-ألصابئون في القرآن الكريم- للأستاذ المتمرس الدكتور عبد اللطيف علوان الجميلي
حسين علوان حسين
الحوار المتمدن
-
العدد: 8506 - 2025 / 10 / 25 - 16:47
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
تمهيد
شرَّفني أستاذي الفذ الدكتور عبد اللطيف علوان الجميلي – صاحب الأيادي البيضاء علمياً واجتماعياً عليَّ شخصياً وعلى عديد أساتذة اللغة الانجليزية ممن دَرَسوا ودرَّسوا في أقسام دراسات اللغة الانجليزية الأولية والعليا لكليات جامعات بغداد والموصل وديالى والقادسية ودهوك والحلة منذ ثمانينات القرن الماضي وإلى اليوم – الموافقة على إلتماسي منه الطباعة والنشر بإسمه لورقة كتبها بخط يده الأنيق للموضوع أعلاه؛ وفيها يظهر مدى سعة ودقة تتبعه لتأصيل دلالات المفردات المختلف عليها في القرآن الكريم.
نص الورقة:
" "ألصابئون" في القرآن الكريم
إبتداءً، أود ألتنويه بأن ما أناقشه هنا لا يزيد عن كونه محاولة لتحديد المعنى الصحيح لمفردةٍ واردة في القرآن الكريم إختلف المفسرون في تفسيرها، وهي كلمة "الصابئون"؛ وَقّد لا تكون تخصُّ طائفة "الصابئة المندائيين" في العراق.
ترد كلمة "الصابئون" في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع، أولها في "سورة البَقَرة"، الآية (62):
"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"
والموضع الثاني، في "سورة المائِدة"، الآية (69):
"إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَٱلنَّصَارَىٰ مَنۡ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ"
وأخيراً، في الآية (17) من"سورة الحِج":
"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ"
يُلاحظ، بنيوياً، من نص الآيات الثلاث أعلاه ما يلي:
أولاً: أن آيتي البقرة والمائدة هما بمعنى واحدٍ، مع التغيير في تسلسل المعنيين؛ حيث جاءت كلمة "الصابئين" في سورة البقرة بعد كلمتي "اليهود" و "النصارى"، في حين أنها جاءت في آية المائدة بعد "الذين هادوا". ولمّا كان من المعروف أن أيَّ تغيير بنيوي في لغة القرأن لا بُد أن يفيد غرضاً دلالياً ما؛ لذا، فإن من المسلَّم به أن "الصابئين" لا يمكن أن يكونوا من "النصارى" لأن المفردة الأخيرة قد ورد ذكرها بعدهم.
ثانياً، وهو الأهم: أن الآيتين الأولى والثانية تستثني الصابئين عن أصحاب الكتاب من المؤمنين (المسلمين) واليهود والنصارى.
ثالثاً: أن الآية الثالثة تختلف عن كلٍ من الآية الأولى والثانية بذكرها كل أتباع الديانات من الموحِّدين والمشركين. كما أنها لا تعطي تقييماً لما يَعبُد هؤلاء، ولا تُحدد مصائرهم، بل تَذْكر أن الله هو الذي يفْصِل بينهم يوم القيامة. وبالمقارنة، نجد أن الآيتين الأوْلَيَيْن تنتهيان بجملة الوصل التي هي في الواقع نعت لما قبلها، والتي تؤكّد أن كل مَن ذُكر قبلها هم مؤمنون، وأنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وأهم ما أكّدت عليه الآيتان هو الإيمان بالله وباليوم الآخر؛ لذا، لم يُذكر المشركون أو المجوس في هاتين الآيتين، مما يعني أن الصابئين موحِدون، وأن"المجوس والذين أشركوا" لا يمكن أن يكونوا كذلك.
فمن هم الصابئون، إذاً؟
نستعرض أدناه ما ورد في بعض التفاسير.
نبدأ أولاً بأصل كلمة "صابيء"، حيث يتفق المفسرون أن "الصابيء" هو مَن خَرَجَ مِن دِينٍ إلى دِينٍ آخر (الراغب، 2008: 284)؛ أو "المستحدِث سوى دِينه ديناً"، على حد قول الطبري. وكذلك يقول مخلوف في "صفوة البيان لمعاني القرآن" أن الصابيء هو من خَرَجَ من دِينٍ إلى دِين آخر. غير أن المفسرين اختلفوا في ماهية الدين الذي خَرَجَ إليه الصابئون موضوعو البحث؛ إذ يقول مخلوف أنهم: "قوم يعبدون الكواكب والملائكة، ويزعمون أنهم على دين صابيء بن شيت بن آدم"؛ فيما يقول الراغب أنهم قوم على دين نوح، مما يعني أنهم مُوحِّدون. أما الصابوني، ففي تفسير الآية (62) من سورة البقرة يصفهم بأنهم قوم "عدلوا عن اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة" (ج1: 62)، ولكنه في تفسيره للآية (69) من سورة المائدة يحددهم بأنهم قوم من النصارى عبدوا الكواكب؛ وفي تفسير الآية (17) من سورة الحِج يقول أنهم قوم يعبدون النجوم (ج2: 27) (تُلاحظ الفروقات في التعريف). أما عند الجوهري، فالصابئة هم: "جنس من أهل الكتاب" (578).
أما في تفسير الجلالين - الذي لا نجد بداً من التنوية إلى أن جلال الدين المَحَلِّي فسّر من القرآن إلى سورة الكهف، ثم أوصى أن يقوم جلال الدين السيوطي بتكملة التفسير، وهو ما أوضحه السيوطي في مستهل تفسير سورة الكهف – فنجد أن السيوطي قد اختلف مع المحلي في تفسير كلمة "الصابئون". فحين عرَّفهم المحلي بأنهم "طائفة من اليهود"، ذكر السيوطي أنه زاد عليهم: "أو النصارى" في سورة البقرة، وذلك بياناُ منه لـ "قول آخر". والغريب أن السيوطي في كتابه: "لُباب النقول في أسباب النزول" المنشور على هامش تفسير الجلالين يورد بسند جيد نص الحديث الآتي عن الصحابي سلمان الفارسي:
"سألت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّـم عن أهل دين كنت معهم، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم، قال: هم في النار. قال سلمان: فاظلمت عليَّ الأرض، فنزلت، فكأنما كُشف عني جَبَل". ويعزز السيوطي هذا الحديث في رواية أخرى عن الصحابي السديس.
ويقدم الطبري تفصيلاً بيّناً عن الصابئين حيث يؤكد أنهم ليسوا يهوداً ولا نصارى، بل هم أهل دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل يقولون: "لا إله إلا الله"، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول لا إله إلا الله. ويورد رواية أخرى أنهم يستقبلون القبلة ويصلون الخَمْس، ويؤكد في رواية ثالثة أنهم أصحاب سلمان الفارسي قبل إسلامه. ويصفهم البغوي على أنهم قوم آمنوا قبل البعث، وهم طلاب الدين أمثال حبيب النجار وقُس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وأرباب إبن رئاب وبحيرا الراهب ووفد قريش للنجاشي - ونضيف نحن إليهم الشاعر الحكيم زهير بن أبي سلمى المزني – ومنهم من أدرك النبي وبايعه.
خلاصة القول أنه في الوقت الذي يمكن أن يكون فيه أي من أهل الكتاب مشركاً هو احتمال وارد - وهذا ما أكَّده سبحانه وتعالى في سورة يوسف وفي الآية (106) بالتحديد: " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون"- ولكن أن يكون أي من المشركين موحداً فهذا مستحيل لأنه مشرك أصلاً. فالصابئون الوارد ذكرهم في القرآن الكريم هم الجماعة التي عرفت بالموحِّدين أو الأحناف أو أصحاب سلمان الفارسي قبل إسلامه، فهم موحدون دون نبي أو كتاب وذلك قبل نزول الرسالة المحمدية.
هذا ما مكَّننا الله منه والله أعلم.
"رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" (سورة البقرة: الآية 286)."