ملاحظات عن اشتراكية الصين (2)


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 8467 - 2025 / 9 / 16 - 16:20
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

أعود لنص الفقرة الأولى من مقال الأستاذ حميد كوره جي المحترم والتي تقرأ:
"من المنظور الماركسي، الصين ليست دولة شيوعية. فالنظام فيها لا يلبي المتطلبات الأساسية للتحول الحقيقي نحو الشيوعية أو الاشتراكية كما تطرحها النظرية. فوفقًا لماركس، يجب أن يتم الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية بقيادة مباشرة من الطبقة العاملة عبر مجالس ديمقراطية، أي مجالس العمال، وليس عبر هيمنة حزب سياسي يدّعي أنه يمثل العمال. في حالة الصين، أن السلطة تتركز في يد الحزب الشيوعي الصيني، وليس في يد الطبقة العاملة بشكل جماعي. كما أن الدولة الصينية لم تتبنَّ نظامًا يتيح للعمال الحكم مباشرة أو المشاركة في عزل قياداتهم. وهذا يتناقض بشكل جوهري مع ثورة أكتوبر 1917 في روسيا، حيث بُنيت حكومة لينين على أساس السوفييتات، وهي مجالس العمال والجنود التي كانت تُعبر عن إرادة البروليتاريا بشكل مباشر."
الجملة الأولى في النص أعلاه تقرأ: من المنظور الماركسي، الصين ليست دولة شيوعية.
الصحيح هو: من المنظور الماركسي لم توجد دولة شيوعية، لا اليوم ولا على الأقل في المستقبل المنظور لنا. ومن المنظور الماركسي، فإنه في المرحلة الشيوعية - حيث تنمحي الطبقات الاجتماعية - تضمحل الدولة لانتفاء الحاجة إليها باعتبارها جهاز قمع طبقي؛ لذا، فإن مصطلح "الدولة الشيوعية" نافٍ لنفسه بنفسه. توجد الآن دول تقودها الأحزاب الشيوعية (وليس:"العمال مباشرة"). وللأسف الشديد، فلم تتكحل عيون التاريخ بعد برؤية معجزة سطوع نجم نمط الانتاج الشيوعي؛ ولكنها ستتكحل برؤية صعود نجمه إذا ما فشل مجانين دواعش رأس المال الأمريكي في ابادة البشرية عن بكرة أبيها وفق مبدأ شمشون: عليَّ وعلى أعدائي!
وبقدر تعلق الأمر بالصين اليوم، فإنها بقيادة الحزب الشيوعي الصيني الذي تتحدث انجازاته الاقتصاجتماسية عن نفسها، وشيوعية هذا الحزب غير مرهونة بالاجتهادات الشخصية غير الماركسية، خصوصاً عندما يؤكد دستوره اتباعه للماركسية اللينينية، وعندما تثبت تطبيقاته ذك، مثلما سأوضحه بالتفصيل الممل لاحقاً وعلى نحو لا يدع أي مجال للشك.
الجملة الثانية: فالنظام فيها لا يلبي المتطلبات الأساسية للتحول الحقيقي نحو الشيوعية أو الاشتراكية كما تطرحها النظرية.
الصحيح هو: لا توجد نظرية ماركسية تحدد الخطوات الواجب اتباعها خطوه فخطوة على طريق التحول الاجتماعي الحقيقي، لا للشيوعية ولا للاشتراكية، باستثناء مبدأ دكتاتورية البروليتاريا بقيادة الحزب الشيوعي وتشريك وسائل الانتاج الاجتماعي والعلاقة بين العمل وتوزيع الناتج الاجتماعي للسكان. أما خارطة الطريق لتحقيق ذلك فقد كانت وستبقى خاضعة للظروف الاقتصاجتماسية القائمة في كل بلد، والتي تفرض على الشيوعيين الحاكمين فيه فرضاً الخيارات المتاحة وغير المتاحة لتطبيق وتجريب وتكييف وتقييم وإعادة تقييم اجراءات التوجه الاشتراكي العملية (سأعود لهذا الموضوع الجوهري عند عرض التطبيقات اللينينية للاشتراكية). ماركس وانجلز لم يفصّلا خارطة طريق يتوجب على الشيوعيين اتباعها في كل زمكان لهذا الغرض لكونهما عالِمَين ماديين تاريخيين صارمين يشمئزان من كل خزعبلات فتّاحي الفال وضاربي الودع. يقول ماركس: "يصنع البشر تاريخهم بأيديهم، لكنهم لا يصنعونه كما يشاؤون؛ لا يصنعونه في ظروف يختارونها بأنفسهم، بل في ظروف قائمة بالفعل، مُعطاة ومُتوارثة من الماضي. تراث الأجيال السابقة يُثقل على كاهل الأحياء كالكابوس".
الشيوعي الواعي لا ينطلق من النظرية إلى الواقع. نقطة الانطلاق للشيوعي الحقيقي هي من اشتراطات الواقع إلى النظرية، وليس بالعكس. وعندما يصطدم الشيوعي باستحالة او خطورة عقابيل تطبيق هذه أو تلك من مباديء النظرية على الواقع الاجتماعي المعطى، فإنه يتكفل بتطوير النظرية كي تستجيب لمشاريط الواقع، فتنجح في الاشتغال الفاعل عليها (وبعكسه سيقترف الأخطاء الفادحة مثلما اعترف لينين بصدد التأميم الشامل في مقاله عن "الضريبة العينية" – سأعود لهذا الموضوع). وكل هذا لأن كل النظريات رمادية، في حين أن الحياة غابة فسيحة خضراء. ولما كانت ظروف كل بلد تتباين إلى هذه الدرجة أو تلك عن غيره من البلدان؛ لذا، فإن التطبيقات ذات التوجه الاشتراكي فيه تصبح حكماً تقليداً اشتراكياً خاصاً به، يكتسب شرعيته الاشتراكية من مدى نجاعته الاجتماعية فحسب. ولهذا، نستطيع الكلام الآن عن التجربة الاشتراكية السوفيتية، وآخرى كوبية وصينية وفيتنامية ولاوسية وكورية شمالية .. إلخ. وستبقى كل التطبيقات الاشتراكية تأخذ الطابع الوطني الضيق لحين الانتصار الكبير لها باندماجها العولمي عند سواد سوق العمل الاشتراكي الفاعلة.
الجملة الثالثة: " فوفقًا لماركس، يجب أن يتم الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية بقيادة مباشرة من الطبقة العاملة عبر مجالس ديمقراطية، أي مجالس العمال، وليس عبر هيمنة حزب سياسي يدّعي أنه يمثل العمال. "
العكس تماماً هوالصحيح: فوفقًا لنصوص ماركس وانجلز الواضحة وضوح الشمس التي عرضتها في الحلقة السابقة، يجب أن يتم الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية بقيادة مباشرة للحزب الشيوعي الذي يؤسس شكله الخاص من دكتاتورية البروليتاريا حسبما تفرضه وتقتضيه الظروف الموضوعية القائمة في بلده.
(ألاحظ - وقد أكون مخطئاً - في العديد من طروحات الأستاذ حميد كوره جي المحترم نزعتها النقابية العمالية الضيقة التي لا يجمعها أي جامع بالحزبية الشيوعية لماركس وانجلز، اللذين انتقداها في بيان الحزب الشيوعي بالقول: " هذا التنظيم للبروليتاريين في طبقة، وبالتالي في حزب سياسي، يتعرض للانقلاب باستمرار بسبب التنافس بين العمال أنفسهم ...".)
وهذا ما يذكرني بهذه الحادثة التي رواها لي الرفيق الشهيد فاضل حسن وتوت:
ضمن نقاش بين عامل شيوعي والخالد فهد، إتهم العامل سكرتيره العام الرفيق فهد بالقول:
- أنتم تصعدون على أكتافنا نحن العمال !
رد عليه الرفيق فهد وهو يربت على كتفه:
- إطمئن، رفيق . سنصعد على أكتافكم أعواد المشانق!
وعلى حد استكناهي لأطروحات الأستاذ الفاضل حميد كوره جي المحترم، فإنه يرفض وعي جوهر وديالكتيك العلاقة القائمة بين البروليتاريا وحزبها الشيوعي حسبما أوضحه ماركس وانجلز بكل جلاء في "بيان الحزب الشيوعي" (1847) والتي عرضت نصوصها في الحلقة السابقة، ومؤداها: "يمثل الشيوعيون الجزء الأكثر تقدمًا وتصميمًا من أحزاب الطبقة العاملة في كل بلد": "لأنهم يدفعون كل الآخرين إلى أمام" بفضل: " تمتعهم نظريًا بميزة على الأغلبية العظمى من البروليتاريا في فهم واضح لخط المسيرة، والظروف، والنتائج العامة النهائية للحركة البروليتارية".
ولعل هذا هو أحد الأسباب التي جعلت المرتد البرجوازي التحريفي منصور حكمت – الذي كان سابقاً يطلب المشورة من حزب تودة الإيراني – الى تأسيس حزب منافس لتودة أسماه بـ "الحزب الشيوعي العمالي"، ليدعي بعدها كذباً بأن "حزبه هو عمالي، خالص خالص" لكون اسمه هو "الحزب الشيوعي العمالي"، في حين أن حزب تودة الشيوعي هو حزب "برجوازي، خالص خالص" لعدم وجود نعت "العمالي" في اسمه؛ فيضرب بهذا التلفيق عرض الحائط بكل الارث النظري الماركسي العلمي والثري جداً للعلاقة الملازمة بين البروليتاريين والشيوعيين والذي عرضت بعضه في الحلقة السابقة! ثم رأينا هذا "الحكمة" في نهاية المطاف، وهو "يشلع"، "منصوراً" هو ورفاقه، من ميادين النضال في ايران ليحط في مضارب أعمامهم في بريطانيا، تاركين "العمال" الذين إدعى تمثيلهم تحت قرع سياط دكتاتورية الملالي!
مجالس العمال والسوفييتات
لما كانت الجملة علاه تتطرق لمجالس العمال، فقد يكون مفيداً عرض نبذة موجزة جداً عنها.
منذ ثورة كومونة باريس عام 1871 وإلى اليوم، لعبت مجالس العمال والفلاحين والجنود وغيرها دوراً ثورياً للغاية في الإدارة المحلية الذاتية للمعامل والضواحي المدينية والمدن وحتى المقاطعات الكبيرة الثائرة في أوربا والأمريكتين وآسيا وإفريقيا. كل هذه المجالس - على اختلاف أنواعها وتوجهاتها - تأسست في أزمنة الثورات الاجتماعية عندما ينجح الثوار في السيطرة المسلحة على مدن أومناطق معينة ولا تعود للمؤسسات القمعية والادارية للدولة أي تواجد فيها. عندها، يتولى الثوار عفوياً تنظيم مجالسهم المحلية ديمقراطياً بهذا الشكل أو ذاك، لتضطلع بمختلف مهام الادارة للشؤون المحلية المدنية والسياسية والاقتصادية والعسكرية .. للمنطقة المحررة. ومنذ كومونة باريس وإلى اليوم، تولت الحكومات الرجعية في كل مكان تدمير هذه المجالس وإبادة مؤسسيها الثوار بقوة السلاح حالما تستجمع قواها ثانية، فتشن هجومها المضاد عليها. ولهذا، فقد باتت "المؤقتية" و"المحلية"هما السمتان المميزتان عموماً لهذه المجالس في كل مكان تعادي الدولة تأسيسها فيه.
مع قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية، أصبحت مجالس سوفيت العمال والجنود والفلاحين - لأول مرة بالتاريخ – ليست مؤقتة ولا عرضة لهجمات الثورة المضادة – بل هي التنظيم الديمقراطي للحكم البرلماني السائد المنظم دستورياً؛ حيث تبدأ عملية الانتخاب الحر والمباشر للممثلين من المصنع والقرية والوحدة العسكرية لينتقل هؤلاء لانتخاب سوفيت المدينة، وسوفيتات المدن تنتخب بدورها سوفيت المقاطعة، ومن ثم سوفيت الجمهورية، لتنتخب سوفيتات الجمهوريات المؤتمر العام لسوفيت جمهوريات الاتحاد السوفيتي.
الفرق هنا هو : تشجيع ودعم الحزب الشيوعي السوفيتي الحاكم لها.
السؤال: هل قام الحزب الشيوعي الصيني بتنظيم السوفيتات الخاصة به على غرار سوفيتات الاتحاد السوفيتي ؟
الجواب: نعم، بالتأكيد.
في عام 1931، أسس الحزب الشيوعي الصيني: "جمهورية الصين السوفيتية" في رويجين، وهي مدينة تقع في مقاطعة جيانغشي الجبلية، بدعم من الاتحاد السوفيتي. وهناك عملت جمهورية الصين السوفيتية كدولة اشتراكية مصغّرة، مع سيطرة حزبية كاملة على الحكومة، وجيش أحمر، ونظامين قضائي وتعليمي خاصين بها، مع مصرف مركزي يسك عملة الجمهورية. وكان ماو تسي تونغ رئيسًا لهذا السوفييت. وقد نص دستور جمهورية الصين السوفييتية على أن هدفها هو ضمان "الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين" وتأمين انتصارها في جميع أنحاء الصين.
وقد شهدت هذه الفترة تحولاً كبيراً في ستراتيجية الحزب الشيوعي الصيني، حيث حوَّل العديد من الكوادر، بما في ذلك ماو، تركيزهم من العمال الحضريين إلى الحصول على دعم الفلاحين الريفيين.
ومثلما حصل لكومونة باريس ولغيرها من مجالس الثوار (سوفييت بطروغراد لثورة عام 1905، مثلا)، فقد سحقت الحملات العسكرية للحكومة القومية بقيادة تشيانغ كاي شيك جمهورية الصين السوفيتية في نهاية المطاف، فأجبرت هذه الهزيمة الشيوعيين الصينيين على اخلاء مدينة رويجين، والشروع في المسيرة الكبرى عام ١٩٣٤، بحثًا عن ملاذ آمن في الشمال. ورغم انهيار الجمهورية السوفيتية الصينية، إلا أن خبرتها المكتسبة عملياً في إدارة دولة اشتراكية مصغرة كانت بالغة الأهمية للحزب الشيوعي الصيني لاحقاً، إذ كانت بمثابة النموذج الأولي للدولة الاشتراكية التي سيؤسسونها لاحقًا.
واليوم، فإن الهيكل البرلماني للصين هو هيئة تشريعية أحادية المجلس تعرف باسم "المؤتمر الوطني لنواب الشعب" - الذي يتولى مناقشة واستصدار القرارات على السياسات التي تتخذها قيادة الحزب الشيوعي الصيني - ويعتبر أعلى جهاز للسلطة في الدولة. ويتألف هذا المجلس من حوالي 3000 عضو، مما يجعله أكبر هيئة برلمانية في العالم. مدة ولاية المندوبين فيه هي خمس سنوات، ويتم انتخابهم من قبل مجالس الشعب ذات المستويات الأدنى، والمقاطعات، والمناطق ذاتية الحكم، والجيش، والمناطق الإدارية الخاصة مثل هونغ كونغ وماكاو. وله لجان خاصة لمعالجة قضايا الشؤون المالية والاقتصادية والخارجية والعرقية، حيث تلعب هذه اللجان دورًا فعالًا في صياغة ومناقشة العمل التشريعي.
يتبع، لطفاً .