اللغات محايدة الجنس النحوي والنظام الأبوي وأمومية اللغة العربية (3)


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 8561 - 2025 / 12 / 19 - 04:55
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

المفهوم غير العلمي لـ "ذكورية اللغة"
معلوم أن مصطلح "الذكورية" هو ذلك المفهوم الاجتماعي الذي يشير إلى مختلف تجليات مظاهر التمييز المدني والقانوني والوظيفي والعائلي والاجتماعي ضد المرأة، وليس مفهوماً لغوياً البتة: الذكر ليس له الغلبة ولا الأولوية ولا السيطرة على الإنثى لغوياً، أبداً؛ بل أن غلبته عليها هي إجتماعية-طبقية، ولا تنفع الفذلكات اللغوية من أي نوع لطمس هذا الواقع. كما أن الذكورية هي ظاهرة إجتماعية عالمية شاملة مرتبطة جدلياً بالتمايز الطبقي، ولا يمكن إلغاؤها إلا بإلغاء الطبقات الاجتماعية والتمكين الناجز للمرأة بمساواة حقوقها مع الرجل في كل شيء. ولا يستطيع أي مستخدم لهذا المفهوم أن يقدم أي تعريف "معقول" له. هل اللغة الحيادية هي تلك التي لا تميز بين الذكر والأنثى كنوع بيولوجي هي "لغة ذكورية"؟ أم أن اللغة التي تميز بين الذكر والانثى هي "لغة ذكورية"؟ لدينا الآن مئات اللغات الحيادية (مثل الفارسية والدارية والتركية والكردية) التي تشتغل في مجتمعات خانقة الذكورية؛ وهناك عشرات اللغات التي يميز صرفها ونحوها ومعجمها بين المذكر والمؤنث (مثل الألمانية والفرنسية والإيطالية والإنجليزية ولغات البانتو) والتي هي لسان شعوب أدنى ذكورية من غيرها. ماذا تعني هذه الوقائع؟ أنها تعني أن مصطلح "ذكورية اللغة" ينفي نفسه بنفسه لكونه يخلط بين "انعكاس" تمثيل النوع البيولوجي في اللغة من جهة وبين "وضع" النوع الإجتماعي في المجتمع. لنفرض جدلاً أن أحدهم – بضربة ساحر – قد حوّل لغة المجتمع سين من لغة تمايزية إلى لغة حيادية، فهل هذا يعني أن اللغة الحيادية هذه قد أصبحت "لغة لا ذكورية"- ناهيك عن "لا ذكورية المجمع" الناطق بها؟ طبعاً لا . لماذا؟ لأن الذكورية هي ظاهرة اجتماعية يالأساس وليست ظاهرة لغوية. اللغة هي تواضع واصطلاح اجتماعي تاريخي عميق الجذور يعكس الوجود الاجتماعي تاريخياً وجماعياً للناطقين بها. لنفرض أننا في العربية قد استطعنا – بقدرة قادر، وهذا مستحيل – إلغاء التأنيث بكل أبنيته الصرفية والنحوية، واعتبرنا التذكير حيادياً ينطبق على الجنسين معاً، هل هذه اللغة العربية المصطنعة الجديدة هي "لغة لا ذكورية" ؟ طبعاً لا. لماذا ؟ أولاُ، لأن الذكورية هي ظاهرة اجتماعية وليست لغوية، والوضع الاجتماعي الذكوري القائم لابد أن يفرض نفسه على اللغة باعتبارها انعكاساً له، كائناً ما كان شكل إنبناء الجنسنة فيه. وثانياً، لأننا إذا ما ألغينا التأنيث تماماً من العربية، فستصبح اللغة العربية ذكورية حتى النخاع- ببساطة لعدم وجود مفهوم "اللاجنس اللغوي" في أبنية اللغة العربية، ولا يمكن فرض وجود "اللاجنسنة" على الناطقين بأي لغة بواسطة اصدار الفرمانات والمرسومات العلية، ولا حتى بالتعليم والتدريب والثقيف لتضاده الفعلي مع الوضع الاجتماعي الذكوري القائم والمعاش. فعندما نلغي الضمير "هي" ، ونعتبر الضمير "هو" (المذكر حتماً) يعود للجنسين فسنلغي التأنيث، ومعه نلغي الأنثى من اللغة بضربة واحدة – والعكس صحيح – ببساطة لغياب مفهوم "اللاجنس النحوي" في التركيبة النحوية للمفردات الدلالية العربية. كل إسم (بضمنها الصفات) وفعل عربي له جنسه إما المذكر أو المؤنت بغض النظر عن نوعه البيولوجي – حتى الهواء والماء والتراب والصخور؛ ولا يوجد جنس غير عاقل فيه على غرار ما هو موجود باللغة الإنجليزية (سأعود لهذا الموضوع).
ثم كيف سنرد على من يقول بأن المساواة بين المرأة والرجل إنما تتطلب تحقيق أهم انعكاس لغوي لهذه المساواة، إلا وهو الإعتراف الإجتماعي بكليهما تذكيراً وتأنيثاً، وإن الحياد اللغوي الذي يحذف التأنيث إنما ينطوي على "الإلغاء" للمرأة وليس مساواتها مع الرجل، مثلما يُتوهم؟ هذا هو رأي الأمم المتحدة نفسها، التي ينص منشورها الإرشادي بهذا الصدد على ما يلي:
"إرشادات اللغة المراعية للنوع الاجتماعي: تعزيز المساواة بين الجنسين من خلال استخدام اللغة (هيئة الأمم المتحدة للمرأة). توضح إرشادات اللغة المراعية للنوع الاجتماعي كيف يمكن لموظفي الأمم المتحدة تعزيز المساواة بين الجنسين من خلال الكتابة بأسلوب يراعي النوع الاجتماعي. تتضمن هذه الإرشادات قسمًا خاصًا، وتقدم أمثلة على كيفية تواصل الموظفين كتابيًا فيما يلي: أ) استخدام تعابير محايدة جنسيًا، ب) استخدام لغة شاملة، ج) استخدام الصيغتين المؤنثة والمذكرة - ككلمات منفصلة - باستخدام الشرطات المائلة.
المصدر:
https://asiapacific.unwomen.org/sites/default/files/2022-11/Gender%20Inclusive%20Language%20Guidelines.pdf
كما تنص نفس توصياتها أعلاه مراعات تجنب ما يلي:
1. "هل يحتوي النص على أي تعابير خاصة بجنس معين كان من الممكن استبدالها
بتعابير محايدة جنسيًا؟ على سبيل المثال، هل يستخدم النص كلمتي "رجل" أو "رجال"(ككلمات مفردة أو مركبة) للإشارة إلى أشخاص قد لا يكونون رجالًا؟"

(التوصية هي هو عدم الإشارة للإناث بكلمة تخص الذكور فقط (مثل: Gentleman))

2. هل يحتوي النص على استخدام صيغ المذكر في الإشارات العامة، أي عند الإشارة
إلى مجموعة غير محددة من الأشخاص؟

(التوصية هي عدم الإشارة إلى مجموعة من الاناث والذكور بإسم جمع بخص الذكور فقط، مثل: (middlemen)).

3. هل يتبنى النص أي قوالب نمطية مهنية أو غيرها من القوالب النمطية المتعلقة بالجنس؟

(عند الإشارة إلى المهن، التوصية هو عدم استخدام أسماء الجنس التي تميز الرجل فقط، مثل: (he-nurse)).

4. هل يحتوي النص على إشارات غير ضرورية إلى الجنس أو النوع الاجتماعي؟

(التوصية: إذا كانت الإشارة إلى الجنس غير ضرورة في النص فيمكن استخدام صيغة المبني للمجهول او المفردات الشاملة الجنس مثل (one/ones/one’s/ones’) و (person/persons/person’s/persons’)).

كل التوصيات أعلاه تنطبق على اللغة الإنجليزية فقط التي تستخدم كلمات ذكورية كأسماء للجنس تختزل المؤنث بالمذكر عبر إلغائها الصامت للمؤنث مثل (chairman, mailman)، وكل هذه التوصيات والارشادات مطبقة منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة في العربية ، وذلك لوجود التأنيث والتذكير في انظمتها البنوية! جوهر كل "إرشادات اللغة المراعية للنوع الاجتماعي بغية تعزيز المساواة بين الجنسين من خلال استخدام اللغة" للأمم المتحدة هو: عدم إلغاء ذكر الأنثى عبر استخدام مفردات ذكورية عند الإشارة إليها. المطلوب هو تعزيز الاعتراف اللغوي بوجود الأنثى بتحقيقه لغوياً بالفعل، وليس "حذفه" بصمت مثلما تفعل اللغة الإنجليزية.
إذن، فمفهوم "اللغة الذكورية" لا ينطبق أبداً لا على اللغة العربية ولا على أي لغة، وفق تعريف الأمم المتحدة وارشاداتها أعلاه التي تنصرف على تعديل جد محدود في بعض البعض من مفردات أسماء الجنس المذكرة في اللغة الإنجليزية فقط، باعتبارها لغة عولمية فرضتها هيمنة دكتاتورية رأس المال الأنغلوسكسونية. كما أنه لا ينطبق على أي لغة أخرى لمن يعي جوهر اللغة كأداة للتواصل الإجتماعي. ماهو المصطلح الذي تستخدمة الأمم المتحدة بهذا الصدد؟ إنه مصطلح: (Gender-inclusive language)؛ أي "اللغة الشاملة للجنسين" – مثل اللغة العربية – وليست اللغة التي تلغي أبنيتها التأنيث، مثل اللغة الإنجليزية. وعليه، فإن محاولة ترحيل إرشادات النسخ واللصق الجنوسي من اللغة الانجليزية بتعميمها عمياوياً عبر اللغات هي محاولة ساذجة، لكونها غير مدعمة ولا مستندة على وعي الطبيعة المتفردة لكل لغة من لغات العالم، ولا إدراك كيفية اشتغالها وقوانين سيرورة تغيرها، ناهيك عن كونها مضيعة للوقت وللجهد. اللغة ليست مثل نمط الإنتاج الرأسمالي الذي يمكن فرضه فرضاً على الشعوب؛ ولا هي بضاعة تستورد وتستبدل؛ اللغة أداة تواصل اجتماعي راسخة خاصة بثقافة الناطقين بها حصراً. وكل لغة تقطِّع العالم (أي تصنِّفه) نحوياً على نحو مختلف. فمثلا، نظام الفئات النحوية للعدد في اللغة العربية يميز صرفياً بين المفرد والمثنى والجمع (لنضع جانباً جموع القلة والكثرة وجمع الجموع)، في حين أن نظام العدد النحوي في الإنجليزية يميز صرفياً بين المفرد والجمع فقط، ويعبِّر على المثنى بالمفردات الدالة على العدد "إثنين". فإذا ما أردنا جعل اللغة الإنجليزية تميز المثنى نحوياً مثل العربية، فسيتوجب علينا تغيير كل النظام الصرفي الإنجليزي للأسماء والافعال والصفات والضمائر واسماء الإشارة برمته. نفس الشيء ينطبق على كل الفئات النحوية المستخدمة عبر اللغات، ومنها التأنيث والتذكير، ومع ذلك ستواصل الذكورية الاجتماعية استمرايتها، بل وحتى تغولها.
يتبع، لطفاً.