مفارقات محزنة فيما يحدث في فلسطين ولبنان

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 6652 - 2020 / 8 / 20 - 23:36
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

في أحد مقالاتي القديمة التي لم تعجب البعض نصحت كل من يسمع أحدهم يتغنى بالامة والوحدة العربية أن يبصق في وجه هذا المنافق. ولكن ما حدث بعد ذلك من وقائع وتطورات وآخرها ما هو جاري في فلسطين ولبنان التي سوف أتناولها حالا تثبت أنني لم أكن بعيدا عن الصواب. ‏قبل رأيي الصادم هذا كنت أعتقد دائما انه طالما أن باستطاعتنا حشد مئات الألوف لمشاهدة مباراة لكرة القدم او أغنية تافهة لمطربة حلوة فإنه يفترض أن يكون بمقدورنا أن نحشد هذه الجماهير بشكل سلمي أيضا للاحتجاج على العربدة الإسرائيلية في منطقتنا العربية أو للمطالبة بحقوقنا أو لمساندة بعضنا البعض في وقت الشدائد ‏على اقل تقدير كما كنا نفعل في مظاهرتنا وأنا طالب بجامعة القاهرة. ولكنني اكتشفت بعد ذلك أنني كنت مخطئا في تقديري لإننا أصبحنا كائنات هامشية في هذا العالم العربي المنكوب دائما. ولا أدرى ما الذي ‏حدث ‏للعقل الجمعي لجماهيرنا العربية العريضة بحيث أصبحت لا تبالي بالشأن العام أو بما يحدث حولها من ظلم وفساد وانتهاك لحقوق الإنسان. هل هو الاستبداد أم لخوف وغياب النخبة وانشغالها بقضايا وأحلام قديمة فقدت صلاحيتها ولم تعد لها صلة بالواقع المعاش للناس أم أنها الثقافة الدينية أم أن الناس أصبحت مشغولة بالإنترنت والعوالم الافتراضية التي غيبت عقولنا وضيعت شبابنا وحولتنا الى جثث هامدة ‏لم تعد تتحرك من مكانها ألا بعد أن تستفحل المشاكل وتتحول إلى كوارث يصعب حلها. وإليكم أمثلة:
في فلسطين
‏بالرغم من أن نتنياهو على مدار رئاسته لعدد من الحكومات الإسرائيلية المتتابعة لم يكن جادا أبدا فيما يتعلق بمنح الفلسطينيين حقهم في إقامة دولة خاصه بهم، هذا بالإضافة إلى سجله الحافل بضم الأراضي الفلسطينية وإعلانه القدس عاصمة موحدة لإسرائيل ‏وحصاره اللا إنساني لقطاع غزة، إلا أن الرجل نجح بشكل باهر في إقامة علاقات دولية كاملة مع معظم الدول الإفريقية والآسيوية وحتى في أمريكا اللاتينية وأخيرا مع عدد لا بأس به من الدول العربية كما سوف نوضح حالا. والسؤال المحزن كيف تجاهل الجميع هذا السجل العنصري والإجرامي والدموي لهذا الرجل وقبلوا بالتعامل والتعاون معه وتجاهل ‏الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني؟ إن ما قامت به مؤخرا دولة الإمارات او إمارة أبو ظبي تحديدا حتى لا نظلم باقي الإمارات ‏يثبت بجلاء أن النظام الدولي لم يعد يعير القانون الدولي أو مبادئ حقوق الإنسان أدنى اهتمام وأن الدول اصبحت تسعى وراء مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية قبل أي شيء آخر.
ولكننا نسأل أيضا هل فوجئت حكومة أبو مازن بالتحركات الإسرائيلية في جميع أنحاء العالم بما فيها الدول العربية ولم تكن مستعدة لها؟ ألا يثبت هذا أننا أمام حكومة فاشلة؟ والآن يلومون الإمارات على اتفاقها الاخير مع الكيان الإسرائيلي بإقامة علاقات ديبلوماسية كاملة. ‏هل كانت حكومة أبو مازن تفضل أن تظل هذه العلاقات سرية؟ أليس من الأفضل أن نرى الوجوه الحقيقية للأشياء بدلا من إخفائها؟ وكالعادة ترد الآن حكومة أبو مازن بتصريحات عنترية منها أن كل أموال وبترول الامارات لا يساوي قطرة دم فلسطينية، وتطالب رئيس الجامعة العربية بإصدار بيان شجب وإدانة أو أن يستقيل من منصبه وكان الرجل يملك سلطة إصدار مثل هذه البيانات ‏أو أن أي بيان يصدره تكون له قيمة. أليس من العبث أن تكتفي حكومة أبو مازن بالفرجة على التحركات والمبادرات الدبلوماسية الإسرائيلية خلال كل هذه السنوات دون أن تبادر باي شي او أن تسعى لإجهاضها من خلال التواصل مع هذه الدول؟ والمعنى أن الوضع الفلسطيني ‏كان سيئا حتى قبل توقيع هذا الاتفاق الإماراتي الاسرائيلي بسبب غياب الدبلوماسية الفلسطينية. ‏تمنياتنا الطيبة للشيخ محمد بن زايد بالنجاح في وقف ضم الأراضي الفلسطينية للكيان الصهيوني وهو السبب الذي دفعه كما قال لإقامة علاقات مع هذا الكيان. ولكننا نسأله ‏عن السبب في عدم التقدم بهذه المبادرة طوال الخمسة عشر عاما الماضية قامت خلاها إسرائيل بكل أشكال الضم والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية ولماذا الآن؟! ‏عموما على أبو ظبي الحذر في اتفاقها الاخير لأننا تعلمنا أن الأقوى هو من يفوز دائما في أي اتفاق أو علاقة غير متكافئة. ‏أليس فيما يحدث في فلسطين الآن يثبت أن ما يسمى بالامة العربية هو حديث أوهام وأحلام وإلا فأين هي هذه الأمة؟ ألسنا أمام ظاهرة صوتية لا قيمة لها؟ ‏الآن الأنباء المتواترة تقول إن كل من عمان والبحرين سيلحقان بالإمارات قريبا في التطبيع مع إسرائيل وكلنا يتذكر الزيارة الشهيرة التي قام بها نتنياهو إلى عمان قبل وفاة السلطان قابوس وهذا يعني أن العلاقات كانت دافئة بالفعل قبل هذه الزيارة وما تبقى كان فقط الإعلان عنها. ‏والسودان أيضا بدأ في خطة التطبيع مع إسرائيل وقد تم لقاء بالفعل في اوغندا بين رئيس المجلس السيادي في السودان الجنرال عبد الفتاح برهان وبين نتنياهو منذ عدة أشهر. ‏وكالعاده فإن حكومة الرئيس محمود عباس في انتظار الإعلان الرسمي عن إقامة العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل وكل هذه الدول للبدء في إصدار بيانات الشجب والتنديد. ‏إن تأخر حكومة أبو مازن في الحراك الاستباقي والتواصل مع هذه الدول أدى إلى ضياع ورقة التطبيع التي كانت بيد القيادة الفلسطينية في المفاوضات مع إسرائيل نتيجة تراخيها بالأساس ونتيجة خذلان ما يسمى بالامة العربية للفلسطينيين. ‏وأخيرا آن الأوان لحكومة أبو مازن أن تعي أن العرب قد تخلوا عن القضية الفلسطينية وأن علي الفلسطينيين إن يخططوا لمستقبلهم مع الاسرائليين على أساس غياب الدور والدعم العربي الحقيقي، بالطبع لن تتخلى الدول العربية عن الدعم المعنوي المعتاد للقضية الفلسطينية ولكنه دعم شكلي لا قيمة له. ‏الموقف صعب ومحبط للإخوة الفلسطينيين ولكن لازالت هناك فرص سانحة لدعم موقفهم التفاوضي مع إسرائيل من خلال السعي لدى الدول الأوروبية وروسيا وبعض جماعات الضغط في الولايات المتحدة والجمعية العامة للأمم المتحدة والاحزاب اليسارية داخل إسرائيل نفسها. بإمكان التحركات الدبلوماسية المحترفة على هذه الجبهات أن تشكل نوعا من الضغط على إسرائيل للتوقف عن سياسة ضم الأراضي الفلسطينية بأي ثمن ‏لأنها سياسة إسرائيلية خطيرة ومتعمدة تهدف إلى خلق واقع جديد على الأرض يصعب تغييره في المستقبل. ولا نستبعد أن تتحسن ظروف التفاوض مع إسرائيل بعد رحيل نتنياهو المتهم حاليا في قضايا فساد كبيرة في إسرائيل.

في لبنان
‏كل صفات الدولة الفاشلة تنطبق الآن على لبنان من حيث فشل الحكومة في السيطرة على مجريات الأمور وتحقيق الاستقرار للشعب اللبناني بالإضافة إلى الإفلاس المالي وخطر اندلاع حرب أهلية جديدة. ‏الانفجار الأخير في مرفأ بيروت أدى إلى تأجيج كل هذه المشاكل، والسؤال لماذا لم تنفجر نترات الأمونيوم في مستودعها في المرفق طوال الستة أعوام الماضية وانفجرت في هذا التوقيت الذي يمر فيه لبنان بمرحلة خطيرة في تاريخه. ‏الغرب واسرائيل يلمحون بأن حزب الله وراء التفجير، بينما يدعي حزب الله بإنها إسرائيل، والسياسيون في لبنان يقولون إنه الإهمال. ‏والحقيقة أنه من الصعب تخيل أن يقوم حزب الله بهذا العمل لانه لا يصب في صالحه بأي شكل. المستفيدون من هذه العملية الضخمة هم إسرائيل وبعض القوى الداخلية في لبنان التي سئمت من هيمنة حزب الله على الحياة السياسية. ‏كل من التحقيق المحلي والدولي لن يكون محايد أبدا، الأول لن يستطيع إدانة حزب الله او أي من القوى السياسية الأخرى والأرجح ان يدين هذا التحقيق الإهمال. كما أن التحقيق الدولي الذي تحرص امريكا على التمثيل فيه سيحاول إدانة حزب الله باعتباره وكيل إيران في لبنان وهو ما يشكل خطرا دائما على إسرائيل. ‏ولذلك رفض حزب الله مبدأ التحقيق الدولي من أساسه لأنه يعرف انه هو المطلوب ويعرف أيضا انه من المستحيل إدانة إسرائيل من خلال التحقيق الدولي. والمعضلة الكبرى هنا أن لبنان بحاجة إلى مساعدات ضخمة حتى يتجاوز أزماته المعقدة بينما أمريكا وفرنسا يضعون شروطا لتقديم هذه المساعدات منها تهميش دور حزب الله وإيران في الحياة السياسية اللبنانية ‏وتشكيل حكومة محايدة من التكنوقراط لا يمثل فيها حزب الله وهذا بالطبع أمر صعب المنال في نظام المحاصصة اللبناني. ‏الوضع جد خطير والعرب كالعادة يتفرجون على المشهد من بعيد ولكنهم يؤيدون بشكل عام تصفية حزب الله أو تقليم أظافره من خلال إخراج العدو الأكبر للعرب الآن وهو إيران من المنطقة وبأي ‫ثمن حتى ولو كان حربا أهلية جديدة في لبنان. ‏وبحسب رأينا المتواضع فإن الحل لازمة لبنان لا يمكن أن يكون الا لبنانيا وليس دوليا أو عربيا وعلى اللبنانيين ألا يقعوا في فخ المطالبة بتحقيق دولي لانه قد يؤدي إلى حرب أهلية جديدة باعتبار أن كل الأطراف المهتمة بالشأن اللبناني لا تسعى إلى حل لوجه الله ولكن من أجل مصالح خاصة بها وبحلفائها في الداخل. ‏ونؤكد أن أي حل مفروض من الخارج لن يؤدي إلى الاستقرار المنشود في لبنان. ‏مرة أخرى الحل لن يكون إلا داخليا ويتطلب توفر الإرادة السياسية وتبادل التنازلات بين الأطراف المختلفة في لبنان ‏وتشكيل حكومة وحدة وطنية بتوافق حزبي من التكنوقراط تعمل على تقديم برنامج إصلاحي شامل دون تدخل مباشر من السياسيين. هذا الإطار ربما ‏يلبى مطلب أمريكا والدول الأوروبية وبالأخص فرنسا لتقديم حزمة المساعدات التي يحتاجها لبنان بشكل عاجل للحفاظ على كيانه كدولة ويخرج من أزمته الاقتصادية الخطيرة.
والخلاصة أن العقلانية والواقعية والمرونة والبعد عن حكومة أبو ظبي هم أمل لبنان في البقاء. ‏وليحفظ الله هذا البلد الجميل وشعبه الذي عانى كثيرا. ‬‬‬