الإسلاموفوبيا أسبابها ومآلاتها(2/2)


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 7575 - 2023 / 4 / 8 - 00:13
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

لا مفر من أن يضطر المؤمنون بالإسلاموية للتعامل مع المنبع الأساسي والمصدر الوحيد لعقيدتهم الإجرامية، وهو القرآن والسنة، ومحاولة معالجتهما في هدوء وببطء وحرص شديدين، رغم أنهما يُشكِّلان منظومة أيديولوجية فولاذية مقدسة بشدة ومدعَّمة بعنف من قبل مؤسسات وجماعات نافذة وقوية في مجتمعاتها، ويحميهما حكام جهلة ونظم حكم فاشية، وتحيط نهما أسيجة من الرعاع والأوغاد والسذج المغيبين، ومن الصعب اختراقهما بسهولة وبأمان، ويتطلب اقتحامهما شجاعة غير عادية، لا تتوفر إلا نادرا لدي البشر!. نعرف - مثلا - أنه بعد سقوط الاستعمار العثماني لمنطقة العربان وزوال كذبة ”الخلافة الإسلاموية“، حاول أول رئيس لجمهورية تركيا (ما بين 1923 - 1938)، مصطفى كمال أتاتورك (1881 - 1938) ان يبعد الدين عن السياسة، ولكنه لم يتمكن من المساس بأي من النصوص الدينية المقدسة، فعادت الأمور في بلده مرة أخرى بعد موته إلى أسوأ ما كانت عليه.
إن الهدف الرئيسي لأية أيديولوجية، سواء كانت سياسية أو دينية ، هو التأثير على عقول البشر وجعلهم يرتبطون بها في شكل قطيع يسهل توجيهه وقيادته من قبل الذين يتولون أمره أو يستفيدون منه، وذلك بإقناعهم بأن هذه الأيديولوجية أو تلك هي الأفضل لهم ولحياتهم، وبدون اعتناقهم لها وانتمائهم إليها سوف تنهار حياتهم وتفني أعمارهم. كما وأنه ليس من الضروري على أفراد القطيع أن يستفيدوا منها، يكفيهم فخرًا الانتماء إليها والدفاع عنها كلما اقتضت الحاجة. لذلك يراعي واضعو الايديولوجيات والمستفيدون من ورائها أن تصل إلى قمة التأثير على عقول أكبر عدد ممكن من الناس بتنوع مضاربهم واختلاف مشاربهم، ومحاولة - قدر المستطاع - سد الثغرات التي قد تضعف من تأثيرها، والعمل على حمايتها ورعايتها بشتى الطرق والاساليب بما في ذلك العنف والإجرام. فالأيدولوجيات تتمزق عندما يضعف تأثيرها، ويقل عدد المؤمنين بها. ولنا في النازية والشيوعية والاشتراكية الناصرية وغيرها عبرة في ذلك.
إن الاعتقاد أو الإيمان هو القاسم المشترك بين الأيديولوجية الدينية و الأيديولوجية السياسية. مع أن الاعتقاد الديني لا يتطابق مع الاعتقاد السياسي، فكلّ منهما يحتاج إلى مجال خاص يتبلور فيه ويُنتج فيه مفاعيله الخاصة. الأول يتبلور في المجال الغيبي المتخيَّل والثاني في المجال الدنيوي الملموس. لذلك كان من الصعب الاستمرار في جمع الاعتقادين في شخص واحد بعد موت نبي الأسلمة، الذي كان يبرر أفعاله الدنيوية بما يسمى بالوحي الإلهي!. وبعد موته وغياب لوحي المزعوم تحتم فصلهما عن بعضهما البعض تدريجيًّا، لكل منهما مؤسساتها، الأولى يتولاها رجال الدين والثانية رجال السياسة. لم يكن هذا الفصل سوى توزيع أدوار لا أكثر ولا أقل، كي تصب مفاعيلهما في مصلحتهما معًا. يتولى رجال الدين تبرير أفعال رجال السياسة مهما كانت شاذة أو منحرفة أو قذرة، بناء على أحاديث نبوية مختلقة، وفي المقابل يتولى رجال السياسة حماية رجال الدين والدفاع عنهم وعن مهاتراتهم وهلوساتهم من أجل تخدير المواطنين وإبعادهم عن مشاكلهم اليومية.
الديانة الإسلاموية من أعتى وأشد وأقوى الإيديولوجيات التي تجمع بين السياسي والديني معا، فهي تقدم مجموعة هلامية من الأفكار والتعليمات والأوامر والنواهي التي يمكن أن يخوض فيها أي شخص يُعرف بين العوام بأنه شيخ أو داعية أو إمام ... إلخ، تتعمَّد الدولة أن تغمض أعينها عنه، بل وتحفِّزه وتشجعه، ومن ثم بمقتضى ذلك وحده، يعمل كل ما في وسعه على تحديد السلوك السياسي والاجتماعي للبشر، فقد تمت صناعة هذه الإيديولوجية الفاشية على مدار قرون طويلة من قبل أشخاص مرضى بالخبث وكراهية البشر، بحيث تجمع العقيدتين الدينية والسياسية معًا، والعمل المستمر على تفعيل الشؤون الدينية لصالح الشؤون السياسية، ولمقتضيات ومطالب السلطة وتوجهاتها، فتتدخل مباشرة ودون حرج في جميع شؤون المواطن الحياتية صغرت أو كبرت، وتمس بشكل مباشر حياته الخاصة والعامة، وتحوِّل اهتمامه عن مشاكله الحياتية الدائمة. باختصار تتدخل بالنصوص الدينية في أي سجال سياسي لتزيد من تعقيداته مهما كانت بساطته، لذلك لا تقتصر الاستفادة منها على رجال الدين وحدهم، بل يستفيد منها أيضًا أولئك الذين يُحْسِنون استغلالها وتوظيفها لتحقيق مأربهم الشخصية من رجال السياسة والتجارة والصناعة والثقافة والجماعات والأفراد على حد سواء. وتتمثل مظاهر ترسيخها العقائدي في حضورها الدائم في المساومات والتعاملات اليومية بين البشر، متأسلمين وغير متأسلمين، وتلهب صراعهم الطبقي بشكل لا يتوقف. وعادة يتخذ حضورها نمطًا من الخداع والاحتيال أو المماطلة أو المداهنة والنفاق أو التهديد والوعيد، ثم يصل الترسيخ العقائدي هذا إلى قمته عندما ينخرط المرء في الجماعات الإسلاموية الإرهابية ويتورط في عمليات إجرامية، كأحد الوسائل الإنتقامية المنفلتة والتي ترعاه السلطة السياسية والدينية على حد سواء. فالمتأسلم مهيَّأ نفسيًّا بحيث يمكنه أن يلجأ إلى الغدر والانتقام وارتكاب شتَّى الجرائم البشرية والا إنسانية وهو مرتاح الضمير مطمئن البال، لأنه مدعوم بنصوص يقال له إنها إلهية، تم تقديسها ورعايتها من قبل سدنة الدين وحراس الشريعة.
إن التعاليم الإسلاموية وتصرفات نبيها تشكِّل دعائم العلاقات المحيطة بالقسوة، وتتحكم في رغبات الفعل لدى مرتكبي الجرائم، وتثري العواطف لتدعم الحافز للفعل الإجرامي، فهي القوة المحفِّزة وراء كل فعل يتسم بالقسوة، بعيدًا عن كل مقومات الأخلاق.
في كتاب أبو علي أحمد بن محمد مسكويه الحكمة الخالدة، جاويدان خرد مكتبة النهضة المصرية القاهرة 1952 (ص 9)، ذهب الدكتور عبد الرحمن بدوي في تحقيقه وتقديمه للكتاب إلى أنه لا يوجد نسق أخلاقي متكامل في الفكر الإسلاموي، وأن العقلية الإسلاموية لم تساهم في الفلسفة الأخلاقية بنصيب أو أنها لو أسهمت فقد اختلطت أقوالهم بنظريات ميتافيزيقية ونفسية في العقل الفعال أو في معراج النفس طلبا للسعادة، وما ذلك من البحث الأخلاقي المتعارف عليه في شيء.
وحاول الدكتور بدي أن يبين قصور الفكر العربي عن النظر في الأخلاق واقتصاره على الأمثال والحكم القصيرة بقوله: « إن الشرق موطن الأمثال والحكم القصيرة والكلمات العامرة بمعاني ”الحكمة في الحياة“»، ويعلق على ذلك بقوله: « إن أدب الأمثال والحكم والمواعظ فيه من المنافع بقدر ما فيه من الضرر، فهو إن أفاد في الحض على الفضيلة وفي استلهام الموعظة … فإنه يضر من هو قيد يشد السلوك إلى صيغ مصنوعة وأفكار سابقة، ومعاني متعارفة، وهذا من شأنه أن تحجُّر السلوك في مجاري السنة التقليدي، مما يدعو إلى الانصراف عن التجديد …»
الخبثاء الذين وضعوا هذه الديانة كانوا يعرفون مسبقًا أنهم يضعون أيديولوجية لا أخلاقية، وسوف تنسف الطبيعة البشرية الخيِّرة من جذورها، لذلك راعوا بدقة أن يتم بث قيمها الثقافية التي تعمل على تشكيل عقلية جمعية إرهابية لدي المتأسلمين جميعًا منذ بداية نشأتهم، وإن لم يلتزم بها البعض منهم عندما يكبر، فإنهم على الأقل يكونوا على أتم الاستعداد للإلتزام بها في وقت وظرف ما في حياتهم، فأسلمة الطفل تجري على قدم وساق وهو مازال في بطن أمه، كيلا لا يدرك سوى لونين اثنين لحياته المقبلة (أبيض أو أسود، عربي أو عجمي، مسلم أو كافر ، ذكر أو أنثى .... إلخ). ويُجبَر منذ نعومة أظفاره على سماع صخب الغوغاء وضجيج السوقة والدهماء وصراخ المساجد ومكبرات الصوت في الحواري والشوارع والبيوت، مما يعمل على تطوير عقلية إرهابية لديه. وعندما يكبر في هذا الجو الرديء، يجد أن الأمر برمته عبارة عن ظاهرة كلامية لا تتماهى مع الأفعال، يظهر لديه شعور قوي بالاغتراب، يؤدي إلى حدوث انفصام عميق في شخصيته بين ما يجب عليه أن يفعله وما يمكن أن يفعله. هل يمكنه أن ينكح البهيمة والميتة وصغيرات السن من البنات أو يقبل رضاعة الكبير أو حتى شرب بول البعير ليتعافى من الأمراض؟. يدرك أنه وقع ضحية ثقافة لا تعني حياته في شيء.
وهكذا ينشأ ويترعرع الطفل المتأسلم في جو معبأ بالعنف الديني والأُسَري والسياسي والاجتماعي، جو لا ينسجم مع طبيعته كإنسان محب بالفطرة للخير والسلم والمحبة. ويبقى عداؤه للآخرين هو المخرج الوحيد لديه، يحمله في أعماق نفسه حتى وإن هرب إلى بلاد الغرب وعاش بين الكفار، وحظي بسماحتهم وحمايتهم، لأنهم يتآمرون عليه وعلى ديانته ويحيكون له الدسائس ليبعدوه عنها. فحياتهم ما هي إلَّا منظومة من الجرائم اللا إخلاقية بحكم تفكيره المبرمج. يبحث عندئذ عن المبررات التي تسوِّغ له ارتكاب العنف ضدهم، والتي يجدها بسهولة ويسر في كتبه المقدسة. إن إحساسه بأنه ضحية الاغتراب يولد عنده الرغبة في الانتقام، فيندفع في وقت ما إلى الانضمام إلى الجماعات الإرهابية، التي يجدها تتبنى قضيته.
إن وجوده في جماعة تتبنى قضيته يجعله يميل إلى اتخاذ القرارات ذات المخاطر العالية، التي لا يقدر على اتخاذها بمفرده، لاعتبار أنها مخاطر مشتركة، فهي ليست مخيفة بالقدر الذي سيشعر به إذا ما قام بها بمفرده. وكلما زاد تطرف الجماعة، زاد تطرفه أكثر، وتملكته الرغبة العارمة في القيام بعمل مشرِّف في سبيل الله أو من أجل الرموز الدينية أو السياسية أو بدافع الانتقام أو بسبب الدعم المادي الذي ستحصل عليه أسرته بعد تفجير نفسه وسط الأعداء المزعومين!
ويأتي البث الدائم لقيم الثقافة الإسلاموية الإرهابية وأهمها على الإطلاق ”الجهاد في سبيل الله“، لتبعث غواية الإرهاب في نفوس الكثيرين، وقد قام علماء النفس لسنوات طويلة بدراسة السمات الفردية لأولئك الإرهابيين، بحثاً عن أدلة يمكن أن تفسر استعدادهم للانخراط في العنف. ومع اتفاقهم حالياً على أنهم ليسوا “مرضى نفسيين” بالمعنى التقليدي، إلَّا أن هناك العديد من الرؤى الهامة التي ظهرت من خلال مقابلات مع 60 إرهابياً سابقاً، أجراها العالم النفسي الدكتور (جون هورجان John Horgan)”، مدير مركز جامعة بنسلفانيا الدولي لدراسة الإرهاب، وتضمنها كتابه (The Psychology of Terrorism)، وقال في وصف الإرهابيين: « إنهم يقومون بحرب نفسية خالصة لإخافتنا، ويبالغون بأعمالهم حتى نصل إلى مرحلة نعتقد فيها أنهم أقوياء لدرجة أننا لا نستطيع أن نفعل شيئاً تجاههم». ويستطرد قائلًا: « وإذا لاحظتم؛ فإن تنظيم داعش الإرهابي في كل فترة ينشر تسجيلًا يظهر فيه إعدام شخص أو مجموعة أشخاص بأبشع الطرق، من خلال تصويرهم بطريقة تظهر لنا مدى قوتهم وتنظيمهم، وهذا لأسباب سايكولوجية مدروسة، حيث إن الهجمات والتسجيلات المتعددة والمتتابعة تزيد من الرعب النفسي لدينا، فما نلبث أن ننسى تسجيلًا أو عملية إرهابية إلا ويقوم أولئك الحقراء بعملية أخرى جديدة، من أجل أن يضعوا العالم كله في حالة توتر شديد وضغط نفسي».
ومع أنه قال: « نحن نعود إلى طبيعتنا بسرعة، من الصعب للغاية بالنسبة للحركات الإرهابية حتى القوية منها مثل داعش أن تحافظ على مستوى ثابت من القلق والخوف لدى الجمهور»، إلا أن حالات القلق والخوف تظل قائمة بصورة ما، ومن الطبيعي أن تتحوَّل مع تكرار الإجرام الإسلاموي إلى إسلاموفوبيا.

وما ناحية أخرى، وكما توقع الكثيرون، بدأت مملكة آل سعود محاولة لتجديد الخطاب الديني وتنقية التراث من الهذيان والهلوسات، تحت عنوان ”العودة إلى الإسلام الوسطي أو المعتدل“، فشعبها من أكثر الشعوب المتأسلمة تخلفًا ومعاناة بسبب فاشية الدين وتماديه مع فاشية السياسة. ولكن أحدًا لا يدري من أين سيجيء هذا الإسلام الوسطي المعتدل، وما هي النصوص الدينية التي سيعتمد عليها، وهل سيعتمد أيضًا على القرآن وكتب السنة الموسومة بـ"الصحاح" ؟ أم على أجزاء منها، وهل لو أنه اعتمد على أجزاء منهما فقط فهل سيكون إسلامًا حقيقيًّا، أم علينا أن ننتظر لبعض من الوقت ليظهر من يلجأ إلى النصوص الإسلاموية الملغاة، ويبدأ في قتل المتأسلمين وغير المتأسلمين ويقوم مجددا بتدمير العالم من حوله مثلما حدث مع تجربة أتاتورك.
والأهم من هذا وذاك هو موقف الأزهر والآلاف المؤلفة من رجال الدين العاطلين عن أي عمل مفيد في مصر وسائر بلاد المتأسلمين! وما هي ردود فعل المؤسسات الدينية الأخرى التي لا حصر لها؟ هل هناك من قوة يمكنها أن تغير ما هو ثابت في الدين بالضرورة؟، ربما، فمن المعروف عنهم عدم الخجل، وتبرير الشيء ونقيضه في جميع الأحوال والعصور.
الإسلام يعاني في الوقت الحالي من ثلاث أزمات حادة، لا بد من العمل على معالجتها معًا وبشكل فعَّال: أزمة ذاتية مع نصوصه، وأزمة مع المؤمنين به وفهمهم لدور الدين في المجتمع الحديث، وأزمة مع العلمانية والتعددية والحرية والكرامة الانسانية. ومالم يتمكن أصحاب النفوذ في الدول المتأسلمة من تنقية القرآن وكتب السنة من الهذيان والهراء والتوجه اللاإنساني والإجرامي، وفرض نسخة إنسانية نقية تواكب العصر على مجتمعاتها، فسوف يطل علينا من حين لآخر مجموعات إجرامية تزداد جرائمها حدة وعنفًا وتدميرا في العالم أجمع مع تزايد العولمة وتقدم التكنولوجيا الحديثة، وسوف تزداد الإسلاموفوبيا حدة وعنفًا بالمقابل، ومن ثم يزداد عالم العربان عزلة وتخلفًا.