اللغات محايدة الجنس النحوي والنظام الأبوي وأمومية اللغة العربية (2)
حسين علوان حسين
الحوار المتمدن
-
العدد: 8559 - 2025 / 12 / 17 - 13:38
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
موجز بنشأة وتطور النظام الأبوي
نشأ النظام الأبوي في تاريخ المجتمعات البشرية مع بدء ظهور التمايز الطبقي في خضم الصراع للاستحواذ على فائض الإنتاج الاجتماعي، وذلك بفعل التفاعل المعقد الطويل الأمد والمتفاوت زمكانياً بين العوامل الإقتصادية والاجتماعية والسياسية القائمة. فقد أدى ظهور الزراعة المستقرة إلى خلق الثروة الفائضة (الأرض، المحاصيل الزراعية، الماشية) التي سعى الرجال إلى السيطرة عليها بفعل حيازتهم للقوة البدنية الأكبر والتي ساهمت في هيمنتهم المبكرة على تلك الثروة عبر فرض الملكية الخاصة ونقلها إلى ورثتهم. وهو ما أدى بدوره إلى قيام أنظمة القرابة العائلية الرسمية والزيجات التعاقدية. ولضمان الميراث، سعى الرجال إلى السيطرة على الإنجاب من خلال التحكم بالحياة الجنسية للمرأة بحصرها ضمن إطار العائلة، وهو ما أدى إلى فرض القيود على استقلالية المرأة وحياتها العامة. كما تطلبت الزراعة المكثفة والحروب المزيد من العمالة والجنود (الأبناء من الذكور)، مما أفضى إلى تثمين إنتاج الذكور وتكاثرهم على حساب الإناث، وإلى دفع النساء إلى الأدوار المنزلية. وتطلب نشوء الدولة خلق أنظمة للتسلسل الهرمي السياسي والبيروقراطي والطبقي حيث يقدم رجال النخبة الحماية القانونية لحقوق الملكية والالتزامات المدنية والأمنية والادارة الاجتماعية والمنافع العامة، بغية فرض سلطتهم على السكان فيما سمي بالمفهوم التجريدي للعقد الإجتماعي، الأمر الذي رسَّخ المركزية السياسية والقيادة الذكورية الخادمة لمصالح الطبقة الإجتماعية المستغِلة.
وبالطبع، فقد خلقت القاعدة الأقتصادية أعلاه ثقافتها الخادمة لمصالحها الذكورية مثل تشريع استغلال الإنسان للإنسان (كان أرسطو يقول أن النظام العبودي إنما يصب في مصلحة العبيد أنفسهم لكون جنسهم متلائم "طبيعيا" (كذا!) مع الاستعباد، وهو ما استند عليه الفاتيكان في شرعنته الاستعباد الأوربي للشعوب المقهورة في الأمريكتين وآسيا وفريقيا وأستراليا)، وبضمنها اللغة التي تميز بنيوياً بين الجنسين، مما جعل هيمنة الذكور تبدو أمراً طبيعياً متأصلاً.
إذاً، فالتحيز اللغوي إنما ظهر وتمت إدامته وتطويره تاريخياً كـ "نتيجة" لسواد النظام الأبوي، وليس أبداً "سبباً" له.
ماذا تعني هذه الحقيقة التاريخية ؟ إنها تعني بالضبط أن المسالة الأساسية والحيوية المتمثلة بتحرير المرأة ومساواتها بالرجل إنما هي مرتبطة بالثورة الإجتماعية عبر النضال السياقتصادي ضد كل نوع من أنواع إستغلال الإنسان للإنسان بتحرير العمل عبر تشريك وسائل الإنتاج الإجتماعي – الجذر الأول المؤسس للمجتمع الذكوري - واعادة توزيع الانتاج وفق الحاجات الاجتماعية. وستحتاج المنظومات الثقافية للمجتمعات (وبضمنها اللغة) فترة طويلة بعد التحرير الكامل للمرأة والمجتمع ككل كي تواكب هذا التطور الإفتصاجتماسي.
ويلاحظ أن سواد المجتمع الذكوري قد تطور وتماهى تاريخياً مع كل النظم الإجتماعية الطبقية التي عرفها التاريخ: العبودية، الرق، دكتاتورية راس المال. كما التحقت بركبه الذكوري كل الأديان لتكريس هيمنة ومصالح النظام الأبوي، وخصوصا اليهودية والمسيحية والإسلام التي أقصت المرأة تماماً عن لعب أي دور إيحابي مهم حتى في مؤسساتها الدينية نفسها، ناهيك عن إلغاء ادوارها الاقتصاجتماسية القيادية والمؤثرة.
ولقد خلقت هيمنة دكتاتورية رأس المال أبشع نمط لـ "الأبوية الجديدة" والتي لم يعرف لها التاريخ مثيلاً من قبل: سيطرة البرجوازية على المرأة عبر إجبارها على ممارسة العمل الأجير والخضوع إلى قوانين سوق العمل التبادلي، فأصبح تسليع قوة عملها – علاوة على تسليع جسدها – مصدراً للثراء الرأسمالي الفاحش، خصوصاً وأن التمييز الإقتصاجتماسي ضدها يتيح للبرجوازبة غبن اجورها على نحو أجحف بكثير من الرجال، كما هو الحال في الإنتاج المعولم الذي يغلب عليه العنصر الأنثوي. وتشير الأحصاءات الموثقة إن نسبة دخل المرأة إلى دخل الرجل عالميًا تبلغ حوالي 52% في عام 2025. مع العلم أن هذه الفجوة تتسع مع التقدم في السن، لا سيما في سنوات الإنجاب. كما تتركز النساء غالبًا في الوظائف ذات الأجور المنخفضة، وتضطرها واجباتها العائلية على العمل بدوام جزئي.
المصدر: البحث على العنوان:
ratio of male-female difference in wages
هذا هو الميدان الحقيقي للنضال من أجل تحرير المرأة عبر ترسيخ الوعي الثوري بضرورة تغيير كل القوانين التمييزية ضدها عن طريق تشريك وسائل الانتاج وتحرير العمل لسد الطريق أمام استغلال قوة العمل البشري، وليس تغيير ضمائر اللغة.
ومثلما كرَّست قوانين دكتاتورية حق أساطين راس المال في تسليع قوة عمل المرأة بإجور مجحفة لنفخ جيوبهم بمليارات الدولارات المسروقة والمشرعنة قانوناً، فإن حاجة أساطين رأس المال لإدامة وجود قوة العمل الرخيص الذي يستحوذون على ثمارها لأنفسهم - في أمريكا مثلا – هي التي أجبرت المحكمة العليا المتعفنة والخادمة لدكتاتورية رأس المال الشمولية فيها عام (2022)على نقض قرارها السابق ( رو ضد وَيْد، (1973)) وذلك بإلغائها للحق الدستوري الفدرالي للمرأة في الإجهاض، مما سمح للعديد من الولايات بتطبيق فرض الحظر شبه التام على إمكانية حصول المرأة على حق الإجهاض في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية.
كيف تسنى للدكتاتورية الشمولية لرأس المال الغربي الرجعي المتعفن في القرن الواحد والعشرين حجب حق الإجهاض عن المرأة الأمريكية وهو أحد حقوقها الطبيعية وليست المكتسبة، والذي استمر يمضيه القانون طوال حوالي 50 سنة؟
الجواب: لنجاح ماكنات إعلامها التضليلية في حرف نضالات الطبقات الاجتماعية المستغَلة ككل والمنظمات النسوية خصوصاً عن ترسيخ حقوقهن القانونية المصيرية الثابتة قانونياً، ومن ثم تطويرها برفعها إلى مستويات أرقى، عبر توجيههن للنضال بغية تغيير القشور، على غرار الفوز بضمير لغوي محايد مثل (hen) في السويدية والذي لا يغني ولا يسمن من جوع! هل يؤدي استخدام هذا الضمير إلى مساواة المرأة مع الرجل بالأجور في السويد؟ طبعاً، لا. أم هل يؤدي استخدام الضمير اللغوي المحايد إلى خفض مستويات العنف ضد المرأة أو التحرش بها أو تسليع جسدها؟
أمامنا مسابقات ملكات الجمال العالمية المتزايدة والمتجذرة المعايير الأبوية التي تقيّم المرأة بناءً على مظهرها الخارجي بدلاً من شخصيتها أو إنجازاتها. كل هذه المسابقات تتمحور على تشييء المرأة وأختزالها إلى مجرد نماذج جسدية يتم الحكم عليها- إلى حد كبير - من أجل الترفيه و إرضاء "نظرة الرجل"، مما يقوض قدراتها الفكرية ومهاراتها ومساهماتها في المجتمع. كما تفرض تلك المسابقات معايير الجمال المنحازة ثقافياً للرأسمالية الغربية الضارة والمؤثرة صحياً بإجبارها للمتسابقات على اتباع الحميات الغذائية، وتدنّي احترام الذات، والخضوع لعمليات التجميل. ليس كل هذا فقط، بل وتتفشى فيها الفضائح والفساد التظيمي، وهي الخاصية المتجذرة في كل فعاليات خدمة دكتاتورية رأس المال الرجعي المتعفن، وبضمنها التلاعب بالأصوات والتحيز بناءً على العلاقات الشخصية مع القضاة أو المنظمين؛ وعرض الخدمات الجنسية على المتسابقات مقابل الحصول على فرص أفضل للفوز، أو استعراض المتسابقات أمام المستثمرين؛ مع سواد البيئة الذكورية السامة عليها بضمنها التنمر العلني للمنظمين على المتسابقات (في مسابقة ملكة جمال الكون الأخيرة، نَعَتَ أحد المنظمين التايلنديين المتنفذين ملكة جمال المكسيك – التي فازت بعدئذ باللقب – بعبارة "الغبية" بذريعة أنها لم تنشر على مواقع التواصل الاجتماعي ما يريد هؤلاء الذئاب نشره؛ مما دفعها للانسحاب، ولولا تكاتف بقية المتسابقات معها لخسرت اللقب، ببساطة لأن ممثل أساطين رأس المال الشمولي المتعفن هذا قد حكم عليها بكونها "غبية"! ما الهدف الحقيقي وراء هذا التنمر العلني أمام أنظار العالم كله؟ هل لأنها لم "تطاوعه" هو أو من هم خلفه، أم لأن غيرها قد "طاوعته" هو أو من هم خلفه، فتدخل علناً لصالحها بإزاحة منافستها الأقوى؟)
أين هي النضالات المجتمعية الفاعلة التي تكنس مسابقات ذكورية دكتاتورية رأس المال الشمولية المتعفنة المهينة للجوهر السامي للمرأة أم البشر هذه إلى مزبلة التاريخ؟
يتبع، لطفاً.