أين حدود الصبر؟!


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 7734 - 2023 / 9 / 14 - 00:35
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

يوجد دائمًا في حياتنا المشتركة من يتعمد خلط الأشياء حولنا ويعمل جاهدًا على استمرار وامتداد رحلة التوحش والجنوح والمحن عبر التاريخ، فيخلقون لنا عالما ضبابيا إلى درجة يعجز عندها المرء أن يرى كف يده في وضح النهار، وينسى حتى إسمه في خِمار الذاكرة ودروب الحياة المعقدة، إنهم يضعوننا في ”سحر الواقع“، كيلا نراه على حقيقته، ومن ثم نعجز عن تغييره.
الروائي الكولومبي ”جابراييل جارثيا ماركيز“ عبر عن هذا الواقع الساحر بعبقريته الفائقة في حكاية عجيبة ومدهشة للفتاة البريئة ”إيرنديرا“ مع جدتها الشريرة، فبراءة الفتاة تتمثل في عجزها عن تغيير واقعها الذي يبدو لها كأمر أقرب للمستحيل، وهو الخضوع باستسلام تام لحكم جدتها القاسية الشرِّيرة، التي تستغلها أسوأ استغلال، فمن ناحية تتاجر بجسدها، ومن ناحية أخرى تتعامل معها من منطق السيد والعبد. والفتاة الوادعة التي تربت مع جدتها لا تعرف تعبيرا تتعامل به معها سوى الإجابة بهدوء وطاعة « نعم يا جدتي». أهم ما يميز سلوكها تجاه عنفوان واستبداد جدتها هو الصبر الذي يبدو وكأنه الرضا، إنه سحر الواقع، ولكنه وصل في وقت ما إلى منتهاه، فأقدمت الطفلة البريئة على قتل جدتها.
يمكن قراءة الحكاية أو تحميلها من الرابط التالي:
https://www.noor-book.com/كتاب-حكاية-ايرينديرا-البريئة-وقصص-أخرى-جابيرييل-جارثيا-ماركيز-pdf
***
ذكرت كلمة الصبر كثيرًا في قرآن المتأسلمين، يقول إلههم الشرير: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين} (البقرة 155).
ويجزي أتباعه الذين يستسلمون لإرادته، بقوله: {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هو المهتدون} (البقرة 156 - 157)، ويقول أيضًا: {إنما يُوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب} (الزمر 10).
هذه الآيات وغيرها، تناولها بالجمع والتعليق عليها من الناحية الدينية كبير تجار الدين المحترفين في العصر الحديث الشيخ (الدكتور) يوسف القرضاوي في كتاب تافه بعنوان: ”الصبر في القرآن“، وقال أن الصبر هو « حبس النفس على ما تكره ابتغاء مرضاة الله»، بمعنى ألَّا يجزع المرء من المحن، ويصبر عليها، لأنها إرادة الله بناء على الآيه {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} (الرعد 22). وتكلم عن ضرورة المحن لأهل الإيمان، والصبر عليها وعلى طاعة الله ورسوله وألي الأمر، والصبر على المعاصي وعلى الظلم وفقدان الأحبَّة والمرض …
بينما توصَّل تاجر دين آخر - ولكن من الهواة - هو عمرو خالد في كتاب أتفه من سابقه هو: ”الصبر والذوق“ إلى أن «الصبر مفتاح الكون»، وليس مفتاح الفرج كما هو شائع، وأنَّ « كل شيء في حياتنا يحتاج لخُلُق الصبر» وأن « بدونه تهلك البشرية».
وهما في ذلك يحذون حذو الآخرين من تجار الدين الذين يحثون الناس على أن يكونوا في ”معية الله“، ويتركونهم هم في ”معية المال“.
من هنا تتردد كثيرًا جملة ”الصبر مفتاح الفرج“ على ألسنة المتأسلمين دون التقيِّد بمقولة ” للصبر حدود“ التي لا تقل شيوعا عنها، وقد تغنت بها السيدة أم كلثوم ضمن أغانيها.
أين إذن حدود الصبر؟ وماذا لو تعدَّى حدوده؟
***
لا شك في أنَّ كثيرًا من الأشياء في الحياة تتطلب منَّا الرَّوِيَّة والتأني واستعمال العقل والتفكيرُ في أمورها، قبل البت بشأنها، لذلك قال الحكماء ”في التأني السلامة وفي العجلة الندامة“. كما أن الكاتبة الأمريكية ”إم جيه رايان“، وهي متحدثة شهيرة تعمل على تدريب المسؤولين التنفيذيين في قضايا تتعلق بالحياة والقيادة، ذهبت في كتابها: ” قوة الصبر، كيف تبطئ إيقاع حياتك السريع وتستمتع بمزيد من السعادة، والنجاح والطمأنينة كل يوم“ إلى أن للصبر قوة لا يستهان بها، وقالت: « ليس الصبر شيء نمتلكه أو لا نمتلكه ولكنه قرار نتخذه، أو خيارا نأخذه، مرارا وتكرارا، وكلما زاد إدراكنا لهذه الحقيقة، أصبحنا أكثر حرية لتطبيقها».
وتحدثت عن أهمية الصبر في حياتنا التي أصبحت متسارعة بشكل مخيف وقالت إن « الصبر يمنحنا الإصرار والمثابرة، أو القدرة على العمل بثبات في اتجاه تحقيق أهدافنا وأحلامنا» (ص 11)
وقالت إن « الصبر هو جوهر الكياسة والأخلاق»، وعددت محاسنه عديدة له، منها أنه يؤدي إلى التفوُّق، ويجعلنا متناغمين مع دورات الطبيعة، ويساعدنا على اتخاذ قرارات أفضل، ويصلنا بالأمل، ويطيل العمر ويحررنا من الضغوط، ويساعدنا على أن نقلل ما نهدره من وقت وطاقة ومال.
https://books4arab.me/تحميل-كتاب-قوة-الصبر-pdf-لـ-إم-جيه-رايان/
***
يلاحظ أن مطلب الصبر من الناحيتين الدينية والمهنية يهدف إلى الأفراد الذين يواجهون محنًا وبلاءً في حياتهم، ولا يتجه إلى أي مجتمع، تحل به المحن والابتلاءات، ولا يكون له صلة بها، ولم يتسبب في حدوثها، مثل الزلازل والبراكين وغيرها من الكوارث الطبيعية، فضلا عن تجويعه وإفقاره وتجهيله ووقوعه تحت نير الظلم والقهر والاستعباد.
عندئذ على ماذا يصبر؟ ولماذا؟ وما التغيير الذي يحدثه صبره؟
***
الصبر المقصود في بلادنا هو أن يتجرَّع المرء مرارة الظلم والغبن والقهر والفقر والجهل والمرض دون امتعاض أو عبوس، وأن يقف مع البلاء وسوء الحال بالكياسة وبحسن الأدب وعدم الشكوى والتذمر، وألَّا يفرِّق بين حاله في نعمة أو حاله في محنة، وأن يكون ساكن الخاطر فيهما. إنه الاطمئنان الزائف لسحر الواقع!، وفوق ذلك يظل المتسبب في كل ذلك إلهًا في نظره، يظل هو القهّار الوهّاب الرزّاق الفتّاح العليم …!
***
يُعدُّ وضع الشعب المصري في الوقت الراهن من أسوأ أوضاع الشعوب في العالم ، ويَطلب منه الحاكم المتألِّه أن يتحلَّى بالصبر الذي قد يكون مفتاح الفرج!. عشر سنوات من حكم اتَّسم والتزم بالغباء المطلق، وتسبب في دفع الدولة بكاملها إلى حافة الهاوية، فظهرت كلمة الصبر بشكل قوي في الإعلام المصري الموجه من الجهات الأمنية، وأصبحت علكة يلوكها الحاكم المتألِّه في مؤتمراته العديمة القيمة. عشر سنوات وصفها السياسي المصري والبرلماني السابق، الدكتور محمد جمال حشمت، في حديثه لـ”عربي21 في 06-Jul-23، بـ« عشرية الخراب الاجتماعي، والصحي، والتعليمي، والأخلاقي"، مضيفا: "هي عشرية التراجع الاقتصادي تجارة وصناعة زراعة وتصديرا».
حشمت، واصل قوله: « هي عشرية تهديد الأمن القومي المصري، أراضي وثروات وسيادة، ولا ننسى أنها عشرية الاستبداد والفساد في حرية الرأي والتعبير، وغياب مصر على المستوى الرياضي بهروب المتميزين».
وأكد أنها « عشرية القهر والسيطرة الأمنية وفساد مؤسسات الجيش والأمن والقضاء، وعشرية إفساد وإهانة الإنسان المصري، والتحكم في البحث العلمي وفصل وسجن».
يعلِّمنا التاريخ أن عدم محاسبة الحاكم المتسبب في الانهيار الاقتصادي والثقافي والأخلاقي … إلخ، في دولة ما، يكون مدعاة لمن بعده أن يكون أسوأ منه. بعد عشر سنوات من التدمير الممنهج والأسرع من غيره في عهود العسكر السابقين، نجد هذا الحاكم المتألِّه، يقول: « هاااح كلام أهو صعب أقوله، لا أنا هأقول وهأقول وهأقول على الهوا وتعرفو الحكايه … علشان إيه … تصبروا وتتحملوا … مفيش غير كده … والحكمة العجيبة إنهم استحملو» ويأتي صوت من خلف الضباب يقول:« دول جدعان ياريس»، فيرد عليه قائلا: « أوي والله!».
ولكن مادام (مفيش غير كده)، فما هي أهمية ذكره؟، المرء عادة لا يحتاج إلى من يُذَكِّره بما يفرض عليه، ولا يجد أمامه خيار آخر غيره؟.
الحاكم المتألِّه لا يكف عن مطالبة المصريين بالتحلي بالصبر، ليروا ”العجب العجاب“، والإشادة ، بـ "تضحياتهم وصبرهم"، رغم معاناتهم الغير مسبوقة. وترديد ما يقولونه لبعضهم البعض أو ما يدور بخلد الكثيرين منهم:« إحنا عايشين والظروف الصعبة دي هتمر وياما مرت على مصر ظروف أصعب من كده، بعزيمة وفهم وصبر الشعب المصري استطاع تجاوز الظروف الصعبة».
أو يدغدغ مشاعرهم بقوله:« نعلم أن شعبنا العظيم تحمل الكثير وضرب المثل في الصبر والصمود أمام أزمات عديدة».
وفوق ذلك يحاول تبرير الفشل والانهيار، فيقول: « مافيش حاجة مصفية، مافيش مدرسة كويسه، ما فيش تعليم كويس، الناس عاشت على كده»، ولم يكمل جملته بقوله: ومادامت الناس عاشت على كده، يجب ان تستمر على كده!.
***
ما دلالة أن يطلب رئيس دولة من شعبه أن يتحلى بالصبر، ويشيد بتضحياته وصبره في ظروف متردية، هو المتسبب فيها؟.
إنه بذلك يحاول خلط الأشياء وإثارة الضباب حولها، ليدفع الشعب إلى الشعور الكاذب بسحر الواقع. إن تكليف البشر بالصبر بمفهومه الحقيقي والعملي هو الصبر على الشدائد والمصاعب عند اختيار طريق التغير إلى الأفضل، لأن الأصل في المسيرة الإنسانية أن تحسن حاضرها، وتهدف إلى مستقبلها، ولكن هذا المعنى فقد معناه وجانبه الصواب، ليدل على الانحناء أمام العاصفة والاستسلام في مقابل القهر والرضا في حال الخراب والدمار، وتصغير الخد والتخلِّي عن الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة والرفاهية وكل مقومات الحياة البشرية، وتركها في أيدي العابثين والمتلاعبين بمقدرات الشعب البائس.
بدأ عمله السياسي الذي فرضه على الشعب بسلسلة من الوعود التي ربما لم تكن كاذبة، أو حالمة، بل مخدِّرة، بجعل مصر "أدّ الدنيا"، وبجعل شعبها في أحسن حال. ومرت السنين والشعب ينتقل بسرعة من سيء إلى أسوأ، وبعد أن كان عام 2015 هو عام الرخاء الموعود، تأخر الوعد إلى 2016 مع مطالبات بالصبر، ثم تأجل إلى 2017، وبعده إلى 2018 ثم 2019، حتى جاء الوعد بأن تصبح مصر بنهاية يونيو 2020 ”حاجة تانية خالص“، وأخيرًا اقتصر الحديث على الصبر وحده.
المختصر المفيد في هذا الشأن يجده القارئ العزيز في مقال للكاتب: ستيفين كوك في مجلة فورين بوليسي الاميركية، ترجمة الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين على الموقع التالي:
https://apa-inter.com/post.php?id=6741
***
انقسم الشعب بين مستفيدين من وجوده ومصدِّقين لوعوده، يلتمسون له الأعذار، ويطلبون له البقاء، ويلقون الضوء على ما يعتقدون أنه انجازات تحققت، وبين معارضين يرون أنه لم يحقق سوى زيادة في الديون والفساد والظلم والقهر والفقر وتبديد المال العام.
إنقسم الشعب إلى قسمين، قسم ينعم بالفساد وامتصاص دماء الوطن، وقسم لا يرى أملا ولا رجاء من سحر الواقع المهين!
***
لا بد أن تكون هناك حدود للصبر في العمل السياسي العام، خاصة إذا أسفر عن نتائج مؤلمة، ولا يقدر الشعب على تحملها. فعلى ماذا يصبر حينئذ؟ وهل ينفع صبره ويأتي الفرج مع نفس التفكير، ونفس السلوك؟
في العمل السياسي العام، الصبر يكون مطلوبًا فقط أثناء التغيير المثمر والمفيد والذي يعود بالنفع لكافة المواطنين ويحقق لهم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
أفيقوا إذن يا ألى الألباب، فالصبر ليس دائمًا مفتاح الفرج، ولا بد أن يكون له حدود، فعندما تنطفئ شعلة الأمل، ويضيع الرجاء، لا يكون بعد الصبر إلَّا القبر.