على من ضحك الجنرال؟


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 7592 - 2023 / 4 / 25 - 23:33
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

قد يصاب المرء بمتلازمة الضحك (PBA) او Pseudobulbar، فيسقط في نوبات متكررة من الضحك (أو البكاء) الهستيري الغير منظم، والغير منضبط، خاصة إذا كان الموقف لا يستدعي منه كل هذا الضحك، الذي يمثِّل استجابة أعلى من المتوقع لحدوث الموقف. ولكن تلك المتلازمة قد تكون أيضًا ضربًا من الجنون أو قلة الأدب، عندما لا يكون هناك موقفٌ في الأساس يستدعي من المرء أن يضحك. فالضحك لا بد وأن يكون له سبب. والذين يضحكون بلا سبب هم إما مجانين أو قليلو الأدب كما يقول المثل: ”الضحك من غير سبب قِلة أدب“.
الضحك بوجه عام أحد أهم السمات المميزة للإنسان، وهو شكل من أشكال التعبير الصريح والمريح عن الفرح والمرح والسعادة (إلى جانب مشاعر أخرى في بعض الأحيان). وهو رد فعل طبيعي علي المواقف المضحكة من قبل أي إنسان سوي وسليم العقل والبدن. كما يُعد تعبيرًا عن تعاطفه ومحبته وتفاهمه المتبادل مع الآخرين، فالضحك إحدى وسائل التواصل البشري على مدى التاريخ. ولكنه ليس دائمًا إيجابيًا أو صحيًا. إذ يمكنه أيضًا أن يكون للتشفي من الأعداء أو وسيلة دفاع ضد مواقف الخوف أو نتيجة للإحساس بالإحباط والفشل وعدم الاستقرار العاطفي، فيما يُعرَف بالضحك العصبي (Nervous Laughter) الناجم عن الشعور بالتوتر والقلق وعدم الاتزان الوجداني، كرد فعل لا واعي للحد منه وجلب الهدوء النفسي والانسجام العاطفي، لذلك يُعتبر ضحكًُا مزيفًا ومصطنعًا.
الجنرال الذي يحكم مصر حاليا يتكلم كثيرا ويهذي كثيرا ويغلب عليه الغضب والحقد أحيانًا، ولا يكف عن القهقهات التي تعتبر من أهم أنواع الضحك العصبي، معتقدًا أنه بذلك يتقرب من المواطنين ويحببهم فيه، خاصة وأنه في أمس الحاجة إلى إظهار تودده إليهم وكرمه وعطفه إلى جانب سيطرته بالقوة عليهم.
قال الجنرال في بداية حكمه: « إن الشعب المصري شعب عظيم، وأنه يعلم حجم المشاكل التي تواجهه، ولن يستطيع أحد أن يضحك عليه، وأن نظام الإخوان والأنظمة السابقة كانت تعمل على تهميش الشعب، وعدم النظر إلى مشاكله»، وهو بذلك يحاول كعادة الحكام السابقين أن يبني مجده المزيف على أنقاض من بعضهم البعض. لم يكن يعلم أحد آنذاك أن لديه النية وسبق الإصرار على عكس ما يقوله تماما، وأنه سوف يتعامل مع هذا الشعب باحتقار لايمثل له، ويتسبب في المزيد من المشاكل التي تواجهه، ويتفوَّق على غيره في تهميشه وتقزيمه، والانفراد بالضحك عليه!
لا يمكن وصف هذا الجنرال أو نظام حكمه بالغباء كما ذهب الدكتور سعد الدين إبراهيم على أساس: « أن الغبي هو الذي لا يتعلّم من أخطائه، ولا يستفيد من تجاربه السابقة.. بل أدهى من ذلك أن يترتب على هذا الغباء إفشال سياساته المُعلنة، وتشويه صورة النظام في الخارج، وتقويض شرعيته في الداخل».
https://arabi21.com/story/881076/4-وقائع-لغباء-نظام-السيسي-وفق-سعد-الدين-إبراهيم
هذا الجنرال يتمتع بذكاء هدَّام وفطنة مدمِّرة ونوايا في غاية السوء، فهو يعتقد أنه اغتصب السلطة في البلاد لا ليَتعلَّم بل ليُعلِّم، ويتخيل أن العالم كله يراقب عمله، وأن مخابرات الدول الأخرى ومرافق السياسة العالمية تراقب أداءه لتتعلم منه وتستفيد من خبراته … ويتخيل أن الشعب يجب أن يكون مِلْكَ يمينه، وأن يكون في طاعته مهما فعل، ومهما جوّع واعتقل وعربد. يتباهى بوصف نفسه:« طبيب كل الفلاسفة»، ويرى أن عليه البقاء جاثمًا على صدر البلاد وأنفاس العباد طوال حياته، لا يهمه تشويه صورة نظامه أو تقويض شرعيته في أي مكان، فهو يعرف أنها معدومة من البداية، وأنه لا يهمه إلا نفسه وبقائه على قمة السلطة وتوريثها لأحد أبنائه من بعده.

لقد تمكَّن بمهارة - يحسد عليها - من صرف أنظار الشعب والعالم أجمع عمَّا يقوم به من تدمير وتفتيت للبلد وبيع ممتلكاتها وإذلال شعبها من خلال ضحكاته الصاخبة وفكاهاته الرديئة التي يتعمد إظهارها في كلماته التي لا تعد ولا تحصى، فلم يحدث أن ألقى كلمة دون أن يتخللها موقف كوميدي، فيقسم مرة بالله العظيم أن ثلاجته ليس بها ماء منذ عشر سنوات، ومرة أخرى يتحدث عن المرأة ودورها، وثالثة يطلب من المواطنين أن (يصبَّحوا على مصر بجنيه)، ورابعًا يقول إنه عندما كان صغيراً كان يدعو الله لإعطائه مئة مليار دولار ليوزعها على المصريين لكن ليس معه شيء ليعطيهم دولارات. وخامسًا وأخيراً وليس آخراً، يقول: « إن الله لا يصلح عمل المفسدين واحنا إن شاء الله المفسدين». بهذه المواقف الكوميدية والهذيانية المتكررة تمكن من جعل النخب قبل العامة والبسطاء من الشعب يفسحون له المجال لتدمير مصر وعدم تسليط الضوء بشكلٍ كافٍ على ما يقوم به من أعمال تدميرية. يتلهَّى الجميع بتصريحاته وهلوساته المثيرة للضحك، وتحويل أنظار المواطنين من خلال وصفه بالغبي والساذج والمعتوه وغيرها من هذه الأوصاف، مع أنه لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال وصفه بها أو بغيرها، فمن يستطيع أن يسخِّر عمل مؤسسات الدولة لصالحه، ويُزيح من أمامه جميع الخصوم السياسيين، بمن فيهم الذين ساندوه ووقفوا معه في شرعنة انقلابه، لتخلوا الساحة له، ويزج بهم في السجون بكل أريحية، لا يمكن وصفه بهذه الصفات. إنه متغابي، والمتغابي عادة لا يكون إلا داهية وفطناً، لديه من المقدرة والعبقرية على تجميل الواقع المزري ما يفوق خيال أكبر المفكرين!
السؤال هو: عـلى (ماذا) يضحك وعلى (مـن)؟
العالم أجمع يعرف أن مصر تمر الآن بأسوأ أوضاعها السياسية على الإطلاق، فالجنرال يمارس سياسة حافة الهاوية التي تدعو للبكاء أكثر مما تدعو للضحك، إذ تتبنى استعمال القسوة المفرطة والعنف الوحشي للشعب بصورة لم يعهدها من قبل، وتنتهك أقصى الانتهاكات لحقوق المواطنين من خلال الانحراف الشديد في الإجراءات القانونية، واستخدم قواته الأمنية القوة الشديدة في قمع الحريات المدنية، فقد تم في ظل حكمه تحويل القوانين والنظام القضائي، اللذين يهدفان إلى دعم سيادة القانون وحماية حقوق الناس، إلى أدوات للقمع وتجريم أي شخص ينتقده أو ينتقد سلطاته. تتصرف قوات أمنه تحت مظلة الحصانة من العقاب، فترتكب بشكل روتيني ممنهج الاعتقالات التعسُّفية والإخفاء القسري والتعذيب ضد النشطاء السياسيين أو المشتبه بهم وكذلك المواطنين العاديين. وفي مشهد سوداوي، يدعى في أكثر من مناسبة أنه مستعد للتخلي عن السلطة، وأنه راغب في وجود منافسين حقيقيين في الانتخابات الرئاسية ثم يقوم باعتقال من تسول له نفسه الترشح أمامه!
تقارير جمعيات ومنظمات حقوق الإنسان حول العالم توثِّق كل يوم العشرات من عمليات القتل خارج القضاء لـ "إرهابيين" مزعومين على أيدي قوات "الأمن الوطني" فيما يُزعَم أنه "تبادل لإطلاق النار"، رغم أن الأدلة تثبت أن القتلى لم يشكلوا أي خطر على قوات الأمن أو أي شخص آخر، وفي كثير من الحالات كانوا محتجزين.
كما وسّعت السلطات القمع ليشمل المدافعين عن الحقوق والنشطاء السياسيين وأصحاب الرأي خارج البلاد بالقبض على أفراد أُسرهم في مصر و”إخفائهم“ وتعذيبهم.
في بداية حكمه قال عنه مستشار الطب النفسي الأردني الدكتور محمود أبو دنون إنه شخصية سايكوباثية كاملة الأوصاف، مؤكدا أنه لا يستدل على ذلك بلغة الجسد وإنما بلغة الفعل "فهذه الشخصية لا ضمير لديها ولا أخلاق ولا مبادئ، وأفعالها تحقق شهوات وأحلام صاحبها بغض النظر عن تأثيرها السلبي على الآخرين».
ويشرح - في حديث للجزيرة نت - أن صاحب هذه الشخصية يكذب ويخون ويخدع ويسرق ويمثل ويتحايل حتى يصل إلى مراده. وأضاف: « عند تطبيق ذلك عليه نجده قد استخدم الكذب مرات عديدة من خلال وعود زائفة، كما نراه وقد سرق وطنا وسرق حكما شرعيا وسرق استحقاقات دستورية وخان رئيسه الذي حلف أمامه يمين ».
ويلفت أبو دنون إلى أن الجنرال « قام بتمثيل دور المتدين الورع والإنسان الحنون صاحب الدمعة، وفي نفس الوقت قام بقتل الآلاف وأحرق الجثث واعتقل خيرة أبناء الشعب المصري، واتهمهم بأبشع التهم» مؤكدا أنه « رجل بلا أخلاق، وهو مستعد أن يحرق مصر في سبيل تحقيق هدفه».
بينما ذهب اخصائي الطب النفسي ورئيس جمعية الأطباء النفسيين الأردنيين، الدكتور محمد الحباشنة إلى أنه يعبر بوضوح عن حالة دفاعية من تخليق الفعل المبالغ (reaction formation) وذلك عبر غطاء وجداني مبالغ فيه مما يوحي بعدم أصالة المشاعر، وهذا يؤكده أنه في لحظة كان محاوره يخالفه كان يعطي ردة فعل عنيفة وهو ما يطلق عليه اسم (acting out) مثلما قال للمذيع إبراهيم عيسى « لا أسمح لك باستخدام كلمة عسكر». ويؤكد على أن الجنرال لديه صفات نرجسية مرشحة مع الضخ الإعلامي والتأييد من قبل مؤيديه والمحيطين به إلى الانتقال إلى ما يسمى باضطراب الشخصية النرجسية، وهي مقدمات للتحول إلى ديكتاتور.
ويقدم أستاذ علم النفس المصري محمد المهدي عبر صفحته على فيسبوك، شرحًا للشخصية السيكوباتية المعادية للمجتمع، قائلًا: « إن هذه الشخصية صعبة جدا ومثيرة للمشاكل، فوفق التقسيم الخامس للأمراض النفسية اللي صدر سنة 2013 جاء هذا النمط تحت اسم الشخصية المضادة للمجتمع، هذا الشخص يتميز بأنه شخص كذاب، مخادع، وماكر، ومتلون، وانتهازي ينتهك حقوق الآخرين، ولا يراعي مصالحهم، ويتوجه نحو تحقيق أهدافه الشخصية فقط دون مراعاة لمصالح أي شخص آخر. يبحث عن طرق تحقيق مصالحه، ولا ينتمي للمجتمع الأوسع بقوانينه وأعرافه وقواعده وأخلاقياته، وإنما ينتمي لمجموعة قليلة من الأشخاص أو فئة من الفئات، ويحقق مصالح من ينتمي إليهم دون النظر إلى مصالح الناس عموما أو إلى القواعد العامة والأخلاقيات».
ويضيف المهدي: « إن صاحب الشخصية السيكوباثية لا يشعر بالذنب، ولا يتألم إذا قام بالاعتداء على أحد أو أضر بأحد، وبالتالي لا يتعاطف مع الضحايا. أعصابه باردة جدا، وقد يبدو هادئا في كثير من الأحيان، وعلى الرغم من الشراسة والقسوة الداخلية إلا أنه يُبدي حالة من التعاطف والدفء العاطفي، وقد يظهر عواطف أحيانا فتبدو فياضة، وتراه شهما أو منقذا أو جدع وقد تنبهر به، وبعضهم يبدو ساحرا على الرغم من أن له تاريخا طويلا من الجرائم والمشاكل».
لذلك يُظهِر الجنرال بين حين وآخر تودُّدَه للطبقات الضعيفة والمهمشة في المجتمع، وتفضُّله عليها من خلال مسرحيات هزلية، وكأن هذه الطبقات قد وجدت من أجل التودُّد والتفضُّل عليها فقط، ولذا يجب الإبقاء عليها وزيادتها، في خضم سياسة تزيد الأثرياء ثراءً!، فهو يعتقد جازمًا أن دعم الأغنياء وجعلهم أغنى سينفع البلد أكثر من التعليم والصحة ودعم الفقراء!

مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها على الإنترنت تزخر بالعديد من فيدوهات المواقف المضحكة والمحرجة له، رغم تعرُّض من يقدمها للحبس والغرامة، وهي مواقف لا تبدو جذابة على الإطلاق، فضحكاته كالبكاء. الضحك ليس دائمًا إيجابيًا أو صحيًا، فمع أنه في النهاية، مجرد نشاط مجتمعي يعزز الترابط ويهدِّئ الصراع المحتمل ويخفف من التوتر والقلق، إلَّا أنه سرعان يفقد زخمه عندما ينغمس المرء بمفرده في الضحك؛ فالضحك الانفرادي يمكن أن يكون له دلالات على الشؤم والخراب!.
من الثابت أن الجنرال الذي وضع نفسه في موضع غير مهيأ له نفسيًا ومعرفيًا، شخصية سيكوباثية مضطربة، تتسم بالسلوك المناهض للمجتمع (anti-social)، والغطرسة والخيانة والتلاعب بالآخرين، مع افتقاده للشعور بالتعاطف مع ضحاياه، وعدم الإحساس بالذنب أو الندم على أفعاله الخاطئة، وهو أمر يقوده إلى السلوك الإجرامي في حق الوطن والمواطنين.
ضحكاته وقهقاته بصوت مرتفع باتت أمرا دائما، يطلقه خلال مؤتمراته المتواصلة مع فئات معينة من الشعب، وخلال افتتاحه بعض المشروعات، وأثناء زياراته المتكررة للكنيسة المصرية، وحين لقاءاته ببعض القادة. وهي تعضد مفهوم البرانويا (المهارة في الكذب والخداع)، وتظهِر معاناته من الرهاب الاجتماعي الـمعروف بإسم Gelotophobia وهو الخوف الشديد من سخرية واستهزاء الآخرين منه، وفي نفس الوقت يحقق لنفسه الاستمتاع والسعادة بالضحك على الآخرين، نتيجة لعزلته الاجتماعية وعدم تواصله مع الآخرين بشكل سوي! كما أن هناك عوامل أخرى كثيرة تؤدي إلى تطوير مرض ”الجلوتوفوبيا“ لا يغفلها المتابع أهمها تضخم الأنا بشكل لا يسمح له بقبول السخرية منه بأي حال من الأحوال، حتى وإن كانت على سبيل الدعابة حسنة النية، وأنه يلجأ إلى النقد الدائم لذاته بشكل يجعل من أية سخرية محتملة منه إهانة موجعة له، لأنه ربما يكون قد وجهها لنفسه من قبل فيعرف أنها ليست مجرد دعابة بمقدر ما هي أمر حقيقي يثير السخرية ممن يشاهدونه ويسمعونه، أما العامل الأخير فهو أنه (ربما) لا يجيد التعامل مع الدعابات ولا يتفهمها.
وقد أشارت الدراسات العلمية الحديثة إلى أن ظهور ”الجلوتوفوبيا“ يكون نتيجة لوجود خلل بنشاط المخ يجعل المصاب بها أقل قدرة على التمييز بين الفكاهة العادية والسخرية أو الاستهزاء، مع ما يعانيه من ضعف ثقته في نفسه، وتدني الإحساس بقيمته الذاتية وافتقاده لمهارات التواصل الاجتماعي المختلفة.