وداعاً، رفيقي الشيوعي النبيل الكريم: أبا بسيم


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 8563 - 2025 / 12 / 21 - 16:49
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية     

بُعِيد ظهيرة يوم الخميس، 18/12/2025، توقف عن الخفقان القلب الشجاع الكبير لرفيقي وصديقي وزميل العمر والعمل الأستاذ الكبير كاظم محمد حسن القيِّم الشمري (أبو بسيم)، إبن المدحتية النبيل، مربي الأجيال أولاً، ومن بعدها الصيرفي الحصيف، والوجه الإجتماعي المؤثر، والشيوعي المناضل العتيد العنيد.
ورحل عملاق شيوعي عراقي آخر مرفوع الرأس.
ولد الفقيد بناحية المدحتية ("قضاء الحمزة الغربي" حالياً) عام 1944، في عائلة كريمة أشتهرت بسدانة وضيافة زوّار مرقد الإمام الحمزة (بن القاسم بن عليّ بن حمزة بن الحسن بن عبيد الله بن العبّاس بن الإمام عليّ بن أبي طالب)، وبالنضال الوطني والشيوعي، حيث كان عمّه "عيد الحسن العلي" (أبو كاظم) من الرعيل الشيوعي العراقي الأول ممن أمضوا زهرة شبابهم في السجون والمعتقلات، وبضمنها سجن "نقرة السلمان" الرهيب. وكانت ناحية المدحتية وجارتها ناحية القاسم مشهورتين (من بين نواح ومحلات مدينية أخرى عديدة في العراق) بإسم "موسكو العراق" لقوة المد الشيوعي فيها وتغلغله بين بيوتاتها.
تخرَّج الفقيد من مدرسة المدحتية الابتدائية للبنين، ومن بعدها ثانوية المدحتية عام 1963، ثم كلية الشريعة/ جامعة بغداد، عام 1967، ليتم تعيينه في السنة الأخيرة مدرساَ على الملاك الثانوي في وزارة التربية العراقية.
لوحق وهو طالب في الثانوية من طرف رجال الأمن في زمن عبد الكريم قاسم عام 1962، وتفادى الاعتقال بالاختفاء في البساتين التي تمتلكها عائلته. وفي السنة 1963 التي شهدت انفلاب 8 شباط الأسود، القي القبض عليه وعُذِّب في أقبية مقر "التّرَس قومي البعثي" بقصر أنور الجوهر في مدينة الحلة، ورُحّل بعدها إلى معتقل "خلف السدة" ببغداد، وقُدم للمحاكمة العرفية في قاعة الشعب الملاصقة لمبنى وزارة الدفاع، حيث تم اطلاق سراحه بتاريخ 2/12/1963 ليلتحق بكلية الشريعة متأخرا عن زملائه المقبولين فيها لشهرين، ويجتاز المرحلة الاولى بنحاح باهر.
أثناء دراسته في ثانوية المدحتية، انظم الفقيد لصفوف الإتحاد العام لطلبة العراق وعمره 15 سنة، وكان يتولى وهو فتى (عام 1957) نقل المنشورات الشيوعية من عمه عيد الحسن العلي إلى منظمة الحزب في ناحية القاسم. وحصل على عضوية الحزب الشيوعي العراقي وعمره 17 سنة. وكان من بين مجايليه ورفاقه من الشعراء الغنائيين كل الشاعر الكبير كاظم الرويعي وزامل سعيد فتاح وطارق ياسين والفنان كوكب حمزة. كما كان من رفاقه في الثانوية الفنان سليم الجزائري (شقيق كل من الشهيد الشيوعي المغدور صالح الجزائري والمناضل الشيوعي الكبير مفيد الحزائري) حيث اشتركا معاً بتقديم المسرحيات الوطنية على خشبة مسرح الثانوية. كما واصل العمل في صفوف الحزب الشيوعي العراقي خلال دراسته الجامعية في كلية الشريعة وكان من بين رفاقه وقتها: الشاعر الكبير كاظم الحجاج.
بعد تعيينه مدرساً على ملاك التعليم الثانوي، مارس التدريس في متوسطة الزبيدية (1967-1970) ومن بعدها في متوسطة الجمهورية بالحلة (1970/1971)، ثم انتقل في السنة الأخيرة للتدريس في ثانوية المدحتية. وقد اشتهر الفقيد بين زملائه وطلابه استاذاً متميزاً في المقدرة على توصيل المادة العلمية لطلابه بيسر، وفي تذليل الصعاب وتكوين الصداقات والعلاقات الاجتماعية المؤثرة بفضل قوة شخصيته وطول أناته وبعد نظره ولين عريكته والابتسامة الاثيرة التي لا تكاد تفارق شفتيه، حتى أنه أسمى ابنه البكر بـ "بسيم" (الحاصل على شهادة الماجستير في اللغة العربية، والمشرف التربوي في المديرية العامة للتربية / بابل، حالياً).
وفي زمن الجبهة الوطنية (1974-1979) عمل الفقيد ممثلاً للحزب الشيوعي العراقي بمنظمة الجبهة في قضاء الهاشمية، ومسؤولاً تنظيمات الحزب الشيوعي في القاسم، وعضواً في مختصة المعلمين ببابل ولتي كان يقودها وقتئذٍ الشهيد فاضل حسن وتوت.
في عام 1980، صدر أمر إداري أستثنائي وغريب بتوقيع المجرم المعدوم طه ياسين رمضان عندما كان يشغل منصب النائب الأول لرئيس الوزراء يقضي بنقل مجموعة كبيرة من المدرسين والمعلمين في محافظة بابل حصراً ممن رفضوا الانتماء لحزب البعث الحاكم من ملاك وزارة التربية إلى ملاك وزارة المالية والعمل والشؤون الاجتماعية. وكان من ضمن الأساتذة المنقولين بموجبه كل من الفقيد ابو بسيم والشاعر ومدرس اللغة العربية الفذ المرحوم حاكم حسن فياض ومدرس اللغة العربية القدير صالح صاحب علوش ومدرس الأحياء كامل حمزة هندي ومدرس الرياضيات شبيب لازم الأعرجي ومدرس التاريخ عباس ابراهيم والمعلم عبد الأمير شناوة والأديب الكبير ناجح المعموري وكاتب هذه السطور حسين علوان حسين. ولقد كان لأمر النقل هذا أسوأ الأثر على تسلسل الدرجة الوظيفية والراتب الشهري لكل المدرسين المنقولين بموجبه، كما تراكم تأثيره المادي ليبلغ معدل غبن لا يقل عن 400000 دينار في الراتب التقاعدي لكل المدرسين والمعلمين المنقولين بموجبه.
عملت مع الفقيد أبي بسيم في مصرف الرافدين فرع الحلة/5، ثم (بعد تأسيس مصرف الرشيد) في مكتب المراقبة على فروع مصرف الرشيد في محافظات بابل والديوانية والنجف وكربلاء والمثنى والكوت وديالى، حيث كان الفقيد يتراس هيئة تفتيشية قوامها خمسة مفتشين تدقق أعمال وحسابات 40 فرعاً للمصرف. ثم شغل إدارة مصرف الرشيد فرع الهاشمية ومن بعدها إدارة مصرف الرشيد فرع الفيحاء.
إبان انتفاضة آذار الشعبية لعام 1991، وباعتباره شخصية اجتماعية مرموقة، مسموعة الكلام وذات اعتبار شعبي، فقد جاهد الفقيد بأقصى ما باستطاعته لمنع العناصر المنفلتة والمندسة بين صفوف الثوار من العبث ببنايات وبيوت البعثيين الهاربين من المدينة هم وعوائلهم؛ وبالفعل، فقد نجح في منعهم من حرق دار المسؤول البعثي الهارب: راسم مسير الشمري، فيما لم تفد تشبثاته ولا توسلاته المشهودة في منع حرق بناية منظمة حزب البعث للمدينة. وبعد فشل الانتفاضة، وبدلاً من العرفان بجميله جراء مساعيه الحميدة تلك، فقد تم استدعاؤه لمبنى قيادة فرقة المدحتية لحزب البعث العميل بغية تلفيق التهم ضده، وكسر رقبته كيدياً وحقداً أعمى. ولولا التدخل القوي لطلابه السابقين العاملين في دائرة أمن المدحتية لكان الفقيد قد أصبح في عداد مئات آلاف الشهداء العراقيين الأبرياء للانتفاضة المذكورة ...
بعد نقله من مكتب الرقابة لفروع المنطقة الوسطى لإدارة فرع مصرف الرشيد في الهاشمية دون علمه ولا رغبته، إتصل الفقيد بي هاتفياً وعاتبني على نقله الذي سعيت فيه، وأوضح لي في حينها أنه قد أصبح عرضة لمحاربة منظمة حزب البعث العميل في الهاشمية، فقلت له: "أنت قدَّها وقدود: صيرفي ممتاز ونظيف اليد وأقوى مركزاً اعتبارياً واجتماعياً من كل أزلام البعث!" وسألته: "أيهما أفضل لمصلحة العراق: قيامك أنت الشريف العفيف اليد واللسان بإدارة فرع المصرف، أم إدارته من طرف بعثي زنيم يستقوي بمسدسه وبدلته الزيتونية على مقدرات الشعب؟" فردّ علي الفقيد مؤيداً وهو يقول: "ما ذا أبقيت لي من القول؟"
ولقد صدق حدسه؛ ففي غضون أقل من شهر، أصدر المدير العام لمصرف الرشيد في حينها عقوبة إدارية بدون إجراء أي تحقيق للمدير السابق للفرع بحجة عدم نشره لافتة تهنئة بمناسبة 7 نيسان. عندها، سافر الفقيد لبغداد، وقابل المدير العام للمصرف، وطلب منه أن يوجِّه العقوبة إليه لكونه هو المقصود في القضية بدلا من المدير السابق المنفك من الفرع. وعندما استفسر المدير العام منه عن سبب عدم تعليق اللافتة المطلوبة في الفرع حسب مندرجات التقرير الوارد إليه وزير المالية، أوضح له أن الفرع يحتفط بكل اللافتات المطلوبة في مخازنه حسب التعليمات منذ عدة سنين بغية رفعها في مناسباتها؛ وأخرج له الفقيد من كيس كان يحمله نفس اللافتة المطلوبة، موضحاً أنها كانت معلقة داخل بناية فرع المصرف كي يشاهدها المراجعون بعيداً عن تأثير العوامل الجوية كي يتم رفعها عند حلول يوم نفس المناسبة للعام التالي، فما كان من المدير العام إلا أن اعتذر منه، وألغى كتاب العقوبة على المدير السابق فوراً!
هكذا هي الأخلاق الرفيعة للشيوعيين الحقيقيين.
بعد سقوط الصنم، وعودة النشاط العلني للحزب الشيوعي العراقي في محافظة بابل، نظّم لي الفقيد - عندما زرته في مكتبه لإدارة مصرف الرشيد فرع الفيحاء - استمارة طلب العودة للحزب بصفتي نائب مسؤول محلية بابل وقتذاك. وحال قبول طلبه، فقد كلَّفته محلية الحزب بتأسيس وتشكيل كل من منظمة الشبيبة ورابطة المرأة العراقية وأتحاد الطلبة العام في قضاء المدحتية وضواحيها، فاستلمنا منه في بحر أسبوعين فقط قوائم بتنظيم مهيكل لكل واحدة من المنظمات الجماهيرية المذكورة أعلاه والتي صارت تواصل نشاطاتها بدقة الساعة السويسرية تحت أشرافه. بعدها أصبح الفقيد عضواً في محلية بابل... وبقي شيوعياً نبيلاً حتى آخر نفس...
تحية الفخر والوفاء والوداع المضمخة بالدموع لرفيقي وزميلي وصديقي العزيز الكريم أبي بسيم الراقي، الباقية ذكراه العطرة في وجدان كل من عرفه من رفاقه وأصدقائه وطلابه وزملائه وأهله.. وتعازي القلبية الحارة لأهله الأفاضل، ولأخيَّتي أم بسيم الماجدة، ولأبنائه: بسيم وآزاد وريا ورنا وروناك..