المركب السكران في بحر الثقافة العربية: رحلة أحمد صالح سلوم بين تمرد رامبو وخراب البترودولار السعودي القطري ..


احمد صالح سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 8434 - 2025 / 8 / 14 - 22:32
المحور: الادب والفن     

1. في خريف 2018، أنهى أحمد صالح سلوم، المترجم الفلسطيني الشيوعي من طيرة حيفا، ترجمة قصيدة "المركب السكران" لآرثر رامبو، وكأنه أكمل رحلة بحرية عبر محيط من الكلمات الهائجة. لم يكن الأمر مجرد ترجمة، بل كان معركة مع شبح شاعر فرنسي ثائر قرر أن يجعل حياة كل مترجم جحيمًا شعريًا. الساعة كانت تشير إلى الخامسة صباحًا، وسلوم، بجسارة أو ربما جنون، كان لا يزال يصارع جمل القصيدة، كأنه يحاول إقناع موجة بالتوقف عن التكسر. النتيجة؟ ترجمة نُشرت في موقع "الحوار المتمدن"، وهي، حسب قوله، "طريق ممهد للقارئ العربي" للاقتراب من رائعة رامبو، لكنها، كما يعترف بتواضع ثوري، لم تصل إلا إلى 50% من روح النص.

2. "المركب السكران" ليست مجرد قصيدة، بل هي تجربة وجودية، رحلة في عقل مراهق ثائر كتبها رامبو وهو في السابعة عشرة، دون أن يرى البحر قط. القصيدة، كما يصفها سلوم، هي رامبو نفسه: مركب مترنح يبحر في دوامة من الصور السريالية، من "أنهار مترنحة عابثة" إلى "سماوات تتفجر بالبروق". كل جملة فيها هي لغز أسطوري، وكل كلمة هي تحدٍ للمترجم. سلوم، في ترجمته، حاول أن يمسك بهذا الجنون، لكنه وجد نفسه أمام لغة لم تُخلق بعد، كأن رامبو قرر أن ينحت كلماته الخاصة ليعذب المترجمين من بعده.

3. يصف سلوم الترجمة بأنها "عمل مرهق"، وهذا وصف خجول لما يشبه محاولة ترويض تنين ينفث لهيب الكلمات. كل جملة في القصيدة كانت تحمل احتمالات تأويلية متناقضة، وبعض الكلمات، كما يشير، لم تكن موجودة في القواميس الفرنسية. رامبو، بعبقريته الثائرة، اخترع لغته الخاصة، كأنه يقول: "إذا لم تجدوا الكلمة، فهذا ليس ذنبي." سلوم، بمثابرة فلسطيني يعرف معنى الصمود، اختار كلمات مثل "قارب مترنح حتى الثمالة" بدلاً من "مخمور"، لتحمل ذلك الشطط الذي أراده رامبو. تخيلوا: "أنا من اخترق هذه السماء المجمرة وكأنها مجرد جِدار" – هذه ليست مجرد ترجمة، بل محاولة لإعادة خلق عالم رامبو في لغة العربية.

4. لكن الترجمة، كما يراها سلوم، ليست مجرد نقل كلمات، بل هي إبداع موازٍ. الترجمة الحرفية هنا هي خيانة لروح النص، كمن يحاول شرح لوحة سريالية باستخدام جدول بيانات. يسخر سلوم من الترجمات الأخرى المتوفرة على الإنترنت، واصفًا إياها بـ"صف كلام" و"ترجمات مشوهة" لا تقترب حتى من عشرة بالمئة من النص الأصلي. يذهب إلى حد القول إن ترجمته، التي نُشرت في "الحوار المتمدن"، هي الأفضل، ويدعو الجميع للمقارنة: "ابحثوا على جوجل وسيحسم القارئ الفرق بسهولة." هذه الثقة ليست تفاخرًا، بل صرخة تمرد ضد واقع ثقافي يرى فيه أن الشعر الحقيقي يُذبح يوميًا على مذبح الترجمات الرديئة.

5. السخرية الحقيقية في حديث سلوم لا تتوقف عند الترجمات السيئة. يوسع دائرة هجومه لتشمل الأمة العربية، التي يصفها بألفاظ قاسية مثل "المنيوكة"، متهمًا إياها بإنفاق تريليون دولار على "اللحى الإرهابية" و"الخزعبلات الإخوانجية الوهابية" بدلاً من دعم الثقافة والشعر. هذه ليست مجرد سخرية، بل صرخة غضب من رجل يرى الثقافة تُحاصر بـ"ديناصورات النقاب السوداوي" و"البترودولار الحقير". في عالم ينفق المليارات على الحروب والدمار، يقف بيت الثقافة البلجيكي العربي، بميزانية هزيلة قدرها 180 يورو سنويًا، كمنارة ثقافية تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

6. لكن سلوم لا يكتفي بنقد العالم العربي. يوجه سهامه إلى الغرب، متهمًا "إمبراطوريات الإعلام الغربي الصهيوني" و"حلف الناتو الأمريكي النازي"، كما يصفه، بالتآمر ضد الثقافة الحقيقية. في نظره، الترجمة ليست مجرد عمل أدبي، بل فعل مقاومة سياسية وثقافية. ترجمته لـ"المركب السكران"، التي أنجزها مع فريق بيت الثقافة البلجيكي العربي، هي إعلان حرب ضد الترجمات الرديئة، مثل تلك التي نشرتها "موسوعة الشعر العربي" برعاية الإمارات، والتي يصفها بالركاكة وعدم القدرة على التقاط "التعابير الخلابة" للقصيدة.

7. لنعد إلى القصيدة نفسها. "المركب السكران" هي رحلة بحرية في عقل شاعر ثائر. رامبو، الذي كتبها دون أن يرى البحر، جعل من المركب رمزًا لروحه: "قارب مترنح حتى الثمالة" يبحر في عالم من الصور السريالية. عبارات مثل "أنا من اخترق هذه السماء المجمرة وكأنها مجرد جِدار" أو "رأيت الشمس قريبة جدا، ملطخة بأهوال صوفية" تحمل دوامة من الخيال الذي يصعب ترجمته دون أن تفقد روح النص. سلوم، في ترجمته، حاول أن يحافظ على هذا الجنون المحسوب، لكنه يعترف أن ترجمته لم تصل إلا إلى 50% من روح رامبو. هذا الاعتراف ليس ضعفًا، بل دليل على صدق المترجم الذي يعرف حدود المستحيل.

8. لماذا اختار سلوم هذه القصيدة بالذات؟ ربما لأنها تعكس روحه الثائرة. رامبو، الذي وصفه فيكتور هوغو بـ"طفل شكسبير"، كان ثائرًا ضد المجتمع، الأدب، واللغة. وسلوم، بترجمته، يبدو كأنه يحاول أن يكون رامبو العربي، ليس فقط في نقل النص، بل في مواجهة عالم يرى فيه أن الثقافة تُحاصر من كل جانب. بيت الثقافة البلجيكي العربي، بفريقه الفلسطيني الشيوعي المستقل، هو في نظره معقل المقاومة الثقافية، يقف في وجه "محميات الخليج الصهيونية الإرهابية" و"ديناصورات النقاب السوداوي".

9. السخرية في حديث سلوم تصل إلى ذروتها عندما يتحدث عن ميزانية بيت الثقافة: 180 يورو سنويًا، تذهب إلى اشتراكات الأعضاء ونفقات الحساب البنكي الخاوي. هذه ليست ميزانية، بل نكتة سوداء في وجه عالم ينفق التريليونات على "ثقافة الموت والخراب". تخيلوا: بينما تنفق دول الخليج مليارات على "اللحى الإرهابية"، يحاول فريق صغير في بلجيكا، بميزانية لا تكفي لشراء قهوة يومية، أن يترجم واحدة من أعظم القصائد في التاريخ. هذه السخرية هي اتهام مباشر لعالم فقد بوصلته.

10. لكن دعونا لا ننسى الجانب الفني. ترجمة "المركب السكران" تتطلب شاعرًا، لا مجرد مترجم، كما يقول سلوم. الشاعر وحده يمكنه أن يقترب من "هلوسات رامبو الإبداعية". عندما يترجم سلوم عبارة مثل "اكثر براءة من الأطفال، لحم التفاح الأخضر هذا"، فإنه لا ينقل كلمات فقط، بل يحاول أن يعيد خلق التجربة الحسية التي أرادها رامبو. لكنه يعترف بالتحدي: "50% فقط"، لأن الوصول إلى 100% من روح رامبو هو حلم مستحيل، كما لو كنت تحاول الإمساك بالماء بيديك.

11. السخرية تمتد إلى النقاد والمترجمين الآخرين. سلوم يستشهد بتعليق ساخر قرأه: "رامبو مصدق حاله انه يكتب شعرًا!"، ويرد بحدة أن من قال هذا لا يفهم الشعر، وأن الترجمة الرديئة هي التي تجعل الناس يشككون في عبقرية رامبو. في نظره، المترجم الذي لا يملك حسًا شعريًا هو كمن يحاول إصلاح لوحة لفان جوخ بقلم تلوين. هذا النقد ليس هجومًا شخصيًا، بل دفاع عن الشعر نفسه، الذي يرى سلوم أنه يُذبح يوميًا على مذبح الترجمات الجافة.

12. دعونا نتوقف عند عبارة من ترجمة سلوم: "رأيت الشمس قريبة جدا، ملطخة بأهوال صوفية". هذه الصورة، بكل غرابتها، تلخص تحدي الترجمة. كيف تنقل إحساس الشمس الملطخة بـ"أهوال صوفية" إلى لغة العربية دون أن تفقد الرعشة الشعرية؟ سلوم يختار كلمات تحمل الغموض والتمرد، لكنه يعرف أن كل اختيار هو خيانة محبة. الترجمة هنا هي محاولة لإعادة خلق تجربة رامبو، الذي كتب القصيدة وهو يحلم ببحر لم يره، مستلهمًا ربما من "كومونة باريس" وتمردها ضد السلطات الدينية والسياسية.

13. لكن لماذا تُعد ترجمة قصيدة مثل "المركب السكران" مهمة في عالم ينهار تحت وطأة الحروب؟ سلوم يرى أن الثقافة هي السلاح الحقيقي في وجه "ثقافة الموت". في عالم تنفق فيه الدول العربية تريليون دولار على "القتل والدمار"، تصبح ترجمة قصيدة شعرية فعلًا ثوريًا. إنها محاولة لإعادة الحياة إلى لغة وثقافة تُهددان بالاختناق تحت وطأة "النقاب السوداوي" و"البترودولار". عبارة مثل "أنا من غزل ابدا ذلك السكون الأزرق" من ترجمة سلوم تحمل هذا التمرد، كأنها دعوة للهروب من عالم الخراب إلى عالم الخيال.

14. بيت الثقافة البلجيكي العربي هو بطل تراجيدي في رواية سلوم. هذه المؤسسة الصغيرة، التي تعمل بميزانية تكاد تكون وهمية، تقاوم "العداء والمحاكمات والتضييق". في عالم يهيمن عليه "المافيات الغربية" و"محميات الخليج"، يصبح إصدار ترجمة جيدة لقصيدة مثل "المركب السكران" انتصارًا صغيرًا، لكنه عميق. سلوم يضع ترجمته في مواجهة ترجمات أخرى، مثل تلك التي نشرتها "موسوعة الشعر العربي"، واصفًا إياها بالركاكة وعدم القدرة على التقاط "التعابير الخلابة".

15. دعونا نتخيل مشهدًا: سلوم جالس في غرفة صغيرة في بلجيكا، محاط بقواميس فرنسية وعربية، يحاول فك رموز عبارة مثل "حلمت بليلة خضراء تندف بثلوج مبهرة". رامبو، في خياله، يقف فوقه، يبتسم بسخرية ويقول: "هل ظننت أنك ستفهمني؟" لكن سلوم لا يستسلم. يختار كلمات تحمل الجنون والتمرد، كأنه يحاول إعادة بناء مركب رامبو الذي يترنح في بحر من الخيال. هذه ليست مجرد ترجمة، بل معركة شخصية بين مترجم ثائر وشاعر ثائر.

16. السخرية تصل إلى ذروتها عندما يتحدث سلوم عن "محميات الخليج الصهيونية الإرهابية". هذه ليست مجرد عبارة لاذعة، بل اتهام مباشر لدول تنفق المليارات على "ثقافة الخراب"، بينما تترك الثقافة الحقيقية لتموت جوعًا. الإمارات، التي ترعى "موسوعة الشعر العربي"، تنتج ترجمات رديئة، في نظره، لأنها تفتقر إلى الروح الثقافية الحقيقية. بينما بيت الثقافة، بميزانيته الهزيلة، يقدم ترجمات تحيي الشعر.

17. لكن دعونا لا نغرق في الرومانسية. سلوم يعرف أن ترجمته، مهما كانت جيدة، لن تغير العالم. لكنه يصر على أنها خطوة في الاتجاه الصحيح. عندما يقارن ترجمته بتلك التي نشرتها "موسوعة الشعر العربي"، يفعل ذلك بنبرة من يعرف أن الحقيقة ستظهر لمن يبحث عنها. "ابحثوا على جوجل"، يقول، كأنه يتحدى القارئ أن يكتشف بنفسه الفرق بين ترجمة تحترم الشعر وأخرى تذبحه.

18. دعونا ننظر إلى عبارة أخرى من ترجمة سلوم: "أنا من تناسلت من لحمي تلك الذكور الاسطورية العملاقة". هذه الصورة، بكل غرابتها ووحشيتها، تلخص عبقرية رامبو في خلق عالم يمزج بين الأسطورة والواقع. سلوم، باختياره لهذه الكلمات، يحاول أن ينقل إحساس الضخامة والرعب الذي يحمله النص الأصلي. لكنه يعرف أن كل ترجمة هي خيانة، وإن كانت خيانة محبة. الترجمة هنا هي محاولة لإعادة خلق تجربة رامبو، الذي كتب القصيدة مستلهمًا ربما من تمرد "كومونة باريس" ضد السلطات الدينية والسياسية.

19. في النهاية، ترجمة سلوم لـ"المركب السكران" هي أكثر من مجرد عمل أدبي. إنها صرخة، بيان، تحدٍ. إنها محاولة لإحياء الشعر في عالم يفضل الموت. هل نجح سلوم؟ ربما بنسبة 50%، كما يقول. لكن في عالم ينفق التريليونات على الحروب ويترك الثقافة لتموت جوعًا، فإن هذه النسبة هي معجزة. طوبى لبيت الثقافة البلجيكي العربي، الذي يبحر في هذا المحيط العاصف بمركب من 180 يورو فقط.


ذ.ا