عبد الحسين سلمان عاتي والإبادة الجماعية لمصادر التاريخ (3)
حسين علوان حسين
الحوار المتمدن
-
العدد: 8527 - 2025 / 11 / 15 - 02:39
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تلفيق إحالة تاريخ اليهودية والمسيحية على تاريخ الإسلام
اعود لنص الفقرة الأولى التي ترجمها لنا المهندس الكيمياوي عبد الحسين سلمان عاتي من كتاب خزعبلات وأساطير خدم الفاتيكان، كل من الأمي في التاريخ أودون لافونتين والقس الكاثوليكي الفرنسي إدوار ماري والمشرف على أطروحته للدكتوراه رولان مينرات، رئيس أساقفة ديجون:
"لنتناول الآن الشخصية التي ستُقدم على أنها نبي الإسلام العظيم، المعروف بـ"محمد"، الواعظ والقائد لدى بعض عرب قريش في بداية القرن السابع. لم يحفظ التاريخ اسمه الحقيقي؛ بل احتفظ بلقب "محمد" فقط، الذي أصبح فيما بعد اسمه المميز في التراث الإسلامي. سنستكشف كيف ولماذا نُسب هذا الاسم إليه، وربما إلى آخرين. لا يُعرف عنه الكثير على وجه اليقين. لم تبدأ الأدبيات الإسلامية عنه (التراث الإسلامي) في الظهور إلا بعد 100-150 عامًا على الأقل من حياته، ولا توجد مخطوطات من تلك الفترة. علاوة على ذلك، فإن الغالبية العظمى من هذه الأدبيات أحدث عهدًا. أُنتجت ونُشرت تحت إشراف صارم من سلطة الخلافة المهيمنة، ليس بدافع الالتزام بالدقة التاريخية، بل لأغراض سيرة ذاتية وتفسيرية، بهدف تبرير المرجعية نفسها من خلال تبرير الإسلام، الذي بدوره يعززها. سنقدم المزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع. الوثائق المعاصرة (وبالتالي غير الإسلامية) نادرة، وقد أُتلفت العديد منها عمدًا، مما دفع بعض الباحثين إلى التشكيك في الوجود الفعلي لمحمد. ومع ذلك، يبدو أن محمدًا تاريخيًا وُجد بالفعل، وإن كان مختلفًا اختلافًا جوهريًا عن "نبي الإسلام" الموصوف في الأدبيات اللاحقة. من المرجح أن محمدًا التاريخي قاد فصيلًا من عرب قريش خلال الغزوات العربية المسلحة المبكرة للشرق الأوسط، مما يشير إلى أن وجوده ضمن هذه الفصائل عادةً ما يعني وجود قائد مميز. إن إعادة التقييم النقدي للتراث الإسلامي، مسترشدةً بالاكتشافات المتعلقة باليهود النصارى، تتيح فهمًا أكثر دقة. "
انتهى النص المقتبس
وقد تبيّن لنا في الحلقة الأولى أن الدليل الخارجي على وجود الرسول محمد بن عبدالله توثقه – لحد اليوم – على الأقل مخطوطتا جامعة بيرمنغهام (التي تتضمن الآية "طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) ومخطوطة جبل سلع المعاصرتين تاريخياً لحياته. ولكون تعزيز الدليل التاريخي المكتوب الواحد بدليل ثانٍ هو أكثر من كاف (الدليل التاريخي الواحد يكفي تماماً لكونه يفرض الفيتو على نفيه)؛ لذا، فلن أسترسل بإيراد الأدلة العديدة الأخرى بهذا الشأن. علماً بأن سجلات التاريخ العربي قد حفظت للبشرية أدق التفاصيل الواقعية (السلبية والايجابية) لأعمال وأقوال شخصية الرسول محمد بن عبد الله، وذلك بأكثر مما نعرفه الآن عن أي نبي آخر في العالم؛ وبالتأكيد قطعاً أكثر مما نعرفه عن سيرة عن أي قائد آخر عرفه التاريخ حتى زمنه. وقبره موجود في المدينة المنورة، وكذلك تتوفر العديد من مقتنياته الشخصية في متحف آيا صوفيا وطوب كابي وغيرها من المتاحف الإسلامية، ناهيك عن الدليل القاطع الحاسم المتمثل بقرآنه المجيد الموجودة نسخته الأصلية ذات الحجم الكبير المكتوبة بالخط الكوفي والعائدة للخليفة عثمان بن عفان نفسه (قتل سنة 656 م ، وآثار دمائه موجودة عند الآية الخامسة من سورة البقرة لنسخته الأصلية من المصحف المذكور) الموجودة اليوم في طشقند بأوزبكستان (مصحف سمرقند) – مكتوبة على الرق الكبير - والتي نقلها تيمورلنك من مسجد علي في البصرة إلى سمرقند. حيث بقيت هذه النسخة محفوظة هناك حتى عام 1869، عندما تم نقلها بأمر القيصر الروسي من سمرقند الى قسم المخطوطات القديمة بالمكتبة الامبرطورية في بطروغراد. ثم، فور قيام ثورة اكتوبر الاشتراكية، وبتاريخ 9 كانون الأول، 1917، فقد كتب فلاديمير لينين إلى وزير الثقافة لونا تشارسكي يقول:
"وَرَدَ إلى مجلس مفوضي الشعب كتابٌ من مؤتمر المسلمي الإقليمي لدائرة بيتروغراد القومية يطلب فيه المؤتمر بغية تلبية أماني جميع مسلمي روسيا إعادة نسخة عثمان من المصحف الشريف الذي يُحفظ الآن في المكتبة الحكومية العامة إلى المسلمين ليكون ملكاً لهم."
وبعد صدور قرار مجلس مفوضي الشعب بتسليم قرآن عثمان للمسلمين فوراً، فقد أوكل فلاديمير لينين بلونا تشارسكي مهمة الإشراف على عملية التسلم والتسليم، وهذا ما حصل.
المصدر:
محيي الدين بابا خانوف: "نسخة الخليفة عثمان بن عفان .. لها قصة!": مجلة العربي، العدد 322 / ايلول 1985 ص 38-41.
هكذا يحرص الشيوعيون الحقيقيون على تراث شعوبهم وتراث كل شعوب العالم؛ أما أذناب الصهيوإمبرياليين فيعملون كل شيء لإبادة وسرقة كل تراث وتراث، علاوة على إبادة الشعوب!
نأتي الآن إلى كذبة:" علاوة على ذلك، فإن الغالبية العظمى من هذه الأدبيات أحدث عهدًا. أُنتجت ونُشرت تحت إشراف صارم من سلطة الخلافة المهيمنة، ليس بدافع الالتزام بالدقة التاريخية، بل لأغراض سيرة ذاتية وتفسيرية، بهدف تبرير المرجعية نفسها من خلال تبرير الإسلام، الذي بدوره يعززها. "
هذا الكلام يتطبق بنصه وفصه على التاريخ السياسي لسلطة الدول اليهودية والمسيحية وليس أبداً على تاريخ الإسلام الذي لا توجد فيه سلطة الكهنوت ولا المرجعية الحاخامية ولا البابوية. أصحاب المذاهب الإسلامية الرئيسية: الحنفية والشافعية والشيعية الإثني عشرية والشيعية الزيدية والشيعية الإسماعيلية والحنبلية والمالكية والإباضية كلهم تعرضوا لأشد أنواع القتل والتنكيل من طرف الخلفاء المسلمين، فيما كان بابوات الفاتيكان والقسطنطينية يحكمون كل بلدان أوربا ويعينون ملوكها وأمراءها ويقيلوهم على هواهم؛ ويهرطقون من يريدون من أخلص الطوائف المسيحية، ويأمرون بشن الحرب الصليبية الواحدة تلو الأخرى ضد المسلمين، فيسارع في التطوع لقيادتها أتباعهم الملوك والأمراء من أوربا.
وفيما كان بابوات روما والقسطنطينية يهرطقون في المسيحية كل رأي أو اعتقاد يعتبرونه مخالفاً للعقائد "الصحيحة" لكنيستهم الكاثوليكية القائلة بالتأليه وبالتثليث، ويحاربون غيرها عبر عقد المجامع الكهنوتية لتقرير ما يُعتبر هرطقة أو عقيدة صحيحة - كما حدث في مجمع نيقية ومجمع خلقيدونية - ويأمرون بذبح وطرد غير المسيحيين الكاثوليك وشن الحروب الصليبية ضد المسلمين، فقد تبوأت العديد من الشخصيات المسيحية أرفع المناصب الوزارية في الدولة الأموية والعباسية والفاطمية - بضمنها منصب الوزير الذي كانت تُوكل إليه صلاحيات استثنائية، وتكون كلمته من كلمة الخليفة– دون أن يكونوا من المسلمين. فقد بلغ اعتماد الخلفاء الأمويين على المسيحيين في إدارة شؤون الدولة حدّاً كانت معه عائلة القديس يوحنا الدمشقي قوية الصِلة جداً بالخلافة الأموية (رغم أن الأخير في مؤلفاته الهجائية يصنّف المسلمين كـ "طائفة مسيحية مهرطقة لعدم اعترافهم بإلوهية المسيح وبالتثليث"، ويعتبر محمداً "نبياً كذاباً" (كذا! ومن يمتلك ذرة من عقل يقبل بتأليه البشر؟) مع كونه هو الذي اشتغل بنفسه مع أبيه وجده وزيراً عند خلفاء محمد!). ولقد عمل والده سرجون وجده منصور الرومي ويوحنا نفسه مسؤولين بارزين في البلاط الأموي طوال فترة خلافة معاوية ويزيد ومروان، إذ تقلّدوا ديوان الخراج المركزي في العاصمة دمشق، علاوة على اشتغالهم مستشارين سياسيين لأولئك الخلفاء . وكان الخليفة يزيد بن معاوية يستشير سرجون بن منصور الرومي في الأزمات ويسأله الرأي، حتى أن سرجون لعب دوراً غير مباشر في وقوع معركة كربلاء، بعدما أشار على يزيد بتولية عبيدالله بن زياد حُكم الكوفة، وهو ما تسبّب لاحقاً في وقوع الصدام بينه وبين الحسين حفيد الرسول، والذي انتهى باستشهاده مع أصحابه في واقعة الطف بكربلاء عام 61هـ . كما كان إبن أثال هو المسؤول القبطي الأبرز في العهد الأموي عندما أصبح الطبيب الأول للخليفة معاوية بن أبي سفيان الذي ولاه حُكم ولاية حمص بعد نجاحه في تصفية عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بدس السم له بأمر معاوية. وشغل المسيحي يوحنا بن ماسويه منصب رئيس خزانة بيت الحكمة من طرف الخليفة هرون الرشيد الذي جعله مشرفاً على جميع المدارس في بغداد، وبقي على مكانته الرفيعة هذه مع الأمين ثم المأمون وحتى المتوكل الذي مات في عهده. أما النصراني الشهير نصر بن هارون فقد استوزره عضد الدولة بن ركن الدولة الحسن بن بويه. كما عيّن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله زرعة بن عيسى بن نسطورس وزيراً له سنة 401هـ ، فيما شغل والده عيسى بن نسطورس منصب الوزارة، أيضاً، وذلك في عهد الخليفة العزيز بالله سنة 383هـ. وكان أبو المظفر بهرام الأرمني - المسيحي الديانة والأرمني الجنسية – هو وزير الخليفة الفاطمي الحافظ سنة 529هـ، والذي لُقب بـ"سيف الإسلام، تاج الملوك"!
المصدر:
https://raseef22.net/article/1086546-%D9%88%D8%B2%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%AD%D9%8A%D9%88%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9
والآن، فليقل لنا هذا الأفّاك أودون لافونتين: مَنْ مِنَ الملوك المسيحيين في أوربا سمح لعربي مسلم واحد أن يشتغل وزيراً أو حاكماً أو مستشاراً عنده طوال الفترة ( 660 - 1160م) ؟ الجواب: لا يوجد! لماذا؟ الجواب: لأن " الغالبية العظمى من الأدبيات المسيحية أحدث عهدًا من عصر المسيح؛ وقد أُنتجت ونُشرت تحت إشراف صارم من سلطة كهنوت البابوات المهيمنة على كل ملوك أوربا، ليس بدافع الالتزام بالدقة التاريخية، بل لأغراض سيرة ذاتية وتفسيرية، بهدف تبرير المرجعية البابوية نفسها من خلال تبرير الكاثوليكية والحكم بهرطقة أتباع غيرها".
وتؤكد العديد من المؤلفات المعاصرة المنصفة لأشهر المؤرخين الغربيين التي تتناول الفتوحات الإسلامية أن المسيحيين وغيرهم من أهل الذمة قد استفادوا من انتصار المسلمين على البيزنطيين والفرس في سوريا وفلسطين والعراق ومصر وبلاد فارس والأراضي المجاورة. حيث يشير المؤرخ الأمريكي والاستاذ المتمرس في جامعة كاليفورنيا الدكتور: لابيدوس إلى انتعاش الطوائف الدينية المسيحية واليهودية، مثل: الملكيين، واليعاقبة، والنساطرة، والمساليين، والهرمسيين، والمرقيويين، والديسانيين، والإلكاسيين، والمندائيين، والكلدانيين في ظل الخلافة الإسلامية لتخلصهم من عداوة قياصرة بيزنطة لهم بتهمة الهرطقة.
المصدر:
Lapidus, Ira. M. (2013) Islamic Societies to the Nineteenth Century: A Global History, Cambridge University Press, p. 194.
كما يوضح نفس المؤلف في كتاب آخر ارتباط المسلمين بإعادة تنظيم الكنيسة المسيحية نفسها.
المصدر:
Lapidus, Ira. M. (2018) A History of Islamic Societies, Cambridge University Press, p. 43.
ويُعزى انتعاش الجماعات غير المسلمة في ظل الإسلام إلى سياسة الخليفة عمر بن الخطاب التي منعت المنتصرين المسلمين من فرض الإسلام على غير المسلمين من أهل الكتاب ولا التدخل في شؤونهم الداخلية مقابل دفعهم الجزية. طبعاً، لم تكن العلاقة بين اتباع الدينين دوماً سمناً على عسل في ضوء تجاذبات الحروب الدينية المتواصلة بين الدول الاسلامية والروم البيزنطيين حتى عام 1453 عندما فتح العثمانيون القسطنطينة. أما بالنسبة لليهود، فإن وقائع التاريخ تشهد أنهم – لغاية صدور وعد بلفور عام 1917 الذي مهّد لاغتصاب الصهاينة أرض فلسطين وتشريد وإبادة شعبها – كانوا في ظل الحكام المسلمين في البلدان كافة بحال أفضل بما لا يقاس عن حالهم في كل دول أوربا من عام 600 للميلاد حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945.
يتبع، لطفاً.