مراجعات وأفكار

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 6680 - 2020 / 9 / 18 - 02:27
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

‏ ‏"إني أؤمن بالحياة والناس وأجد نفسي ملزما باتباع مثلهم العليا ما دمت أعتقد انها الحق إذ النكوص عن هذا جبن وهروب، كما أجد نفسي ملزما بالثورة على مثلهم ما اعتقدت أنها باطل إذ النكوص عن هذا خيانة. وهذا هو معنى الثورة الأبدية"
‏كان هذا ما كتبه الروائي الكبير نجيب محفوظ في السكرية وهي واحدة من مجموعته القصصية الشهيرة باسم الثلاثية. التقيته وأنا في الرابعة عشر من عمري حينما أخذني جارنا العجوز معه لتقديم واجب العزاء في شقيق نجيب محفوظ الاكبر في مسجد عمر مكرم الشهير بميدان التحرير في القاهرة.
‏لم أكن أعرف أي شيء عن الرجل وقتها ولكنه غير الكثير من أفكاري من يومها من خلال أعمالها التي تتسم بالنزعة اليسارية والفلسفية العميقة. ولإني كنت أصغر المعزين سنا فقد رحب بي صاحب جائزة نوبل بشكل ودود للغاية وهو ما أسعدني كثيرا حتى إنني أنهلت على جارنا بالأسئلة عن هذا الرجل طوال رحلة عودتنا بالترام إلى بيتنا. وبدأت أستعير من جارنا بعضا من أعماله وكان أول ما قرأت له رواية السراب وقد أذهلتني لقدرة الرجل على تصوير الشخصيات وجذب وجدان وعقل القارئ إلى عوالم أخرى خارج الزمان والمكان.
الحديث عن أعمال نجيب محفوظ يحتاج إلى كتاب ضخم ولكنني دائما أذكر نفسي بمقولات كثيرة له وردت على لسان أبطال رواياته. ‏وأكثر ما تأثرت به روايته أولاد حارتنا التي منعت في مصر وفيها يصور العالم منذ بدء الخليقة مرورا بكل أنبياء الديانات الإبراهيمية التي تسعى الان إدارة ترامب إلى استخدامها بشكل لم يخطر لنا على بال لتصفية القضية الفلسطينية. وانتهت رواية أولاد حارتنا بانتصار العلم على الأديان والايديولوجيات من خلال شخصية عرفة وهو رمز العلم في الرواية الشيقة والعبقرية. ‏
لقد تعلمت من الاقتباس الذي أوردته في أول المقال أن أتحلى بالشجاعة ما استطعت في تقبل أو رفض أي فكر أو رأي وأن انقاد فقط بالعقلانية وقناعاتي الشخصية حتى ولو غضب مني الآخر ولهذا رفضت أن أسلم عقلي منذ صغري لأي منهجية أيديولوجية أو دينية دون تفكير أو تمحيص. ‏وتعلمت أيضا من مفهوم الثورة الأبدية أن أثور على أفكاري عندما يثبت لي بطلانها وانتهاء صلاحيتها ‏وهو ما سبب لي الكثير من المتاعب في حياتي العملية والعائلية خاصة في مرحلة الشباب. وتعلمت أيضا أن الظلم والشر والأفكار الخاطئة تنتصر عندما ‏يلتزم اصحاب الحق والمعرفة بالصمت ويحنون اعناقهم مؤثرين السلامة الشخصية وهذه هي مأساتنا الكبرى في العالم العربي ولذلك أخصص جزءا من كتاباتي كلما سمح الوقت للجانب الإنساني للقضايا العربية واكتب فيما أراه صوابا وفق المعلومات المتوفرة رغم معرفتي ‏بأن رأيي لن يغير شيئا ولكن ربما يعين البعض على فهم ما يحدث عسى أن تتحرك ضمائرهم أو تتغير قناعاتهم أملا قي أن يتضاعف مفعول هذا التغيير وينعكس على آخرين وفقا لمفهوم المضاعف الرياضي الذي أتى به مؤسس علم الاقتصاد الكلي الحديث جون مينارد كينز.

‏كما إنني أحاول أن أدعم الآخرين في تصحيح بعض ما ينشر من معلومات خاطئة بالرغم من اتباع بعض الكتاب والقراءة أساليب الإرهاب الفكري والشتائم لإسكات الاخر وفرض آرائهم. وهؤلاء أسميهم بأصحاب مدرسة إما أن اقنعك او اشتمك وهذه الظاهرة بدأت ‏تنتشر في معظم منصات الحوار في العالم العربي. وقد عاهدت نفسي ألا أجاري هؤلاء في الهبوط إلى درك السب والإهانات الشخصية ويكفيني اظهار هشاشة أفكارهم دون أي شتائم. وبشكل عام فإن الرد المتحضر ‏على الشتائم والاتها مات ينجح غالبا في تحويل العداء إلى ود واحترام متبادل، وهنا أتذكر صديقي العزيز الاستاذ فؤاد النمري حيث ‏أصبح الحوار بيننا يتسم بالمودة والاحترام بالرغم من اختلفنا الشديد في الرأي. ولحسن الحظ فإن لدينا في هذا الموقع عدد لا بأس به من الكتاب والمعلقين الذين يتحلون بالبلاغة في الرد على الشتائم‏ بشكل لاذع وساخر بدون الحاجة لاي ألفاظ جارحة واذكر منهم الأصدقاء الأعزاء محمد البدري وعامر سليم وعبد الحسين سلمان وسامي لبيب وعلي سالم وهاني شاكر وغيرهم.
‏ولكن ينبغي أن أقر بأنه طبيعتنا البشرية لا تميل إلى الاشتباك مع الاخر المعتدي كنوع من احترام الذات والرغبة في عدم الخوض في المستنقعات، وفي هذا فقد شارك الاستاذ منير كريم والذي لا يمكن أن يشكك أحد في ثقافته الواسعة ونقده البناء، شارك منذ حوالي شهرين في التعليق على مقال للأستاذ عبد الحسين سلمان ولكن قارئ آخر ماركسي التوجه ‏لم يعجبه التعليق وليس في هذا مشكلة على الإطلاق ولكن المشكلة كانت في أسلوبه العنف والإهانات غير المبررة والاتهامات الباطلة والتي وصلت الى حد مطالبة هذا المعلق الشرس للأستاذ منير بالتوقف عن ‏ ‏المشاركة في موقع الحوار المتمدن بحجة انه موقع شيوعي وهذا الادعاء غير ‏ ‬صحيح لان الموقع يساري واليسار يتضمن اطيافا سياسية كثيرة أخرها الشيوعية، ‏والمهم أن الاستاذ منير فعل الصواب عندما توقف عن الحوار مع هذا المعلق العنيف والذي لا يدرك أنه بسلوكه هذا يثبت مقولة إن الشيوعية لا تحتمل الاختلاف في الرأي و حرية التعبير وكان هذا احد أسباب انهياريها وفرار الشعوب منها وعلى رأسها ‏كل شعوب جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق والصين وفيتنام وكوبا وهرولتها إلى أحضان الرأسمالية. ‏ولا يمكن لعاقل هنا أن يؤمن بالنظرية وينكر الواقع لان الواقع هو الذي يؤسس للتنظير ويثبته.
وأود هنا أن أربط مقولة محفوظ ببعض أفكار الزملاء الماركسيين حيث سبق أن بينا في حوار طويل على الموقع شارك فيه عدد كبير من الكتاب والقراء والمفكرين أن الكثير من الجوانب الاقتصادية في أفكار ماركس لم تنجح في التطبيق لأنها تتعارض مع طبيعة النفس البشرية ‏التي تميل إلى الرأسمالية كما بينا ‏أن العيب في هذا لا يرجع إلى ماركس بقدر ما يرجع إلى أتباعه والمؤمنين بأفكاره لأنهم لم يفعلوا أي شيء لتطوير هذه الأفكار أو حتى اختبارها رياضيا وإحصائيا كما نفعل في الاقتصاد التطبيقي وكما حدث ‏في كل نظريات وأفكار كينر التي وردت في مرجعه الكبير النظرية العامة في النقود و أسعار الفائدة والتوظيف حيث قام هو نفسه باختبار كل افتراضاته رياضيا لأنه كان أستاذا في الرياضيات كما تم اختبارها بعد ذلك على أرض الواقع ولا زالت أفكاره تطبق حتى اليوم في جميع انحاء العالم عندما يعاني الاقتصاد الوطني من نوبات ركود عنيفة ‏تتطلب تدخل الحكومات في إدارة الاقتصاد ووقف العمل بآليات السوق.
نقول ‏ربما كانت أفكار ماركس مناسبة لعصره ولكن لا يعقل أن نتصور أن تكون صالحة كما هي بعد قرنين من الزمن بدون أي تغيير أو تطوير يواكب مستجدات العصر. وبالرغم من كل هذا يظل ماركس علامة بارزة في تاريخ الفكر الإنساني ولا يمكن لأحد أن ينكر فضله في تحسين أحوال العمال من خلال أفكاره الفلسفية والانسانية ‏ونقده المرير للرأسمالية.
‏وخلاصة هذه النقطة إن العقل الأيديولوجية كما هو العقل الديني لا يتسم باي مرونة فكرية وغير قابل للتطور أو أي نوع من المراجعة أوالثورة على أفكاره القديمة وسيظل مؤمنا بأن أفكار ماركس صالحة لكل مكان وزمان وأنه كان معصوما من الخطأ مثل الأنبياء.
حديث نجيب محفوظ ‏عن الثورة الدائمة أي التغيير الدائم هو ما يحتاجه كل من العقل الأيديولوجي والديني الان خاصة والعالم كله بلا استثناء يتجه إلى الاقتصاد الرقمي والخدمي ولن يكون بمقدور العقل الأيديولوجي أن يواكب هذا التطور السريع وهو في حالة الجمود هذه مكتفيا باجترار أفكار ماركس القديمة ، وسوف نكتب عن هذا التطور الجديد في الاقتصاد العالمي قريبا جدا.
‏ومن الأشياء الخطيرة أن الفكر الماركسي المعاصر لازال يؤمن بأن القيمة والنمو الاقتصادي لا يتحققان إلا من خلال الإنتاج المتزايد والمتواصل للبضائع وأن القطاعات الخدمية مثل التعليم والرعاية الصحية والسياحة والنقل ومراكز الأبحاث والفكر لا قيمة لها! بالرغم ما يمثله هذا التوجه من تهديد لكوكب الأرض وكل أنواع الحياة عليها لأن النمو بلا حدود ‏وأنهاك الموارد الطبيعية المحدودة للأرض في الإنتاج الضخم والاستهلاك المبالغ فيه يجعل الماركسية لا تختلف في شيء عن الرأسمالية التي تهدف إلى الربح من خلال الإنتاج والاستهلاك الضخم وهو ما يؤدي الى تفاقم مشاكل التلوث والتغير المناخي وكل الكوارث الطبيعية الحاصلة الآن والتي ستنتهي بتدمير كوكب الارض عما قريب. ‏وأنه لشيء محزن انه في الوقت الذي نضغط فيه على الرأسمالية للحد من الإنتاج المبالغ فيه والاستهلاك المجنون نجد أن الأخوة الماركسيين يقولون بعكس هذا ويطالبون بزيادة الإنتاج وبالضرورة الاستهلاك لإنه لا انتاج بدون استهلاك. ‏وليت الأمر يتوقف عند هذا الجانب المادي في الماركسية لأن المرء يذهل عندما يجد الماركسيين يقولون بأن مبادئ حقوق الإنسان والمساواة ليس لها قيمة في المجتمع الشيوعي حيث تنعدم مصفوفة الحقوق بالكامل بما فيها حق الحياة! فقط لمجرد ان ماركس قال هذا بمعنى أن المجتمعات البشرية سوف تتحول تحت راية الشيوعية إلى كائنات لا تفكر بأي شيء سوى إنتاج البضائع. أما الثقافة والفكر والفن والإبداع وحقوق الانسان فلا قيمة لها! ‏بالله عليكم أي مجتمع بدائي هذا؟ ‏
رحمة الله علي أستاذنا الكبير نجيب محفوظ صاحب نظرية الثورة الفكرية الدائمة والمنادي برفض الجمود والتكلس الفكري.
‬‬‬‬
الفكرة
‏كيف نعرف انه ما نعلمه صواب؟
هناك أشياء نكون متأكدين تماما من صحتها دون أن نحتاج إلى التحقق من هذا مثل الحقائق البسيطة التي لا تحتمل الجدل مثل أن المياه لا لون لها أو أن النار تحرق وهكذا. وكذلك الحقائق الرياضية مثل عمليات الطرح والجمع والمعادلات والنظريات التي يتم إثباتها رياضيا أو عمليا أو من خلال تطبيقها في الواقع المعاش. ‏ولكن على النقيض من هذا فهناك أشياء نؤمن بها دون أن نتمكن من إثبات صحتها أو وجودها أصلا مثل مفهوم وجود إله خالق لهذا الكون، فهذه المسألة لم نتمكن من إثباتها بأي شكل يقيني عبر التاريخ الإنساني. ‏والفكرة هنا انه طالما أننا لا نستطيع إثبات وجود هذا الإله فإنه لا يصح في ذات الوقت أن ننسى أننا لا نستطيع أن نثبت عدم وجوده، بمعنى انه قد يكون موجودا ولكننا عاجزين عن إجاده لمحدودية عقولنا وحواسنا. أقول هذا لأن من يهاجمون المؤمنين بالآلهة ويتهمونهم بالتخلف لأنهم يؤمنون بشيء لا يمكن التحقق من وجوده ينسون في ذات الوقت أن الملحدين ‏لا يستطيعون أيضا إثبات عدم وجوده ومن ثم يكون من الأفضل ألا نجعل من مثل هذه القضايا سببا للنزاع والعداوة وأن نحترم حق المؤمنين في الإيمان بما يرونه واحترام حق الملحدين في إنكار مالا يرونه. ‏
كم من دماء ودمار ومآسي يمكن وقفها لو أننا تقبلنا هذه الفكرة البسيطة. أليس من العبث أن نتقاتل على الحق الإلهي في هذه الأرض الصغيرة وننسى حقوق الناس المظلومة والمحرومة؟
‬‬
مستشار اقتصادي