الرئيس الذي يبكي!


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 7687 - 2023 / 7 / 29 - 01:47
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

جميع البشر يضحكون ويبكون لا فرق بينهم في ذلك. البعض منهم يبالغ في الضحك أو البكاء بغير سبب أو لأتفه الأسباب والبعض الآخر يتريَّث قليلا حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فلا يضحك ولا يبكي إلا بسبب، ولكن من غير المتوقع إطلاقًا، أن نرى رئيس دولة يبكي على العلن أمام وسائل الإعلام المحلية والدولية، وعلى العكس مما هو شائع بين رؤساء بني يعرب، الذين لديهم قناعة لا تتزعزع بأنهم آلهة، والآلهة لا تضحك ولا تبكي أبدًا. كل منهم هو المسيطر المهيمن والجبار القهَّار وهو على كل شيء قدير. لذلك فوجئنا وتملكنا العجب عندما رأينا الجنرال السيسي، المفروض رئيسا على الشعب المصري بالخداع والتزوير والإرهاب، وهو يبكي مرارا في مناسبات عديدة، أعِدَّت خصيصا له، كي يقبض على الميكروفون ويدير ظهره للحضور، وينطلق وحده في قهقهات ضحك بلا سبب، والهذي بما شاء له من الهذيان. رأيناه بكاءه عوضا عن ضحكاته، فهل هو بكاء حقيقي أم أنه كما يقال مجرد ”دموع التماسيح“؟
وهل يمكن أن يكون بسبب إحساسه بالخوف من قدوم أوقات عصيبة، يجد نفسه فيها وحيدًا؟،
***
من المفترض أن رؤساء الدول مثلهم مثل بقية البشر يفرحون ويحزنون ويضحكون ويبكون، ويمرضون ويموتون. وكما يصابون بالتباهي والغرور يصابون أيضًا بالاكتئاب والإحباط، ولكنهم، أينما وجدوا، يحرصون عادة وفي كل الأحوال على إبراز المشاعر الإيجابية وحدها، وإخفاء السلبية منها، حتى لا تشير إلى ضعفهم وخذلانهم، فالمنصب الذي يتقلدونه يقتضي منهم عدم إظهار أي ضعف أو خذلان. وفوق ذلك قد يصابون بمرض البلادة واللامبالاة الذي ظهر بوضوح لدي البكباشي عبد الناصر. لقد كان من الأحرى به أن ينتحر دون تردد، كما يفعل القادة المحترمون في العالم، أو أن ”يلطم خدَّيْه بشقافة“، بحسب التعبير المصري عند وقوع مثل هذه الكوارث. لا أن يبكي فحسب، بل وأن يخر ساجدا تحت أقدام الشعب يطلب منه الصفح والمغفرة عقب أكبر هزيمة في تاريخ مصر تسبب فيها، ولكنه وبكل بلادة أعلن تنحيه عن السلطة في مسرحية عاطفية محكمة الأركان، أعادته مرة أخرى إلى ما كان عليه، وجعلته يفلت وعصابته من المحاسبة والعقاب!
***
كانت مصر في العهد الملكي قد انتهجت أسلوب الديموقراطية في العمل السياسي، كمحاولة جادة للإفلات من مرض البلادة واللامبالاة، المتفشي والشائع بين الحكام الجهلة والعجزة في المنطقة بأسرها، وهو مرض يقوم على قاعدة: ”إحمي ظهرك وافعل ما شئت، ولا تخشى من شيء“. عقب انقلاب العسكر، أعاد البكباشي بحكم جهله وعجزه العمل بتلك القاعدة على أسس جديدة من الكذب والخداع والبلطجة، ليسير عليها خلفاؤه من بعده، فكان أهم شيء لديهم، كي يتجنبوا المساءلة وتكتمل القاعدة لديهم، هو العمل الممنهج للقضاء على أية معارضة لحكمهم، وعلى تدمير الطبقة الوسطى، والتخلص من النخب السياسية والاجتماعية أو تقزيمها، وتدجينها، لتصبح متخاذلة ومنزوعة الإرادة.
وفي خضم السياسة المتبعة لسنوات طويلة من البلادة واللامبالاة، والكذب والخداع وأسلوب القهر والتدمير المادي والمعنوي، كان لابد للمصريين أن يُصابوا بالاستكانة والخنوع وشدَّة العاطفة. وفي المقابل لا يتلقون من البكباشي الذي أصبح ”الزعيم الخالد“ والصاغ الذي أصبح من بعده ”الرئيس المؤمن بطل الحرب والسلام“ سوى المغازلة ودغدغة المشاعر والكلام والشعارات السياسية والدينية الخادعة. بينما الحاكم الثالث (حسني مبارك)، فلم يكن يحظى بموهبة سياسية من أي نوع، ومن ثم تقوقع في قصوره، تاركا الشعب كالسمك في الماء يأكل بعضه بعضًا. أهم شيء لديه هو ألَّا يهدد أحد سلطته المطلقة أو يعترض على ولعه الشديد بجمع المال على حساب الشعب البائس المسكين!.
استمرت حياة المصريين تنتقل يومًا بعد يوم من سيء إلى أسوأ في عهود أولئك الطواغيت، وكلما تعرضوا لظلم أحدهم، يترحمون على من سبقه، لأن حاضرهم كان ومازال أسوأ من ماضيهم، حتى جاء اليوم الذي سادت فيه أمراض البلادة واللامبالاة، وترسخت أركان الكذب والخداع وأساليب القهر والتدمير المادي والمعنوي، وأصبحت جميعها هي النهج العام السائد والمتبع دون خجل أو وجل في جميع المرافق والمؤسسات الحكومية والأهلية، وتطلب التطور التاريخي الممنهج، أن يفاجئ الحاكم آذاننا بآداء لفظي وخطابي جديد ومختلف عمن سبقه من العسكر، حيث يرتجل خطاباته في أغلب الأحيان ويضمنها مجموعة غير مترابطة من أقاويل الترغيب والترهيب بلغة مأخوذة من الأفواه الشعبية الدارجة، بهدف مغازلة عواطفنا وعدم مخاطبة عقولنا، مع عدم الاشتباك المباشر مع القضايا المأساوية اليومية التي يعاني الشعب منها، والتي تركت مهمة معالجتها لجهازه الأمني (الوطني) بقيادة عصابة مقرَّبة جدا له وشديدة البطش وانعدام الرحمة.
الجنرال الحالي من أعجب وأخطر الشخصيات التي حكمت مصر على مدار تاريخها الطويل، فقد اختار لنفسه أن يكون الشخص الفريد والوحيد الذي يتربع على قمة أعلى سلطة في البلاد، ليحكم بشكل مطلق. ويتحكم أيضًا بشكل مطلق في أصول البلاد ومقدرات العباد، وهو على قناعة شخصية لا تلين بأنه مبعوث العناية الإلهية، وأن الله وحده قد أتى به إلى هذا المنصب وأنه هو وحده القادر على إزاحته منه ومحاسبته على أفعاله. وفي نفس الوقت تتلاطم في ذهنه تخيلات عديدة، تشكل قناعاته السياسية في التعامل مع ”شعب عاطفي وجبان“. وأنه كرئيس لا يمكنه أن يفلت من الأزمات التي يتسبب فيها سوى بالعاطفة الهزلية أو المأساوية، والإرهاب المفرط للمحافظة على الخوف لدي المواطنين.
وإذا كان ضحكه بلا سبب وبلا هدف، كما رأينا في مقال سابق، فهناك بلا شك أسباب وأهداف لبكائه الذي شاهده الجميع مرارا وتكرارا في مناسبات عامة، وأمام كاميرات التلفزيون، حتى أصبح أمرا معتادا. كانت بدايته مع البكاء عام 2014 في الاحتفال بالذكرى الثالثة لانتفاضة يناير الشعبية، قبل اغتصابه السلطة في البلاد، عندما سمع أغنية "ابن الشهيد" التي غناها أحد الأطفال المعاقين بصريا (عبد الرحمن عادل).
وفي مارس 2015؛ بكى مرة أخرى أثناء الجلسة الختامية للمؤتمر الاقتصادي الذي عقد بشرم الشيخ، عندما نعى الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، وذكر مساعداته لمصر.
وفي شهر فبراير من العام 2016 وخلال إلقاء كلمته في احتفالية الإعلان عن استراتيجية التنمية المستدامة "رؤية مصر 2030"، بكى حينما تطرق للصعوبات التي يواجهها الاقتصاد المصري، وقال جملته الشهيرة: « والله العظيم أنا لو ينفع أتباع لأتباع عشان خاطر مصر». 
وتوالى بكاؤه بعد ذلك في إحدى الاحتفال بعيد الشرطة، أثناء إلقاء والد أحد شهداء الشرطة كلمة كشف فيها عن استشهاد ثلاثة من أسرته في سيناء خلال محاربة "الإرهاب".
وبكى أثناء إلقاء خطاب أمام مجلس النواب وحديثه عن شهداء الجيش والشرطة.
وفي الاحتفال بذكرى انتصارات حرب أكتوبر، بكى تأثرا بكلمات أهالي الجيش والشرطة، وأعرب عن تقديره "لشهداء مصر ودمائهم التي قدموها فداء للوطن".
وأثناء افتتاح مشروعات للبتروكمياويات بالجيزة، قال له أحد المواطنين "بنْحِبَّك يا ريِّس"، فقطع حديثه باكيا من التأثر، وأكد بعدها أنه يحب الشعب المصري بكافة أطيافه، ويحرص على تحقيق أمنيات المصريين.
وتفاعل بالبكاء، عندما وصفة فنان مشهور بأنه "أحسن صاحب" للأطفال المعاقين، خلال حفل "قادرون باختلاف" في ديسمبر 2022.
مؤخرا نشرت إحدى الصحف المتسعودة صور له وهو يبكي عند قبر نبي الأسلمة ”محمد“ في مسجده بمدينة يثرب.
من الطبيعي أن يثير بكاؤه كما تثير ضحكاته موجة سخرية واسعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ومن الطبيعي أيضًا أن أغلب المصريين لم يعودا يصدقونه؛ بعدما تيقنوا من كذب وعوده لهم، وما سببه لهم من فقر وقهر.
لا شك في أن الجنرال عندما اغتصب السلطة كانت لديه أجندة سياسية تطال جميع مرافق الدولة، وأنه يصر على تنفيذها مهما كلفة ذلك من ثمن، ولديه أيضًا وسيلة لتنفيذها، هذه الوسيلة تنحصر في استعمال أسلوب الشحن العاطفي للشعب المصري، من ناحيته، واستعمال المراقبة والاختفاء القسري والسجن لسنوات طويلة دون محاكمة والتعذيب والقتل من ناحية عصابة إجرامية تتولى الأمن في البلاد!، وتبعث الخوف في نفوس المواطنين. بذلك يكون من السهل عليه أن يكسب المواطن الخائف إلى جانبه أو على الأقل لا يستطيع تركيز انتباهه إلى قراراته وتصرفاته القاسية، بل غير المجدية والفاسدة التي تلحق الضرر بالشعب وبالوطن على حد سواء.
ربما لم يعرف هذا الجنرال تغييرًا من نوع ما في حياته سوى تغيير ملابسه أو احذيته بالضرورة، فأشد ما يكرهه هو ”التغيير“، لأن التغيير عنده يعني تغييره هو، وهو قد جاء ليبقى لا ليتغير. العمل ثابت مواعيده ثابتة، طبيعته ثابتة، أسلوب آدائه ثابت، الأفراد جمعهم من حوله ثابتون، مهما كان فسادهم أو انحطاطهم، الأهم هو ولاؤهم له والخضوع التام لرغباته الشخصية وتوجهاته السياسية، بينما الأحداث تتغير رغم أنفه، وغالبًا لا تأتي بحسب ما يشتهي، مما يرغم حالته المزاجية على التغيير ومن ثم يتغير الشحن العاطفي لديه.
في بداية اغتصابه السلطة، قال جملته الشهيرة (إنتو ما تعرفوش انكم نور عنينا ولا إيه) وكلام عاطفي من هذا القبيل، لكن سرعان ما ما توالت الأحداث بعد أزمة تيران وصنافير، وعندها وجدناه يقول (اسمعوا كلامي أنا بس)". وراح يتخلل كلامه الكثير من الهذيان، يقول مثلا: « نعلمهم الحقيقة، العلم الحقيقي، إن الحكاية كانت كده واحنا كنا كده ورغم من كده عملنا كده ودي المعجزة»
عالم الاقتصاد والإدارة الأمريكي من أصل نمساوي بيتر دراكر (1909- 2005م) يقول:« إن القيادة الفعالة لا تعني إلقاء الخطب أو أن تكون محبوبًا؛ يتم تعريف القيادة من خلال النتائج وليس الصفات».
الجنرال الحالي باعتباره رجلا عسكريا، ولم يتعلم شيء آخر في حياته، يعامل الشعب وكأنه كتيبة من الجنود تعمل تحت إمرته، فيتعامل معها بالاحتقار المعمول به في الجيش المصري الذي يُعدّ من أسوأ جيوش العالم تعاملًا بين الرتب العليا والأدنى منها. يتحدث دائما بعكس ما يدور بذهنه، يظهر بوجه عاطفي كي يجذب عددا كبيرا من المؤيدين السذج والجهلة والفقراء والمرضى الخائفين ، وينتهز المناسبات المعدة له خصيصًا لإبراز جملًا عاطفية والتركيز عليها، ليبدو أمام الشعب بمظهر الرجل الصالح الذي يشعر ويتأثر بمشكلاته، إنه نوع من الخداع الذاتي، فالشعب برمته لا يمكن أن يكون بقدر من الغباء الجمعي، بحيث تنطلي عليه هذه المغازلات العاطفية. قال ذات مرة مخاطبا الشعب: « لو فقدت حبكم يبقى فقدت كل شيء»، وكأن الشعب زوجته ليقول لها هذا الكلام، فمن المفترض أنه رئيس دولة، وعندما يتحدث في مناسبة عامة، يجب أن ينتقي كلماته بحيث تخلو من مثل هذه العبارات الساذجة. وإذا أجبر الشعب على بلع هذه العبارات في وقت ما، والتي تظهر مشروعاته وكأنها عصا سحرية، فلن يستطيع بلع النتائج المخالفة لأمنياته وتوجهاته في الحرية والرفاهية والكرامة الإنسانية.
ومن ناحية أخرى يحمله توجهه الاستغلالي وميله الانتهازي على أن يبدي نوعا من الحميمية والتقرُّب من الناس الذين يتوقع أن يحصل منهم على الأشياء التي يحتاجها، ولكن علاقته مع الجميع بوجه عام علاقة سادية قائمة على التحكم والسيطرة. التوجه الاستغلالي هو الوجه الآخر للتواكل واللامبالاة، وهو يرتبط بعاطفة التسلط التي هي أيضا تعتبر الوجه الآخر لعاطفة الخضوع، وكثيرا ما يظهر التوجهان معا في نفس الشخص، وتحدد الظروف الخارجية مدى إمكانية سيادة أحدهما على الشخصية في المستقبل.
إنه كذَّاب محترف ومع أن الكذب عادة لا يخفي الحقيقة إنما يؤجل اكتشافها، إلا أن كذبه لم يخفي الحقيقة ولم يؤجل اكتشافها، ففي الوقت الذي نجده يبكي نراه يتحدى الشعب الفقير ويقول بوقاحة: الله أمال إيه، أنا عامل قصور رئاسية، وحعمل، هي ليه؟ دي لمصر!، ونرى زوجته وابنته ترفلان في حلل الثراء والرفاهية وتكيدان الشعب كيدا!
مع اغتصاب العسكر للسلطة، ومع الغرور الذي يملأ نفوسهم تقلصت المساحة الفاصلة بين الحاكم وبين الوطن، واختزل الوطن بكامله في شخص الحاكم، فأصبح الزعيم الخالد والرئيس المؤمن، بدونه سوف ينهار الوطن، وسمعنا الصاغ أنور السادات في 15 مايو 1973 يقول للشعب المصري جملته الشهيرة: ح افرم كل قوة تعمل ضد بلدي» وكان يقصد بعض الرجال الكبار في عهد البكباشي الذين قدموا استقالات جماعية من مناصبهم وكانوا يظنون بذلك أن الدولة ستنهار، فأمر الصاغ باعتقالهم، بتهمة الغباء السياسي وقال هذة الجملة التي تقلص المساحة الفاصلة بينه وبين الوطن .. بل أن (الهتيفة) المأجورين خرجوا في الشوارع يهتفون (افرم افرم يا سادات).
المساحة الفاصلة بين الجنرال الحالي والوطن قد تلاشت تمامًا، ومن ثم يرى نفسه هو الوطن بكامله، يقول والغضب الشديد يملا جوانبه: : « لو سمحتم ما تسمعوش كلام حد غيري، إحنا، أنا بتكلم بمنتهى الجدية، ما تسمعوش كلام حد غيري، أنا راجل لا بكدب ولا بلف ودور ولا لي مصلحة غير بلدي بلدي بس ومش بس لي مصلحة غيرها وفاهم أنا بقول إيه فاهم أنا بقول إيه … إحنا النهارده حنقطَّع مصر ولا إيه أنا؟ مش ح اسمح بكده خلي بالكو خلي بالكو أنا مش ح اسمح بكده محدش يفكر إن طولة بالي وخلقي الحسن معناه إن البلد دي تقع قسما بالله اللي ح يقرَّب لها لأشيله من فوق وش الأرض أنا بقول لكو كلكو لكل مصري بيسمعني إنتو فاكرين الحكاية إيه»، هذا الكلام لا يصدر سوى من رئيس عصابة إجرامية، يخشى على نفسه وعلى عصابته، ويحاول أن يحمي مكتسباتهما!، ويكمن في ذهنه باستمرار مصير أمثاله من المستبدين: شاوشيسكو في رومانيا وصدام حسين في العراق ومعمر القذافي في ليبيا، وغيرهم، خاصة وأنه وضع نفسه في ورطة تزداد كل يوم ولا يعرف كيف يخرج منها، فمنذ اغتصابه السلطة وهو منكفِئ على نفسه، منغلقً على فكره المشوش، فلا يسمح لغيره ولا يجد في نفسه سعة الصدر لاحتمال أن يكون الحق عند غيره، لذلك يضيق صدره لمخالفيه في الرأي ولا يلقاهم إلا بالتشنج والعنف، إن أرادوا الحوار معه، لا يحيط به سوى من تجمد فيهم الوعي وتعطل لديهم الفكر ليظلوا رصيدا له، ينفذون أوامره ويموتون في سبيله.
إن وهم المعرفة أخطر بكثير من الجهل، لذلك يقول الفيلسوف الصيني كونفوشيوس (552 - 479 ق م(: «المعرفة الحقيقية هي أن يدرك المرء مدى جهله». إن مشكلته متفاقمة، فإلى جانب الجهل والعجز يفرط في أحلام اليقظة وتتفاقم مشكلته أكثر مع تكاثف مسؤلياته ومعاناته في نفس الوقت من جنون العظمة Grandiose delusions المرتبط بجنون الارتياب (البارانويا)، فهو من ناحية يعتقد بأنه شخص خارق يستطيع فعل ما يعجز عنه الآخرون، لأنه يحتل مكانة عالية في الدولة، وفوق ذلك يمتلك مهارات سحرية ومواهب فائقة ولديه المقدرة على تحقيق المستحيل، لأنه ”طبيب الفلاسفة“، ومن ناحية أخرى يشعر بالقلق الشديد والخوف المرضي من الآخرين، وفقدان الثقة بالناس والشك بالمحيطين. يخاف من الجيش الذي أدمن الانقلابات ومن الشعب الذي أرهقه الفقر والقهر. إن شعوره الوهمي بالتفوق والعظمة وإصراره على نبذ الأشخاص الذين يرفضون هذا الشعور يؤدي به إلى الاضطرابات المزاجية مثل الغضب والعصبية. لذلك فبُكاؤه وانفلات لسانه، دليل على تعاسته، وقد يزداد علنًا أو خفية في المستقبل المظلم القادم، فحتى لو صفق له كل الناس بينما في أعماقك ليس راضيًا عن نفسه وعن أدائه، سيزيده هذا التصفيق من تعاسة.