مَن أطلق الوَحْش؟! 1/2


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 7017 - 2021 / 9 / 12 - 19:07
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

أخشى أن تكون شهوة الكلام المجرد، والادِّعاء بأنه حرٌّ طليق، ويستطيع فعل أي شيء، وهو في الوقت ذاته مُكبَّلًا بالأغلال؟!
في أحد المؤتمرات التي اعتاد على عقدها الحاكم بأمره في مصر، ليرسل منها رسائل كلامية موجهة جميعها للعدو الوحيد في داخل البلاد، قال ضمن الكثير مما قاله: «إن ظاهرة الإرهاب يبدو أنها وَحْشَة (مؤنث وَحْش) وخرجت عن سيطرة من أطلقوها». وهو يعني بذلك رجال الدين الأزهريين، الذين أطلقوا وحش الإرهاب، فخرج عن سيطرتهم. ولكن من الذي أوجد رجال الدين وأكثر من عددهم وأعطاهم صلاحيات سياسية مدموغة بالجهل، وتركهم يجولون ويصولون ويعيثون فسادًا في أرجاء البلاد؟ من الذي سمح لهم بإطلاق وحش الإرهاب؟ ولماذا لا يستطيعون السيطرة عليه؟
أصبح الأزهر في مصر يمارس عمله مع الدين منذ عقود من الزمن كأسطورة النبي سليمان، القائلة: إنه عندما كان يتمرد عليه أحد العفاريت، يقوم بالقبض عليه وحبسه داخل قُمْقُم من نحاس، وإلقائه في أعماق البحر، وبذلك يعاقب العفاريت المتمرَّدة عليه من جهة، ويظهر من جهة أخرى سطوته القوية على كل من تسوِّل له نفسه، في وقت ما، محاولة تحرير العفاريت، وفتح القَماقِم المحتوية على خاتمه، فلا أحد له صلاحية فتحها ومعرفة ما فيها.
***
لا جدال في أنَّ الدين الإسلاموي، دين سياسي بامتياز، ولا يحتاج إطلاقًا إلى تسييس، وهو دائما جاهز للاستعمال، كالمسدس المشحون بالطلقات المميته، ولا يستغل إلَّا في القتل أو في الدفاع عن النفس!، ومن هنا كانت ومازالت المشكلة منذ نشأته وحتى اليوم، في كيفية استغلاله في شؤون السياسية والحياة العامة، من يستعمله في القتل ومن يستعمله في الدفاع عن نفسه لتحقيق مصالحه الشخصية؟، رجال السياسة أم رجال الدين أم الإثنين معًا؟. في بدايته كان الحكام (محمد وخلفاؤه الراشدون) يتقمصون الدور السياسي والديني معًا، ولم تكن لديهم مشكلة، طالما يحكمون بأمرٍ الله، وينسبون قراراتهم السياسية ببساطة إلى الله، فتكتسب شرعية مطلقة، ومن يعترض عليها يقتلونه، وظل الحال على هذا المنوال إلى أن ظهرت بكثرة طبقة رجال الدين، خاصة في العصر العباسي الثاني، وأطلقوا على أنفسهم لقب ”علماء“، وراحوا يتدخلون في السياسة كمعلوم من الدين بالضرورة، وادعوا مساعدتهم للحاكم كيلا يحيد عن الحكم بأمر الله المطَّلِعين عليه، ويحكم بأمره هو. ولأن السياسة تهدف في الأساس إلى تحقيق المصالح، اختلفت مصالحهم مع مصالح الحكام، وبدأ الصدام بينهما، كل منهما يحاول تدجين الآخر، وتحديد نهجه السياسي - الديني، بهدف تحقيق مصالحه، وترسيخ نفوذه وسطوته على المجتمع. رجال السياسة يريدون من الدين إحقاق شرعيتهم في حكم اغتصبوه بشكل يتفق مع نهج الصحابة في مؤتمر سقيفة بني ساعدة، ورجال الدين من جانبهم يريدون من السياسة تحقيق منافع مادية ومعنوية شخصية لهم بما يتفق مع ممارسات نبيهم الكريم وخلفائه الراشدين!..
***
في مملكة آل سعود، المهد المفترض للديانة الإسلاموية والراعي الأول لإرهابها، تمت صناعة رجال الدين ومؤسساتهم الرسمية مع تأسيس المملكة في عام 1926، وذلك بهدف احتوائهم بواسطة إشراكهم في الكعكة، مقابل مساعدتهم ودعمهم للعائلة الحاكمة في اغتصاب البلاد وإذلال العباد، وحرص الحكام المتعاقبون منذ ذلك الوقت على أن تظل تلك المؤسسات على دعمها لهم والعمل لحسابهم، وأن يبق رجالها تحت إمرتهم ورعايتهم، ما دام هناك أموال نفط تتدق، ومصالح مشتركة ومتبادلة بينهما. ولكن عندما أجبِر الحاكم بأمره ”أمير المؤمنين“ الشاب (ابن سلمان) - تحت ضغوط دولية متزايدة - على إجراء بعض الإصلاحات الحداثية في بلده، ألغى بعض المؤسسات الدينية، وقلَّص عدد العاملين في الباقيات الصالحات منها، وأمرهم بغلق أفواههم أو الجلوس في بيوتهم، وإلَّا عرَّضوا أنفسهم للحبس المذل أو للموت المحَقَّق، فما كان منهم سوى الامتثال والخضوع لأوامره على الفور، لأن الدين لم يكن في يوم ما يعنيهم في شيء. ولم يجرؤ أحد من رجال الدين داخل المملكة أو خارجها على إعلان امتعاضه، إن كان قد امتعض بالفعل، ولم تتفوه أية دولة إسلاموية بكلمة واحدة ضد تلك التحولات التي (قد) تمثل تهديدًا وجوديًا للدين ولمصلحة رجاله على حد سواء.
***
الوضع يختلف تمامًا في مصر التي شهدت عبر تاريخها الطويل تغيرا لديانتها أكثر من مرة، حتى جاءها الفاطميون المغتصبون بالجامع الأزهر الموسوم دون سبب بالشريف، وبمرور الأزمان، جعل منه الحكام ”ثكنة دينية“، مستعصية على الاقتحام، أو بالمعنى الأسطوري ”قمقم سليمان“، يخفون فيه العفاريت والخاتم، ويحرصون على ألَّا يفتحه أو يطلع على ما فيه أحد سواهم!
بناه الغزاة الفاطميون الشيعة، أتباع فاطمة (الزهراء) إحدى بنات محمد، على غرار عشرات الجوامع الأخرى المسماة بأسماء البدو الغزاة، وأسموه ”الأزهر“ نسبة إليها، وأعدُّوه ليكون معهداً دينيًا لتعليم ونشر مذهبهم، وأقيمت فيه أول جمعة في رمضان عام 972م، وظل لسنوات طويلة يختص بالفقه الشيعي وحده، ولكن بعد زوال الفاطميين أفل نجمه وهبط قدره على يد الغازي صلاح الدين التكريتي المعروف بـ” الأيوبي“ (حكم ما بين 1174 - 1193) إذْ كان يرمي من سياسته إلى محاربة المذهب الشيعي ومؤازرة المذهب السني، فأُبْطِلت الخطبة في الأزهر وظلت معطلة 100 عام إلى أن أعيدت في عهد السلطان المملوكي الغازي الظاهر بيبرس البُنْدُقْداري (حكم ما بين 1260 - 1277م)، وعاد الأزهر مرة أخرى ليؤدي رسالته الدينية، وعُيِّن به فقهاء لتدريس المذهب السني والأحاديث النبوية. وفي العصور التالية أظهر الحكام والأعيان اهتماماً ملحوظاً برعايته وترميمه وصيانته، وأوقفت عليه أوقافاً وأموالًا كثيرة، ففي عهد الملك فؤاد الأول، صدر لأول مرة قانون خاص به (رقم 46 لسنة 1930)، والذي أنشئت بموجبه، في عام 1933، كليات أصول الدين والشريعة واللغة العربية. ومنذ ذلك الوقت بدأ يتعاظم دوره بقفاز مدعَّم دينيًا، ويلعب دورا أكبر وأكثر فاعلية في الحياة السياسية العامة، على أساس أن الإسلاموية ”دين ودولة ، أو مصحف وسيف“، وبحجة الانحياز للوطن والتدخل في حياة المواطنين وحمايتهم من الانقسام والتشرذم، مما أدَّى إلى نشوء تحزُّبات دينية وجماعات سياسية قائمة على مرجعيات دينية، كانت أولها جماعة الأخوان المتأسلمين التي أسسها شخص لا يمت للإسلاموية بصلة، هو حسن البنا الساعاتي عام 1928م.
وعندما حلت كارثة الاحتلال العسكري بمصر عام 1952، ولم يكن باستطاعة العسكر حكم البلاد وتسييس العباد، عمدوا على الفور إلى تحويل جامع الأزهر من مدرسة دينية خالصة إلى مؤسسة تحظى بالمرجعية في الشؤون السياسية، فأصبحت تُؤثر بدرجة كبيرة في عمل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وتتدخل مباشرة في الحياة الخاصة للمصريين. لقد وجدوا أنه من الضروري سد العجز السياسي وعدم الأهلية للسلطة أن يستعينوا بالدين، خاصة وأنه يحظى بتعلق بها شديد من المصريين، وأن الأزهر له مكانة فريدة في نفوسهم، ليُكسِبوا حكمهم شرعية زائفة، ويستغلونه في تحقيق أهدافهم السياسية، مما حوَّل البلاد، في سابقة لم تألفها من قبل إلى ساحة لتحالف الوحوش مع الحوش، يجتمع فيها الفساد السياسي والفساد الديني معًا، وأصبح المصريون: متدينون جدا وفاسدون جدا.
رئيس البيادة البكباشي عبد الناصر استغل عضويته في جماعة الإخوان المتأسلمين ليتمكن من اغتصاب السلطة في البلاد، ثم انقلب عليهم وعمد إلى تصفية قادتها، حتى لا يستمرون في منازعتهم له على السلطة والنفوذ، وفي نفس الوقت اعتمد استراتيجية دينية تقوم على الاحتواء وتأميم المجال الديني، بهدف بناء شرعية سياسية زائفة لحكمه، ومواجهة خصومة منهم في الداخل وما أسماهم بالرجعية العربية في الخارج، وراح يفرض هيمنته على الأزهر من خلال إصدار القانون رقم 103 في عام 1961م، بحجة تنظيمه، فأنشئت بموجبه للأزهر رسميًا جامعة مستقلة، اعتبرت آنذاك الأولى من نوعها في العالم الإسلاموي، بل وفي العالم أجمع. وتم ربط الأزهر وجامعته مباشرة برئاسة الجمهورية؛ فشيخ الأزهر ووكيل الأزهر ورئيس جامعة الأزهر يعينهم رئيس الجمهورية؛ كما أن كافة أجهزته الرئيسية كالمجلس الأعلى والجامعة الأزهرية ومجمع البحوث الإسلاموية والهيئات الأخرى وقياداتها العليا والأعضاء وعمداء الكليات ينفرد بتعيينهم، وأصبح الهيكل العام الإداري والمالي للأزهر وفقا لهذا القانون جزءا من الهيكل المالي والإداري للحكومة (أي السلطة التنفيذية). ومات البكباشي وبقت في الأزهر ثنائية غير متجانسة بل ومتضاربة بين معاهد دينية بحتة، ومعاهد علمية خالصة، وأصبحت هناك كليات أزهرية تحت إشراف جامعة الأزهر، فيها ما ينتسب إلى علوم الدين وما ينتسب إلى علوم الدنيا تحت سقف واحد، مما ترتب عليه أن أصبحت الجامعة الأزهرية فريدة من نوعها، تدرَّس فيها العلوم الطبيعية بجانب العلوم الدينية، الأمر الذي لا يتطابق مع نظام غيرها من الجامعات لا فى فى عالم العربان ولا فى العالم كله.
هذا إلى جانب إجراءات أخرى كثير لإرضاء رجال الدين الأزهريين وفتح مجالات عمل جديدة لهم، فضاعف من عدد المساجد، وأنشأ منظمة المؤتمر الإسلاموي التى جمعت كل الدول الإسلاموية. وأمر بترجمة القرآن إلى كل لغات العالم، وطبع منه ملايين النسخ لتقديمها هدايا إلى البلاد الأخرى، وأنشأ إذاعة خاصة بالقرآن، لتذيعه على مدار اليوم. وتم تسجيل القرآن كاملا بأصوات كبار المقرئين على أسطوانات وشرائط للمرة الأولى فى التاريخ وتوزيعه على أوسع نطاق فى كل أنحاء العالم. وتم تنظيم مسابقات تحفيظ القرآن على مستوى الجمهورية، وراح بنفسه يوزع الجوائز على حفظته. كما تم بناء آلاف المعاهد الأزهرية والدينية فى ربوع البلاد وافتتاح فروع لجامعة الأزهر فى العديد من الدول المتأسلمة. كذلك وضعت في عهده ”موسوعة جمال عبد الناصر للفقه الإسلامي“ فى عشرات المجلدات تضم كل علوم وفقه الدين كما يفهما رجال الدين الأزهري، وتم توزيعها أيضا على بلاد العالم. وصدر قانون بتحريم القمار ومنعه، وقرارات بإغلاق كل المحافل الماسونية ونوادى الروتارى والمحافل البهائية، كما تم إلغاء تراخيص العمل الممنوحة للنسوة العاملات بالدعارة التى كانت مقننة فى العهد الملكى وتدفع العاهرات عنها ضرائب للحكومة مقابل الحصول على رخصة العمل والكشف الطبى، وسمح للفتيات لأول مرة بالتعليم الديني وافتتحت لهن المعاهد الأزهرية، وأوفدت البعثات الأزهرية للتعريف بالإسلامية في أفريقيا وأسيا، كما تمت طباعة كل كتب التراث الإسلامية في مطابع الدولة طبعات شعبية لتكون في متناول الجميع. ويقال إنه كان دائم الحرص على أداء فريضة الصلاة في أوقاتها، وصلاة الجمعة فى المساجد ونقلها إلى المواطنين على الهواء.
العسكر بطبيعتهم المهنية لا يمكنهم ممارسة الحكم من خلال نظم سياسية ثابتة ومحددة ومتعارف عليها كما هو الحال في الدول المتحضرة، وعندما يتاح لأحدهم الاستيلاء على السلطة، يبادر إلى بناء مجده الزائف على أنقاض سلفه، معتمدًا في ذلك على اللعب بورقة الدين. فرغم أن السادات تبنى أجندة سياسية تختلف تماما عن أجندة سلفه، إلَّا أنه راح بالمثل يلعب بنفس الورقة، ولكن على نحو آخر ولأهداف أخرى، أهمها التّخلص من التيارات الناصرية، وتضييق الخناق على اليساريين والمناهضين لسياسته. وبداية من عام 1974، راحت أجهزته الأمنية تنتهج سياسة تدعيم التيارات الدينية المختلفة، وتوفر هامشًا من الحرية، الغير معهودة من قبل، لأنشطة الجماعات الإسلاموية التي بدأت تتكاثر نتيجة لتدفق أموال النفط والعمل في الدول النفطية المتخلفة، وعودة أعضاء الإخوان الهاربين إليها من قهر عبد الناصر، وراح الجميع يعملون في قاع المجتمع حيث يستوطن الفقر والجهل والمرض.
وفي لحظة بحثه عن “الزّعامة السياسية المطلقة” كسلفه، ركب موجة “التديّن الشعبي”، وأطلق على نفسه لقب “الرّئيس المؤمن” لإصباغ صفة ”ولي الأمر“ أو ”رب العائلة“ على نفسه، بهدف كسب تأييد الأغلبية المتأسلمة له، ومحاولةٍ قيام تحالف للتيارات الإسلاموية مع نظامه القائم على شعار دولة “العلم والإيمان”، في دولة قد بدأت بالفعل تتخلى وبصورة تدريجية عـن العلم والإيمان معًا. وفي مضمار مغازلته للجماعات الإسلاموية ودغدغة عواطف المتأسلمين السذج، غرس ”خوازيق دينية“، يصعب إزالتها، في صلب الحياة السياسية العامة في مصر، أهمها خازوق البند الثاني في الدستور، الذي ينص على أنَّ الشريعة الإسلاموية هي المصدر الوحيد للتشريع في البلاد، وخازوق ذكر الديانة في بطاقات هوية المواطنين!
أدى كل ذلك وغيره إلى أن اعتبرت الجماعات الإسلاموية نفسها شركاء مع السادات في الحكم، ولم يفطن إلى أنها تتصارع معه لحسابها الخاص، وأنها سوف تبادر في يوم ما للخروج عن طوعه والتمرد عليه كعهدها دائمًا، ما لم تشاركه السلطة فعليًا وعمليًا. انقلبت عليه الجماعات، وأمست أكبر مهدّد لأركان سطوته التي سعى بكلّ ما أوتي من خبث وحنكةٍ وقسوةٍ، إلى تثبيتها، وسوَّغ لنفسه كل الأدوات والإمكانيات العاديّة والدنيئة لتعزيزها. وعندما وقع معاهدة السّلام “كامب ديفيد” سنة 1978 مع إسرائيل وجدت الجماعات الإسلاموية في تصاعد الغضب الشعبي فرصة سانحة لتكشف علانية عن أن نظامه غير ملتزم بمبادئ “الشريعة”، وأنه خان المشروع الإسلاموي الذي يحملونه، فكانت ردود فعل السادات عنيفة للغاية، وبدأ في 3 سبتمبر 1981 بشن حملة اعتقالات واسعة شملت 1536 فردًا من جميع التيارات الدينية والسياسية والإعلامية والثقافية المتواجدة على السّاحة بُغية قمع المعارضين للاتفاقية، وتم إلغاء إصدار الصحف المعارضة، وسنّ قوانين سيئة السمعة عطّلت الحريات، واجهضت أية محاولة للممارسات الديموقراطية، واتخذ قرارات عنيفة ضد كلّ الخصوم دفعة واحدة دون تفكّرٍ وتدبّر في عواقب الأمر، ورأى في نفسه أنّه الملهم وأنه الأذكى والقائد مقطوع الوصف ومنقطع النظير، وبذلك وضع السادات صدره العاري هدفًا لكلّ القوى السّياسية والوطنية والاجتماعية والدينية في البلاد، بات الجميع في حالة خصومة معه، حتى تم اغتياله في أكتوبر 1981 على أيدي أفراد جماعة ”الجهاد الإسلاموي“.
وكما مهَّد موت عبد الناصر المفاجئ لمجئ السادات، مهَّد اغتيال السادات المفاجئ أيضا لمجئ مبارك، جاء مبارك ليتَّبِع سياسة أفصح عنها في آخر أيام حكمه وهي سياسة «خليهم يتسلوا!»، فهو كان يتسلى بجمع المال له ولأبنائه وبالمحافظة على حياته وحياة أسرته وأعوانه، وببقائه على قمة السلطة مدى الحياة، وربما توريثها أيضًا لأحد أبنائه. وترك الشعب يتسلى بكل شيء يروق له. وفي مضمار التسلية المعمول بها في البلاد نجح معاونوه عام 1997، في انتزاع موافقة من الجماعة الإسلاموية على وقف العنف، بعد صدامات دامية بينها وبين مؤسسات الدولة، راح ضحيتها عشرات الأبرياء من رجال الدولة، والمدنيين المصريين والأجانب. وبموجب هذا الاتفاق أعلنت الجماعات عن تفكيك أجنحتها العسكرية، وتسليم أسلحتها للدولة بعد وقف العمليات ضدها، وتفكيك جناحها الإعلامي، الذي كان يُطلق البيانات بعد كل عملية تقوم بها الجماعة. لكن الرياح لا تأتي دائمًا بما تشتهي السفن، وحيث يقل العمل تكثر الشعارات الخادعة، فقد ظهر شعار ”الإسلام هو الحل“!، وليس هناك من حل يلوح في الافق القريب أو البعيد، وزاد القمع السياسي للجماعات، ولم يواكبه تراجع تنظيمي أو مجتمعي لها، لقد حافظت على نشاطها الشعبي التحريضي، واحتفظت بتواجدها داخل النقابات المهنية للأطباء والمحامين والمهندسين والصيادلة. كل هذا والمؤسسة الأزهرية تنتظر وتراقب، وتغلق القُمْقُم بإحكام، وتعمل على تقويته.
بعد سقوط مبارك، اتّخذت القيادة الأزهرية خطوات لتحرير قمقمهم من قبضة النظام وتحكُّمه به ومحاولة الولوج إلى مافيه، وأصدر شيخها في يونيو 2011 - إلى جانب عدد من المفكّرين والسياسيين - ورقة من إحدى عشرة نقطة حول مستقبل مصر عُرِفَت بـ"وثيقة الأزهر". وحدّدت أولويات ما بعد الثورة، هي: التركيز على الحرية والمساواة للجميع، ومكافحة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية، وإصلاح التعليم، والحد من البطالة، والالتزام بالمعاهدات الدولية، وجميعها ليست من شؤون الأزهر، ولم يتحقق منها شيء، ولكن الأهم من ذلك والهدف الرئيسي من هذه الوثيقة هو الضغط من أجل استقلال الأزهر عن سيطرة الدولة. وعدم اقتراب أحد من القمقم.