحترام حقوق الإنسان. هذا الأمن لا يخشى الأصوات المعارضة، بل يرى فيها فرصة لتحسين الأداء وتصحيح الأخطاء. عندما يتم إشراك المواطنين في صنع القرار، يُصبحون جزءًا من العقد الاجتماعي الذي يبني الدولة، مما يجعل أمنها أكثر قوة ومتانة.

التنمية الاقتصادية: سراب الاستبداد أم حقيقة المؤسسات؟

تُطرح أحيانًا فكرة أن الأنظمة الاستبدادية قادرة على تحقيق تنمية اقتصادية سريعة، لكن هذه الفكرة تحتاج إلى تدقيق. على الرغم من أن بعض الأنظمة قد تُظهر تقدمًا اقتصاديًا في البداية، إلا أن هذا التقدم غالبًا ما يكون هشًا وغير مستقر. فغياب سيادة القانون، وضعف حماية حقوق الملكية، وتقييد حرية التعبير، كلها عوامل تُغذي الفساد وتُضعف ثقة المستثمرين. مع مرور الوقت، يؤدي هذا المسار إلى تدهور الاقتصاد أو انهياره بالكامل.

أما التنمية الاقتصادية المستدامة والحقيقية، فتعتمد على قوة المؤسسات الشفافة والمسؤولة، لا على نفوذ أفراد أو قوة حاكم. المؤسسات القوية تخلق بيئة جاذبة للاستثمارات، وتقلل من المخاطر الاقتصادية، وتوفر أساسًا صلبًا للنمو المستمر.

القومية: بين الحب والعنصرية

تُعد الوطنية شعورًا إنسانيًا نبيلًا بالانتماء، ولكن عندما تتحول إلى "قومية متطرفة"، تصبح أداة خطيرة. هذا التحول يجعل حب الوطن واجبًا مفروضًا، ويُحوّل النقد البناء إلى "خيانة"، ويُبرر قمع الحريات باسم "حماية الوطن".

هذه القومية المتطرفة غالبًا ما تُستخدم لتبرير فشل الأنظمة في تلبية مطالب الشعب الأساسية. فبدلًا من معالجة الفساد، وسوء الإدارة، والمشاكل الاقتصادية، تلجأ الأنظمة إلى خلق أعداء وهميين (سواء كانوا أقليات داخلية أو قوى خارجية) لتوجيه اهتمام الشعب بعيدًا عن المشكلات الحقيقية.

ولمواجهة هذا الخطر، يجب تعزيز الثقافة المدنية والديمقراطية. هذا يعني تعليم الأفراد التفكير النقدي، وحماية المؤسسات المستقلة مثل وسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية، والتركيز على مفهوم "المواطنة الشاملة" الذي يضمن المساواة بين جميع أفراد المجتمع.

نحو وطن حقيقي

إن الانتقال إلى وطن حقيقي يتطلب التخلي عن الأفكار التي تربط القوة والاستبداد بالاستقرار. الأمن المستدام لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الحرية، والتنمية الاقتصادية الحقيقية لا تنمو إلا في ظل مؤسسات قوية. القومية يجب أن تبقى شعورًا إنسانيًا يعزز الوحدة والعدالة، وليس أداة لتقسيم المجتمع وقمع الأفراد.

فالوطن ليس مجرد أرض أو رموز، بل قيمة إنسانية تقوم على مبادئ العدل، والحرية، والكرامة. وإن الانتقال من الوطن الأيديولوجي إلى الوطن القائم على القيم هو السبيل الوحيد لبناء مستقبل مستقر ومزدهر، بعيدًا عن إعادة إنتاج أخطاء الماضي.