استذكاراتٌ مينائيّة


كاظم فنجان الحمامي
الحوار المتمدن - العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 12:33
المحور: سيرة ذاتية     

هذه مقالة كتبها الاستاذ رياض عبدالواحد السعد عن رجالات الموانئ العراقية. قال فيها:
وما أدراك ما الحمامي. رجلٌ إذا ذُكرت العصامية انتصب له مقامها، وإذا أُشير إلى المعرفة انفتح أمامه بابٌ لا ينغلق. واحدٌ من أولئك الذين نحتوا ذواتهم بإزميل الإرادة قبل أن ينحتوا حجر الواقع؛ فحوّلوا العسر إلى يُسر، والمستحيل إلى إمكان، والعابر إلى أثرٍ يستعصي على الزوال.
لم يكن البحر في حياته مهنةً تُزاوَل، بل قدرًا يُختار، ورفيقَ روحٍ يحفظ نبضها، وميدان رؤيا يطلّ منه على اتساع العالم. عرفه كما تُعرَف خطوط الكفّ، فقرأ دفاتر موجه كما يقرأ العارف أسرار المعابد، وأصغى إلى رياحه بحدس الربّان الذي تمرّس بالحوادث والمصائر. ارتقى بسُلّم الخبرة حتى وقف على سدرة الدلالة البحرية، لا ليكتفي بإدارتها، بل ليُشعل فيها مصباحًا يلمع في فضاء المنطقة، مستندًا إلى عزيمة الرجال وصدق الإرادات. لم يغمض له جفنٌ حتى رأى البذور تنبت، ولم يعرف للراحة اسماً يوم احتاجت الموانئ إلى من ينهض بها نحو آفاقٍ أبعد.
وحين ضاقت ساحات العمل بأصداء عطائه، رأت الدولة أن تضعه في موقعٍ أوسع من حدود الوظيفة، فكان الوزير الذي لا يشبه الوزراء، والربان الذي يشرف من علوّ رؤيته على تفاصيل النهضة وهي تتشكّل. نفخ في الجسد الإداري روحًا منضبطة، وزرع في النفوس معنى الالتزام والنزاهة، فكأنما كان يسوس المؤسسات بضمير لا يُهادن.
ولم يكن من أولئك الذين يحتمون بالمكاتب، بل كان أخًا ورفيقًا وظهيرًا للعاملين معه. عاش بينهم كما يعيش القائد الحقّ: قريبًا من نبضهم، حاضرًا في همومهم، ملازمًا لهم في الضيق والسعة. كان يطوف مواقع العمل كما يطوف الفلّاح في أرضه: يتفقد التفاصيل، ويشدّ على يد المجتهد، ويواسي المتعب، ويرفع من شأن المستحقّ، مؤمنًا أن القيادة ليست كلمات تُلقى، بل حضورٌ يتجسّد.
وتبقى «الفنحانية» واحدة من أيقونات سيرته. فما فعله في ملف الإسكان لم يكن واجبًا وظيفيًا، بل كان وفاءً عمليًا يُبرهن أن المسؤولية أخلاقٌ قبل أن تكون صلاحيات. أسكن عشرات من موظفي الموانئ في أراضٍ التصقت باسمه، فتحوّلت إلى مأوى آمن، وإلى شاهدٍ على أن الخير حين يُبنى على الإخلاص يشبه حجراً لا تُفلته عوامل السنين.
ولأن الرجال العظام يُقاسون بما يتركونه في الذاكرة، لا بما يلمع حولهم من أضواء عابرة، فقد غدا الحمامي صفحةً راسخة في الوعي المهني العراقي. تُتلى سيرته كلما ضاقت البلاد بأحلامها، وكلما احتاجت إلى نموذجٍ يذكّرها بأن النهضة ليست استعراضًا للحديث، بل صبرٌ على البناء وتجويدٌ في الفعل. كان حضوره في أيّ مشروعٍ يبعث الطمأنينة، حتى ليخيّل للمرء أن البحر نفسه يُهدّئ أمواجه حين يقترب منه، مدركًا أن أمامه من يفهم لغته. لم يخطّط بعقلٍ إداري فحسب، بل بحدسٍ يشبه بصيرة الموانئ القديمة وهي تستشرف مواعيد السفر. وفي كل خطوة خطاها، كان يشيد طبقةً جديدة من الثقة بين المواطن والدولة، مُبيّنًا أن النزاهة ليست فضيلة نادرة، بل إمكانًا ينهض متى صفَت النوايا وتشجّع القلب. ولهذا ظلّ اسمه محفورًا في ذاكرة العاملين، لا لأنه منحهم بيوتًا، بل لأنه منحهم شعورًا بالكرامة، وأفقًا يرى فيه الإنسان أن العمل ليس وظيفة، بل معنى يُبنى.
ولم يقف أثره عند حدود المشاريع التي شيّدها، بل امتدّ إلى ما هو أعمق: إلى طريقة التفكير ذاتها. فقد أعاد للبحر هيبته في الوجدان العراقي، وجعل من الميناء مدرسةً في الانضباط والاحتراف، وحوّل الإدارة من سلطةٍ جامدة إلى فعلٍ أخلاقي ينطلق من القدوة قبل التعليمات. كان كل مَن عمل معه يدرك أنه لا يعلّمهم مهارةً فحسب، بل يربّي فيهم حسًّا نبيلاً بالمسؤولية؛ كأنّ كل سفينة عهد، وكل رصيف أمانة، وكل خطوة في الميناء سطرٌ في دفتر الوطن. ولهذا لا يُنسى أمثاله؛ فالأثر الذي يتركه الكبار لا يبهت، بل يتوهّج كلما مرّ الزمن، حتى يغدو جزءًا من روح المكان وذاكرته.
إن الحديث عن الحمامي لا يُختصر في صفحات، ففضائله تتكاثر كلما حاول المرء جمعها، وأفعاله تشهد له حتى حين يصمت الكلام. رجلٌ يجمع بين صرامة الإدارة ورقّة القلب، بين حلم البعيد وواقعية القريب، بين العلم الذي لا يهدأ والعمل الذي لا يكلّ. وإذا كان الناس يُعرفون بما يخلّفون، فقد ترك هو للموانئ، وللبحر، وللعراق كله سيرةً تشبه الخلود.
نسأل الله أن يحفظ هذا الرجل الفذّ، وأن يجعله ذخراً للخير، وعمادًا للنهضة، وأن يجعل ما قدّمه نورًا ممتدًا في حياة الآخرين كما امتدّ في مشاريع الوطن.