ملاحظات عن اشتراكية الصين (5)


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 8472 - 2025 / 9 / 21 - 19:20
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

اللعب غير العلمي على مفهوم "رأسمالية الدولة"
منذ قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي عام 1917، وإلى اليوم – وحتى المستقبل – ما فتئ أعداء الشيوعية ومنتقدوها يساراً ويميناً عن تنصيب أنفسهم أبطالاً منظّرين من خلال لصقهم ليافطة: "رأسمالية الدولة" لدمغ كل تجربة اشتراكية وليدة - مهما كانت ظروفها وخصائصها وسيرورات تطورها – وذلك حالما تنشأ أي دولة تستلم البروليتاريا مقاليد السلطة فيها بقيادة أحزابها الشيوعية الطليعية، حيثما نبعت تلك التجربة، سواء في جمهوريات الاتحاد السوفيتي أو الصين أو يوغسلافيا أو ألبانيا أو جمهوريات أوربا الشرقية الاشتراكية أو منغوليا أو كوبا وفيتنام ولاوس ... إلخ. يافطة: "رأسمالية الدولة" جاهزة وحاضرة دوماً للتلصيق ضد أنظمة الدول الاشتراكية مهما اختلفت خصائص التطبيقات الاشتراكية لها في كل زمكان عند هؤلاء. والهدف من هذا التلصيق التزويري واضح: إنكار بناء الاشتراكية في تلك البلدان عبر اللعب الشكلي على التضاد الدلالي القطبي السطحي بين الرأسمالية/الاشتراكية المزيفين كمفهومين مثاليين أرسطيين ينفي أحدهما الآخر نفياً تاماً. عند هؤلاء المثاليين المعادين للمادية الديالكتية حد النخاع (ممن عجزوا في تحقيق أيما خدمة حقيقية لمصالح البروليتاريا في أي مكان، عدا محاولة امتطائها لتحقيق مصالحهم الشخصية الأنانية) فإن سيرورة الانتقال من الرأسمالية للاشتراكية إنما هي ضربة سحرية: في هذا اليوم، البلد الفلاني هو رأسمالي، وفي اليوم التالي تستلم بروليتاريته بقيادة حزبها الطليعي الحكم فيه، فتمحوا كل رأسمالييه دفعة واحدة وإلى الأبد وذلك باصدار قانون تشريك وسائل الانتاج، فيصبح البلد - الذي كان بالأمس فقط بلداً رأسمالياً خالصاً - إشتراكياً خالصا ًبضربة سحرية على طريقة التبرير الكهنوتية للخَلق: كُن، فيكون؛ وكل ذلك في عالم يهيمن فيه الجبروت الرهيب للامبريالية الرأسمالية على أسواقه واقتصاده وثروات ومقدرات غالبية شعوب بلدانه، وحيث تشن فيه الأذرع السرية للامبريالية والعلنية من كل نوع الحرب ضد الشيوعية، مسخرة كل إمكاناتها وأسلحتها الحارة والباردة طول الوقت وبلا أدنى هوادة ولا حساب.
كيف يفبرك أعداء الشيوعية ومنتقدوها هؤلاء مندرجات هذه اليافطة؟
أولاً، يلجأ هؤلاء المثاليون الستاتيكيون إلى الفصل التحكمي الميكانيكي التام وعلى طول الخط بين مفهموم "الحزب الطليعي للبروليتاريا" وبين "بروليتاريته"، عبر الفذلكة الكلامية المثالية: "الحزب الفلاني" هو "الحزب الفلاني"، فيما "بروليتاريا البلد الفلاني" هي "بروليتاريا البلد الفلاني"، وهي بالتالي ليست الحزب الفلاني، عبر استخدام منطق قانون الهوية الفاسد جدلياً في المجتمع والاقتصاد والسياسة والفكر. ولكن هؤلاء يسكتون تماماً عن التطرق لواقع ما إذا كان برنامج ذلك الحزب ونضالاته مكرسة لتحقيق إلغاء الإستغلال الرأسمالي لبروليتاريا مجتمعه وتحرير العمل فيه، أم لا (سأعود لاحقاً لهذه النقطة).
ثانيا، الدولة الاشتراكية بقيادة حزب البروليتاريا الطليعي (الشيوعي، الاشتراكي ...) هي الدولة العائدة لذلك الحزب، وليست الدولة التي تحكمها "مجموع البروليتاريا- كذا!" فيه. ولسوء حظ المنطق الشكلي الأعرج هذا، فإنه يستحيل على هؤلاء أن يشرحوا لأيٍ كان كيف يستطيع "العمال بأجمعهم" تسلم القيادة السياسية بانتخابات ديمقراطية حقيقية أو بالثورة دون وجود حزبهم الطليعي المنظم لكل هذا. لذا، نراهم يبربرون بـ "مجالس/ سوفيتات العمال" كبرلمان حاكم، ولا يقولون لنا كيف يُضمَن لأي برلمان حاكم يشترك - حكماً وجبراً - كل أفراد الشعب بانتخابه ديمقراطياً أن يكون "بروليتارياً" خالصاً بدون الحزب الطليعي. ولا كيف يمكن إلغاء أصوات طبقات الشعب الأخرى للفلاحين وافراد الجيش والشرطة ورجال الدين وموظفي الدولة غير البروليتاريين، والمنتجين الفرديين والباعة المتجولين والحرفيين والمتقاعدين والطلبة والعاطلين وربات البيوت وغيرهم لمصالحهم، وذلك بتجيير أصواتهم الانتخابية الحرة لسواد عيون البروليتاريا، وضمان ذلك طول الوقت في ظل حكم دولة "دكتاتورية البروليتاريا" التي يمسخون، دون وجود الحزب الطليعي لليروليتاريا الذي تتكفل دعايتهالجماهيرية باقناع كل غير البروليتاريين من ابناء شعبه بأن مصالح البروليتاريا هي – في التحقيق النهائي – مصالحهم هم أيضاً؟
ثالثاً: إنهم يقولون: الرأسمالية هي رأسمالية؛ والاشتراكية هي الاشتراكية: الضد النافي للرأسمالية؛ لذا، فإن الدولة الاشتراكية التي تسيطر على وسائل الأنتاج فيه تصبح هي المالك الحقيقي لها وليس مجموع العمال، وبالتالي فإنها "رأسمالية دولتية"؛ مثلما يخرّف الجاهلون بسيرورة الديالكتيك الماركسي الاقتصاجتماسي للمرحلة الاشتراكية والمعادون له كلياً. ولا يستطيع هؤلاء حل لغز "كيف يحق أن يمتلك "مجموع العمال"(كذاّ) لأنفسهم كل وسائل الإنتاج قاطبة لأي مجتمع، وهي نتاج اجتماعي عام وليس من انتاج أي فئة عمالية بعينها لتتملكه؟ ولا بأي حق يضع العمال اليد على ثروات بلدهم الطبيعية فوق الأرض وتحتها وهي هبة الطبيعة - وليست انتاجاً بروليتاريا البتة - تعود ملكيتها لكل الشعب على مر أجياله القادمة، بدون وجود دولة ذات دستور ينص على أن الشعب كله هو المصدر للسلطات فيها والتي تسخر تلك الثروات لتطوير بناء الاشتراكية فيه؟ ولكن لنضع كل هذا جانباً، ولنحل معضلة : كيف سيمكن توفير وضمان الحماية الدائمة والفعالة لهذه الملكية البروليتارية الجديدة الهائلة المتخيلة لـ "لمجموع العمال" في النظام الاشتراكي الجديد وتطوير انتاجيتها (مثلما تحمي الدولة الرأسمالية الملكية الرأسمالية) في ظل غياب الدولة وأجهزتها التي لا مناص من وجودها لفرض القانون وتلبية مختلف احتياجات شعبه والدفاع عن سيادة البلد اللازم والواجب حتماً، طالما أنتم تدعون أن هذه الدولة ستكون "رأسمالية دولة" معادية "لمصالح مجموع العمال" كذا!؟ معلوم ان الدولة الرأسمالية لا غنى عنها لأداء وظيفة حماية رأسمال ومصالح الرأسماليين وضمان تعظيمها، فما هو الجهاز الذي لا غنى عنه الذي سيتكفل بوظيفة حماية الملكية الاشتراكية ومصالح البروليتاريين وتعظيمها وإدامتها غير الدولة بقيادة حزبها الطليعي الذي لا بديل لها أبداً؟ كل هذا - وغيره من الضرورات الحاكمة كثير حسبما سأوضح لاحقاً - يؤكد وجوب وجود جهاز الدولة الاشتراكية لحماية مكتسبات العمال والشعب كله، وليس لبناء مفهوم "رأسمالية الدولة" الخيالي، معلقاً في الفضاء، بلا رأس مال حقيقي ولا رأسماليين، مثلما سأبيّن.
كانت مشكلة أصحاب لصقة "رأسمالية الدولة" في السابق تتمثل بفشلهم الحاسم في التبيان الواضح لهذه الحقيقة التي تترتب حتماً على تلفيقهم لمفهوم "رأسمالية الدولة" هذا: من هي بالضبط "الطبقة الرأسمالية" الحاكمة في "رأسمالية الدولة" التي يتوهمون اصطناعها في البلدان الاشتركية مثل: جمهوريات الاتحاد السوفيتي أو يوغسلافيا أو ألبانيا أو جمهوريات أوربا الشرقية أو منغوليا أو كوبا وفيتنام ولاوس ... إلخ؟ إذ أن من اللازم حتماً لوجود "الرأسمالية" وجود "رأسمالييها " مالكي رأس المال لتلك الرأسمالية، ممن يستطيع كل مواطن الإشارة اليهم بالبنان وتسميتهم بأسمائهم واحداً واحداً وتحديد كم وماذا يملك كل واحد منهم بالضبط وأين. عندها نراهم يبربرون بالبيروقراطية (الفرّاش والمدير ورجل الأمن والضابط والمسؤول الحزبي ،مثلاً – في المستشفى الفلاني والجامعة والمصنع والوحدة العسكرية والمنظمة الحزبية - هو حسب تزييفهم الكاريكاتيري هذا - "رأسمالي دولتي" باعتبارهم – حتماً بحكم وظائئفهم تلك - من أدوات االرأسمالية البيروقراطية الحاكمة في ذلك البلد)، ويتجاهلون حقيقة أن البيروقراطية هي طبقة إدارية بحتة، لا تنتج رأس المال ولا تتملكه ولا تستطيع مراكمته البتة، سواء في ظل الأنظمة الاشتراكية أو الرأسمالية. وعندما يتضح على نحو فضائحي عدم امكانية تلبيس البيروقراطيين لبوس الرأسماليين في الدولة الاشتراكية القائمة، فانهم يقلبون تلبيسها على عاتق البرجوازية الصغيرة (الفلاح الصغير المالك لقطعة أرض، الحرفي الذي يمتلك أدوات انتاجه، البائع بالمفرد .... ) هؤلاء هم الرأسماليون البائسون لـ "رأسمالية الدولة" التي يخترعون في ظل انتفاء أي وجود للبرجوازية الكبيرة اللازمة لوصفة "الرأسمالية"جملة وتفصيلاً. وهكذ يتهاوى بيت الاوراق الخيالي وغير العلمي الذي يصطنعونه لمفهوم "رأسمالية الدولة" ضمن جوقة محاربة الشيوعية – حتى وإن كانت تحت قناع "الحرص على الاشتراكية" التي يجهلون سيرورتها كلياً.
ولكن مهمتهم التلفيقية باتت اليوم أيسر نسبياً مع قبول الحزب الشيوعي الصيني (وكل حزب شيوعي آخر إستلم الحكم طراً- منذ البلاشفة لليوم) للاستثمار الرأسمالي الوافد في اقتصاد بلده الاشتراكي، وقراره السماح للرأسماليين الصينيين (وبعضهم من أصحاب المليارات) بعضوية صفوفة. لذا نراهم يسارعون إلى القول: انظروا جيداً، الانتاج الرأسمالي في الصين قائم فعلاً، وذلك بتشجيع مباشر من الحزب الشيوعي الصيني نفسه، وبالتالي فإن النظام فيه ليس اشتراكياً، بل هو "رأسمالية دولتية". هؤلاء ينسون أن الأساس في اطلاق صفة الاشتراكية على أي نظام انما هو هيمنته (وليس احتكاره البتة، المستحيل التحقق دون سيادة سوق العمل الاشتراكي غير البضاعي الملبي لكل الاحتياجات الاجتماعية، والغاء اشتغال قانون "القيمة" الرأسمالي) على الاستثمار وتوجيهاته في الاقتصاد المبرمج مركزياً، أم لا. كما انهم ينسون حقيقة أن العضو الحقيقي للحزب الشيوعي في أي بلد مستعد لوهب حياته بنكران ذات نموذجية لانتصار القضية الشيوعية، وليس فقط لتسخير ماله لتلك القضية. وليس أدل من هذا عدد الابطال من شهداء الشيوعية في العراق منذ 1934 إلى اليوم من كافة طبقات المجتمع، من أغناها إلى أفقرها، والذين لم يستطع حشع حتى اليوم احصاء عددهم الهائل بدقة. ماو تسي تونغ كان والده مرابياً شبه اقطاعي، وانجلز كان والده رأسمالياً مالكا لمعامل نسيج كبيرة في ألمانيا وانجلترا، ولكنهما كرسا كل حياتهما وملكيتهما لخدمة الشيوعية، وليس لـ "الرأسماية الدولتية"، مثلما ينص المنقود في مقالته بالقول:
"النظام الصيني في جوهره نظام رأسمالية دولتية، حيث تحتفظ الدولة بسيطرة مباشرة على نحو 30% من الاقتصاد، بينما تستحوذ القوى الرأسمالية الكبيرة على الـ 70% المتبقية. "
(سأركز في الوصف المستقبلي على إيضاح جوهر ديالكتيك المفاهيم الماركسية العلمية لـ : "الطبقة البروليتارية"؛ "دكتاتورية البروليتاريا"؛ "الحزب الطليعي" و"طبيعة مرحلة الانتقال للاشتراكية" و "رأسمالية الدولة" والعلاقات التفاعلية اللازمة القائمة بينهما.)
أما الآن، فقد تبقى لي أخيراً الإيضاح بأن النسبتين أعلاه التي يقدمهما الأستاذ حميد كوره جي المحترم لا تصفان واقع الاقتصاد الصيني البتة، بل تشوّهانه، لأنهما تخصان فقط المنشآت الاقتصادية التي تمتلك الدولة 100% من رأسمالها، وتستبعدان المساهمات الحكومية بنسب أقل في بقية المنشآت الاقتصادية الناشطة في البلد. الذي يبتغي معرفة جوهر الأقتصاد الاشتراكي يبحث عن العنوان : كم هي مساهمة رأس المال المملوك للدولة في الاقتصاد الصيني ككل؟ عندها سيجد الإجابة العلمية الصحيحة والموثقة بالأدلة الاحصائية عند مصدر محايد حريص على توخي الدقة، مثل جامعة ستانفورد الأمريكية، والتي تنص :
• The total capital of firms with some level of state ownership has risen to roughly 68% of total capital of all firms (40 million) in the economy in 2017. The share owned by the central government has declined while that of local governments has risen.
الترجمة :
إرتفع إجمالي رأس مال الشركات التي تمتلك الدولة مستوىً ما من الملكية فيها إلى ما يقرب من 68% من إجمالي رأس مال جميع الشركات (40 مليون شركة) في الاقتصاد، عام 2017. وانخفضت حصة الحكومة المركزية، في حين ارتفعت حصة الحكومات المحلية.
المصدر:
https://sccei.fsi.stanford.edu/china-briefs/reassessing-role-state-ownership-chinas-economy
النسبة أعلاه تقدم - حتى ولو أخذت كمؤشر واضح لوحدها فقط - الدليل القاطع على اشتراكية الدولة الصينية، لكون ملكيتها تتحكم بالضبط بثلثي الاستثمار الكلي في اقتصادها المختلط المبرمج، الأمر الذي يتيح لها الإمساك بيدها برهاوة على كل الخيوط المحركة لذلك الاقتصاد الكبير.
يتبع، لطفاً .