الحقارة أيضًا أعيت من يداويها!


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 7563 - 2023 / 3 / 27 - 00:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

يبدو أن حماقة العربان كانت على أشدها في عصر الشاعر العراقي الكبير أبو الطيب المتنبي (915 - 965م)، فكتب يقول:
« لكل داء دواء يُستطبّ به إلا الحماقة أعيت من يداويها»
الحماقة بحسب قواميس اللغة هي السفه والخفة والطيش والرعونة، وهي، كالوقاحة، تجني على من يتسم بها قبل غيره. أما الحقارة التي لم ينتبه لها المتنبي، فهي التفاهة والذل والمهانة وفقدان العزة والكرامة، ويكون المصاب بها عدوا لنفسه وعدوا لغيره، وهو شخص غبي في قراراته وفي تصرفاته، وقد عرَّفه الكاتب محمد توفيق في كتابه ”الغباء السياسي، كيف يصل الغبي إلى كرسي الحكم؟“، بأنه: « الشخص المغرور برأيه والرافض لقبول النصيحة، علاوة على أنه غير قادر على تسيير أمور الناس ورعاية مصالحهم؛ لعدم إلمامه بكل شيء يجري حوله، مما يترتب عليه قيامه بتصرف يتسم بالغباء، بينما يظن هو أنه الخيار الأفضل». إنه يجمع في أعماق نفسه كل الشرور، لفقدان عقله، وطيش فكره، وانحراف رأيه، وتضليل قوله، وهو مصاب بسرعة الضجر والظلم والانحلال، فلا يحسن شيئًا في حياته!، ويدمر كل ما تطاله يداه دون خجل أو وجل.

المعروف أن مسؤوليته الإنسان عن نفسه وعن حياته تتضاءل كثيرا، بل وقد تتلاشي، خاصة عندما يكون مسؤولا عن أنفس الآخرين وعن حياتهم، فمثلا، من المنتظر أن يمارس رجل الأمن مسؤوليته في المحافظة على حياة الآخرين، وأن يقوم رجل المطافيء - دون تردد - بإطفاء الحرائق وإنقاذ الناس أثناء الكوارث، وألَّا يفكرا في نفسيهما أمام الخطر الداهم، ويعمل كل منهما ما في وسعه على تأدية عمله بشكل احترافي كامل، بناء على ما تعلمه من أساليب وما لديه من آليات وإمكانيات خاصة، كيلا يعرِّض حياته هو للخطر. فإذا تخطى تلك الآليات والإمكانيات، وعرَّض نفسه للخطر يمكن وصفه بالأحمق، وإذا تخلى عن واجبه أثناء الخطر وراح يجرد الضحايا من ممتلكاتهم ويأخذها لنفسه، يكون بالتأكيد قد دلَّ بوضوح على حقارته وتفاهته وفقدانه لعزته وكرامته الإنسانية. فما بالنا بشخص، شاء لنفسه أن يكون مسؤولا عن دولة بكاملها، وفرض نفسه على شعبها بالخداع والقوة؟، وراح يبرر تصرفاته الحقيرة أمام العالم المتحضر بأنه مسؤول عن 100 مليون مواطن، وقد امتلأت نفسه بالغرور والغطرسة، والشعور بأنه مبعوث العناية الإلهية، فيكرر مطلع الآية 79 من سورة الأنبياء: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ }، في أكثر من مناسبة، واضعا نفسه في مقام النبي سليمان. أي الادعاء بأنه يكلم الله وأن الله يلهمه ويملي عليه ما يفعل، بل ويزعم أنَّ الله هو الذي جاء به إلى كرسي السلطة وأنه هو وحده القادر على زحزحته عنه، وأن من يحاول الاقتراب من الكرسي سوف يمسحه من على وجه الأرض.
ولأنه يعتبر الشعب قطيعًا من السذج والجهلة، يقول: « أنا حخلي معاك أكتر من الفلوس أن حخلي معاك البركة »، فقط على القطيع أن يؤدوا له فروض الطاعة والخضوع والاستسلام من أجل هذه "البركة“ الإلهية المزعومة، التي طالما انخدع بها الشعب، وهي لا تأتي له إلا بالشُّؤم والنَّحْس والجدب والقَحْط والنجاسَة. ولا مانع لديه أن يبيع أرض الوطن، ويتخلى عن مياه النيل، ويحفر قناة لرفع الروح المعنوية للشعب، وأن يطأطئ رأسه أمام الأقوى منه، ويصغَّر خديه ويقلَّص قدرة بلاده ومكانتها أمام البدو الأثرياء، ويستولى على الشركات الخاصة ويبيعها لهم، ويبدد مقدرات الشعب في بناء القصور الفارهة ومشاريع المنجهة والتباهي على حساب الفقراء والجياع، ويشترى لنفسه من أموالهم طائرة رئاسية بنصف مليار دولار، ويعتقل ويسجن ويقتل خارج القانون، ويعامل المواطنين كما لو كانوا مجرمين أو في أفضل الأحوال كالعبيد..!!.
إنه أكذبُ من لمعان السراب، ويعيش كذبه ويصدقه، لأسباب أقلها ما جاء في قول الشاعر:
لا يكذبُ المرء إلا من مهانته أو عادة السوء أو من قلة الأدبِ
يخدع الجميع بمن فيهم اقرب الناس إليه، ويخون الجميع وفي مقدمتهم من يحبونه، ويزاحم الضعفاء والفقراء في أرزاقهم، بدلا من إثرائها، ويقبض على أي معارض له لمجرد كلمة قالها في لحظة يأس غاضبة، ويسجنه لسنوات طويلة دون محاكمة، ويهذي بكلمات غير مفهومة وغير مطلوبة ولا ترقي لمستواه الذي فرضه بالإرهاب على الجميع. نراه عديم الرحمة، يسرق ويهين ويسخر من الآخرين، ثم يستجديهم ويطلب منهم الوقوف بجانبه! بحيث ينطبق عليه قول الشاعر العراقي الشهير الملقب بأبي العتاهية (747 - 826م):
إذا ما سألْتَ المَرْءَ هُنْتَ عَلَيْهِ، يراكَ حقيراً منْ رغبتَ إليهِ

في رواية ”المراهق“ للروائي والفيلسوف الروسي فيودور دوستويفسكي (1821 - 1881م) في بداية الفصل الأول (ج 1) ترجمة: سامي الدروبي، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء 2019، يقول البطل:« إن هناك شيئاً محققاً لا ريب فيه، هو أنني لن أكتب سيرة حياتي عن غير هذه الفترة، ولو قدّر لي أن أعيش مائة سنة. فلا بد أن يكون المرء حقيراً في شدة افتتانه بنفسه حتى يتحدث عنها بغير خجل ولا حياء».
إن مشكلة الحقير أنه شخص غاوٍ، شديد الافتتان بنفسه، حتى أنه يتحدث عنها بلا خجل ولا حياء، ضربه الأطفال وهو صغير، وتوعدهم بالانتقام عندما يكبر، وظلت ثلاجة بيته عشر سنوات خالية من أي طعام، ما عدا الماء فقط. وأنَّه مستعد يأكل ربع أكله لمدة سنة بس مصر تعيش! ويؤكد: «مش مهم مصر تبقى معايا المهم مصر تعيش.. والله أنا صادق معكم في كل كلمة»..
إنه أكثر الحكام في العصر الراهن كلامًا وأشدهم هراء وهذيانًا. وعلى خلاف المنطق السليم والمتبع في جميع دول العالم، يطلب من المواطنين ألَّا يسمعوا من أحد غيره: « اسمعوا كلامي أنا بس، محدش يتكلم غيري، اسكتوا، انا لا اكدب ولا ألف وأدور .. انا ماليش مصلحة غير بلدي، بلدي وبس». وعن سر تأخره في الرد وصمته الطويلة وتلعثمه في الكلام، يقول لأن « الكلام عنده بيعدِّي على فلاتر: فلتر الصدق، فلتر الأمانة، فلتر الحق»، مما حدى بالكاتب المصري بلال فضل أن يكتب مقالا ساخرا بعنوان: ”أبو فلاتر”:
https://hunasotak.com/article/11061
ولكن يبدو أن فلاتره لا تعمل على ما يرام، فتفلت منها أقوال هذيانية، من أبرزها تصريحه في يوم الإثنين 20 مارس 2020 في مؤتمر صحفي على هامش زيارته للمجر، بأنه مسؤول عن حماية المصريين وعدم التفرقة بينهم، واصفا إياهم بـ(أشقائنا المصريين)!. وفي أحد خطاباته، قال: « مصر هتفضل مصرية»، فسخر البعض معلقين بأنها معلومة جديدة بالنسبة لهم. وقال أحد النشطاء: « الحمد لله إننا عرفنا أن مصر هتفضل مصرية»، في حين طلب منه البعض الآخر ” دليلًا أو مستندًا رسميا أو اتنين شهود إن مصر مصرية“. واعتبره الآخرون على أنه ”استايل قذافي“ على غرار ما قاله إن « بر الوالدين أهم من طاعة أبيك وأمك». وأيضا قوله: « أنا مش عاوز أحلف بس أقسم بالله»، و« الحاجة اللي ما ترضيش ربنا هنكون معاها وندعمها»، و« عندهم فلوس زي الرز»، و« الإنجليزي بتاع الباكستانيين»، وعندما خاطب الرئيس التونسي قال له: « فخامة الرخيص» وليس « فخامة الرئيس»!، أما الصواريخ الباليستية Ballistische Rakete)) فقد أصبحت عنده صواريخ بلاستيكية!.
وكما « يدعـم التافهون بعضهم بعضا، فيرفع كلا منهم الآخر لتقع السلطة بيد جماعة تكبر باستمرار و تبني بالتدريج شبكة من التافهين تقوم بإسباغ التفاهة على كل شيء». بحسب أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية في جامعة كيبيك الكندية ألان دونو A. DENAULT في كتابه La Médiocratie (الوسطية)، الذي ترجمته الى العربية الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري بعنوان ” نظام التفاهة “، ونشرته دار سؤال للنشر لبنان بيروت عام 2020،
https://www.kotobati.com/كتاب-نظام-التفاهة-pdf
فإنَّ الحقراء أولى بهذا الدعم وأجدر به، خاصة وأن التفاهة وأيضًا الحماقة من أهم سمات الحقراء. قد يكون المرء تافها في كلامه وتصرفاته، كما يمكن أن يكون أحمقًا في سلوكه، ولكنه ليس حقيرًا، بيد أنه إذا كان حقيرًا، فسوف يكون تافهًا وأحمقًا بالضرورة، إذ لا توجد حقارة بدون تفاهة وحماقة. وعليه يدعم الحقراء بعضهم بعضًا، حتى أنَّ وباء الحقارة أصبح من أكثر الأوبئة انتشارًا بين العربان عامة بفعل ثقافتهم الدينية الخبيثة الطاغية على وجدانهم منذ ما يزيد على 1400 عام. كان لمصر على وجه الخصوص نصيب كبير منه لا يغفله التاريخ، بحكم موقعها ووضعها الحضاري والجيوسياسي.
الحقارة السياسية لها تاريخ في مصر، وقد تكاثفت مع ابتلاء البلاد في عام 1952 بمجموعة من الحكام الجهلة. ومع أن الجهل في ذاته ليس عيبًا إلَّا إنه قد يؤدي الى تصرفات غبية، أهمها وضع البلاد لعقود طويلة في حالة من الفوضى وعدم الاستقرار المادي والمعنوي. إن مشكلة أولئك الحقراء لا تكمن فيما لديهم من شهوة التسلط ونزعة التملك فحسب، بل أيضا فيما يعانونه من فرط الغرور وضياع العقل والفظاظه والتهوُّر والقسوه Rawness، وقبل هذا وذاك في انعدام وعيهم بقدراتهم الذاتية، مما أفضى بهم إلى ترسيخ الحقارة تدريجيًا في البلاد، من خلال ممارسات دونكيشوتية، عملت على استنزاف موارد الدولة وإفقارها وتجريف أخلاق مواطنيها. وعندما انتفض الشعب بشكل تلقائي ضد سيطرتهم في 25 يناير 2011، شعروا بأن الأمر قد يفلت من بين أيديهم، فعقدوا صفقة قذره مع حسني مبارك قبل الإطاحة به، على أن يسلمهم السلطة وفي المقابل يحمونه من المحاسبة القانونية على جرائمه في حق الشعب، وكونوا من بين الصف الأول للجيش مجموعة ”المجلس الأعلى للحقراء“، الذي خطط على الفور لفترة انتقالية، تعيدهم مرة أخرى وبشكل تام إلى السلطة، أتاحوا خلالها للمتأسلمين المتعطشين دائمًا للسلطة أن يحكموا البلاد، وهم يعرفون أنهم ليسوا أقلُّ حقارة ودناءة منهم، وأنهم سوف يفشلون مثلهم في إدارتها. أمسك المتأسلمون بالحكم كما تمسك الضباع بعظمة الفريسة، وراحوا يعملون على أسلمة الدولة، ويرتكبون حماقات وتفاهات سياسية متتالية، للسيطرة على القضاء والبرلمان وغيرهما من المؤسسات، وفي غضون ذلك كان المجلس الأعلى للحقراء يعمل في الخفاء، ويسبب لهم الكثير من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية بشكل يومي، وبعد أقل من عام أمكنه إزاحتهم عن الحكم، ووضع شخص من بينهم على قمة السلطة، تتوفر لديه كل مقومات الحقارة والدناءة والبلادة، ليعيد الأوضاع في البلاد إلى أسوأ مما كانت عليه في العهود السابقة.
بدأ سيطرته بتوجيه تساؤل للمواطنين، محل سخرية كبيرة، قائلًا: « إنتو ما تعرفوش إنكم نور عنينا ولا إيه؟»، إنهم في نظره مجرد أطفال، لا يعتبر نفسه في مقامهم، فهو (الأب) الحنون، والطبيب الذي يصف الدواء، والحكيم الذي يجد المخارج والحلول لكل المشاكل القائمة، وأنه لا بديل له على الإطلاق، وأن السفينة ستغرق بدونه!. وكأي متأسلم مستبد، لا بد وأن يتخذ لنفسه صفة قدسية يشارك بها الله أو تعطيه مقامًا ذا علاقة بالله، على النحو الذي سبق ذكره. يتخيل أن العالم بأسره ينظر إليه ويراقب عمله، ليتعلم منه ويستفيد من مواهبه السياسية وخبراته العملية. وأن الشعب يجب أن يكون ملك يمينه، وأن عليه أن يكون في طاعته مهما فعل، ومهما جوّع واعتقل وعربد على الناس. ومن شدة افتتانه بنفسه لا يكف عن المديح لها، ولا يكف عن الحلفان بالله زورا وبهتانا، ودائم النقد لغيره، ولا يتوقف عن الكذب على الشعب وتمنيته بالخير العميم بين الفترة والأخرى، بينما تسير الأمور من سيئ إلى أسوأ.
ولأن الشعب في نظره من المجرمين أو في أفضل الأحوال من العبيد، يتحتم عليه احتقاره وازدرائه وإذلاله بكاملة واعتباره عقبة كأداء في طريق غروره اللانهائي ونرجسيته المفرطة، فيخاطبه قائلا: أنتم يا مصريين!، ويطلب منهم يبطلوا ”هري“، وهي كلمة من اللهجة الدارجة المصرية (الصايعة)، وتعني الإكثار من الهذيان بالهراء أو الكلام الفارغ من المعنى أو الهدف. يقولها مرارا وتكرارًا ويعقبها عادة بضحكاته المدوية، وكأنها كالبكاء أو أشد وطأة.
إنه يصرُّ بعنف على اتخاذه القرارات الخطيرة والمتهورة، بشكل فردي، لا يستمع فيها لرأي الآخرين، ولا يعد آراءهم ذات أهمية أو وجاهة حين تصطدم برؤيته التي غالبا ما تأتي بناء على تصورات نابعة من مصالحه الشخصية. جميع قراراته الصغيرة والكبيرة يجب أن يكون هو صانعها، لأنه هو وحده الذي يدرك أبعادها ونتائج صدورها، وعلى الجميع أن يصفق ويحتفل بها، ومن ينتقدها أو يبدي معارضة لها يتعرض فورًا للإيذاء الجسدي والنفسي..
يعلمنا التاريخ أن العظماء هم الذين يصنعون المناصب في الدول الحرة النزيهة، بينما في الدول المستبدة المغتصبة المناصب هي التي تصنع الأشخاص وتكشف ضعفهم وضآلتهم. يقول الفيلسوف والسياسي الروماني بوئثيوس (480 - 524) في كتاب عزاء الفلسفة: « إذا لم تكن نفسك كبيرة بذاتها فلن ينفعها المنصب. عندما يُوسَّد المنصب إلى غير أهله فإنه لا يجعل منه أهلا على الإطلاق، وإنما يفضحه لا أكثر ويكشف ضعفه وضآلته… .فالشرف لا يأتي إلى الشريف من المنصب، بل يأتي إلى المنصب من الشريف».

لجأ منذ اللحظات الأولى بدعم من مجلس الحقراء إلى ترسيخ الحكم الشمولي (التوتاليتاري)، الذي أسس له البكباشي الحقير، وهو أسوأ نظم الحكم، كنوع من السلطة يلوذ به الطغاة لبسط طغيانهم على الشعوب وسيطرتهم على العقول واستبدادهم بالنفوس، نظام يعتمد على سياسة قولبة المجتمع في قالب واحد تحت مظلة الزعيم الأوحد الذي يجمع كل السلطات بيده، فهو مصدر السلطة وهو ممثل الإرادة الشعبية.
أطلق زبانيته من الحقراء المختارين بعناية للعمل وراء الكواليس، لترسيخ الظلم والفساد والانحطاط والسلب والنهب واستنزاف موارد الدولة وسجن وقتل المعارضين، وأمام الكواليس يظهر هو كملاك طاهر أو نبي مرسل أو إله حكيم، يتلاعب بعواطف الشعب المكلوم واللعب باسم الوطنية والحفاظ على الأمن، لتخدير الشعب عن أي طغيان يمارسه ضده. هذا النهج الشاذ أصاب الحياة العامة بقدر لا يحتمل من الحقارة. فأصبح أفراد كثر من النخب السياسية والقضائية والتعليمية والإعلامية والدينية وغيرها يتسمون بالحقارة في القول والفعل، وذلك لأن الانتهاكات في حق الوطن والمواطنين أضحت مقرونة دائمًا بمبدأ الإفلات من العقاب، مقابل الحوافز وإعلاء لغة الولاء والمصالح الشخصية، أصبحوا يدمنون الشكليات والبروباجندا الرخيصة وأدوات التجميل والبهرجة والتلون، وغضّ الطرف عن أفعاله وأكاذيبه وانتهاكاته المروّعة!
الحقير عادة قاطع الطريق Bandit، يفسح لنفسه المجال بقوة السلاح والعنف المفرط والألاعيب السياسية بحيث لا يقبل فيه التوجيه ولا النقد ولا حتى النقاش، ليسرق من المال العام عمدًا بإعتباره مالاً سائباً لا صاحب له، فيضر مجتمعه، ويسمح بالقيام بأفعال لا تخضع للمساءلة والمحاسبة القانونية والشعبية.. يضع النخب في حال من تبلد الأحاسيس والمشاعر وعدم القدرة على الشعور بالآخرين أو تلمس الخطأ من الصواب، يضعها في حالة عقلية غير سوية، مما يجعل الحاكم يعتقد أن كل ما يفعله هو الصحيح، وأنه ليس بحاجة لاستشارة أحد أو الاستئناس برأي أي كان، فكل الآراء دون رأيه، وليس فيها ما يستحق الاهتمام. وبذلك تقل أو تنعدم أهمية النخب بالنسبة له، ومن ثم تنكمش جميع النخب في مواقعها، لا حس ولا خبر. والحاكم بدوره لا يسمع ممن حوله إلا نعم، ولا يناقشه أحد ولا يصارحه أحد. لقد فقد الجميع الحكمة والبصيرة، إلى جانب فقدان الرغبة والقدرة على التعلم والمعرفة والاستفادة حتى من التجارب الشخصية والتاريخية.
هذه الحقارة في القول والفعل جرَّت البلاد بكل مقوماتها المادية والمعنوية إلى أتون الفساد والانحطاط والخراب والدمار، فإي نظام حكم يقوم عليها، لا يمكنه أن يبني اقتصاداً سليماً وثقافة بناءة وحياة إنسانية كريمة. بل يساهم بقدر كبير في دمغ الحياة العامة بسمة الرداءة والبذاءة الوقاحة والحقارة بحيث تصبح أمرًا عاديا، ثم مستساغًا، ثم مطلوبًا.
لقد كانت مصر بلد جميل بالفعل، ولها مكانة دولية فريدة بين الدول. وكان معروفًا في العالم أجمع أن شعبها يتسم دائمًا بالطيبة والتسامح. وكان على غير الشعوب الأخرى يجد في السخرية ملاذه الأخير، لشدة تواضعه وبساطته، ولكن الحقراء انتزعوا منه هذه الخصال جميعها، وأغرقوه في الهموم والمشاكل!
يقول الفيلسوف الهولندي العظيم باروخ سبينوزا ( 1632 - 1677) إن « الغاية الكبرى من الدولة ليست التسلط على الناس أو كبحهم بالخوف .. ولكن الغاية منها أن تحرر كل إنسان من الخوف لكي يعيش ويعمل في جو تام من الطمأنينة والأمن ..». بيد أن الحكام الحقراء الذين يتسمون بالجهل والعجز لا يفهمون هذا الكلام ولا يستطيعون العمل به!