أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالله البقالي - لون الموت















المزيد.....

لون الموت


عبدالله البقالي

الحوار المتمدن-العدد: 1898 - 2007 / 4 / 27 - 11:21
المحور: الادب والفن
    


ما لون الموت؟
لا يملك جوايا قاطعا بأن له لونا أصلا، ويعتقد ان في حال وجوده فهو سيكون ذو لون قاتم له وقع منفر ويدعو للانقباض. لكنه بالمقابل لم يتصور أبدا أن يكون للموت لونا فاتحا كاللون الوردي للمسحوق الدقيق الذي وفر منه كمية كافية لقتل عدد من الناس.
يدرك ان ملعقة متوسطة الحجم منه كافية كي تتتلف معدته و تمزق امعاءه في اقل من عشرين دقيقة. و ان كمية مضاعفة منه قد تحدث ذلك في اقل من نصف ذلك الوقت. وفي انتظار أن يشحن المعلقة الأولى ، فهو يمهل نفسه لتتاكد من أن اللون المعنوي للحياة سيصبج أكثر قتامة من الموت نفسه.

وضع المقاتل المسحوق في علبة داخل جيبه، وألقى نظرة على البساط الزمني الذي قطعه معها حتى الآن. ارتسم الامتعاض على ملامحه وهو يسأل نفسه: من كان يصدق أن الضربة القاتلة التي كان سيتلقاها ستسددها له من اعتقد أنها أوفى و اعز مخلوق على قلبه؟
كان في اوج نجاحه حين انتبه فجأة أن ذلك المخلوق القادم من عالم أقرب إلى الطهرانية إلى عالم تمرغ فيه الأرواح في الوحل يمكن أن تضيع فجاة في أرجاء تلك الاحياء الهامشية داخل محيط قذر. تنبه بغتة أن ما اعتبر في السابق مثل مثلى قد صارت الان البوابة التي تمكن من يطأها من تدميرها بمنتهى اليسر ويقتل فيها كل شئ سام.
لا يذكر هل أحس بالخوف ام بالسعادة حين رصد تلك الحالة.
قبل ذلك كان ينظر لكل الاتجاهات الا لما يحيط به و القريب منه. كان الوضع صعبا وجد نفسه فيه قاطرة تجر الكثير من العربات في منعرجات صعبة لا توجد فيها خطوط سير. وبروح المقاتل العنيد لا يعرف كيف نبتت فيه تلك الشراسة التي لم يترك في حياته ما يمكن اعتباره امرا خاصا. لم تكن هناك مساحة في حياته خاصة به و بأسرته. كل شئ فيه من طاقته الذاتية الى ممتلكاته خصصه لتلك الحرب التي كانت تبدو بلا نهاية من اجل تطويع العالم الممتد حوله. شراسة وعناد اذهل حتى خصومه الذين كانوا ينسحبون عند نهاية كل معركة مقرين أنهم لا يستطيعون التمادي في التحدي. و البعض منهم اعتقد انه مسند من قبل قوى غيبية تدعمه في كل مرة كان يقترب من الانكسار. يسأل نفسه من جديد: ماذا لو كان قد انهزم ولو مرة واحدة؟.
في المحاطات التي كان يوشك ذلك ان يحدث، كان ينام طوال الليل فترات متقطعة قصيرة جدا . و انفاسه كانت تشق طريقها بعسر داخل رئتيه. وقلبه كان يمده بكل البيانات التي كانت تؤكد أنه يتحرك على حافة كارثة. وخرائط الدنيا كانت تبدو له بدون معالم ولا إشارات. و لأن ذلك كان يتخذ شكل النفس الأخير، فهو كان يخرج كل ما لديه ليجد الدنيا و الحياة تستجيب له. لكن الآن يجد نفسه في معركة بلا سابق. إنها معركة تجري على مشارف قلبه وفي عمق وجدانه. فكيف سيكون وقع الهزيمة على قلبه؟
في مرحلته الأولى بعد قدومه إلى المدينة، كان قد قرر أن يرتاح قليلا من الإنهاك الذي امتد على اكثر من عقد من الزمن. كان تعب السنين باديا عليه، محتاجا إلى سنوات طوال كي يستعيد انفاسه. لكنه حين نظر حوله بعد سنوات من الشرود، رأى أنه على بوابة اكبر خسارة في حياته.
رأى ابنته قد كبرت وعجب كيف كان ساهيا عن هذا كل هذا العمر. لكنه في الوقت نفسه وجد انها على بوابة مرحلة خطيرة تحتاج الى الكثير من الاشياء لا يستطيع هو ان يقدمها لها. وهو لا يذكر انه أقام من قبل حوارا وديا معها. وأن ذلك تكفلت به الزوجة التي بقيت الآن خارج المدينة رفقة باقي أطفاله. واكتشف ان الوقت قد صار ضيقا جدا من أجل تدارك ما يمكن تداركه قبل ان تضيع.
لم يكن خاف عنه أن ابنته ذات حاجيات محددة يشكل مستعجل. وان طبيعة علاقته السابقة بها لا تؤهله كي بقدم تلك الخدمات. غير أنه حين وجد نفسه بين ضياع ابنته وبين أن يقوم هو بتلك الخدمات، هدم كل الجداران.
يتذكر الآن أي متنفس شكله لابنته في تلك المرحلة وهي ترافقه في كل مشاويره التي توسعت وتنامت. وكيف ان ابنته انتقلت من موقع هامشي في حياته لتصبح كل شئ فيها. تخلى عن الرفاق و الاصدقاء و العلاقات وكل ما يمكن ان يشغله عنها. هل كان ذلك خطأه القاتل؟
يصدر تنهيدة عميقة تكاد تقتلع كل ما بجوفه ويتساءل: لماذا الحلم هو دوما المسار الذي يخترقه الحطام ليقتل التطلع و بزرع الانكسار داخل الانسان؟ ولماذا يتخلى الحالمون أول ما يتخلون عمن شاركوهم أحلامهم و يتخطونهم كمشاهد تتوارى الى الخلف في مسار زحفهم؟
في مشاويره الممتدة عبر السنين لم يكن مجرد حارس شخصي. قدم وبسط كل شئ. وزودها بكل ما تحتاج ان تعرفه.من سمو االإنسان إلى رذالته. ومن الطموح الى الاندحار. ومن عفافته الى رذيلته. ومن وعيه ورقيه الى غبائه و حطامه.
كل التباشير كانت جيدة. وطاقاتها التي هدرها لم تذهب سدى. قرأ دوما السعادة على وجهها المشرق. وتنامت الابتسامة لتحتل كل مساحة وجهها. و رأى الفرح يشع من عينيها ، و التطلع يطبر و يطبر وهي تنظر للافاق التي ما لبثت تتوسع. وكان أن هبت رياح معاكسة .
لقد هيأها من قبل عير مسار كل ذلك الزمن الضارب في العمق لتكون الربان القادر على ان يقود مركبه لوحده اتجاه كل المرافئ التي يود قصدها، وجعلها تكسب كل ما تحتاج اليه من دراية ومعرفه.
يدس يده في جيبه. يخرج العلبة الصغيرة وينظر إليها بغرابة. يتساءل: كيف يستطيع هذا الحجم الصغير أن يسع الموت؟
يرفع عينيه. يصطدم نظره بجدار سميك. يلوح لخياله وجهها الذي تتلاشى تعابيره أمام قوة

الحضور لنظراتها التي تؤثر فيه بعمق. أبجدية مكتملة لا يحسن التحدث بها إلا من لمس دفء وسمو روحها. بالتفاتة مصجوبة بابتسامة تستطيع أن تخمد وتطمس فيه كل الانفعالات في معاقلها. يتطلسم. تجتاحه ذبذبات روحانية تهدئ كل حصون التمرد فيه، ويفتح دراعيه عوضا عن ذلك كي يحتضن امتداده في الوجود وروحه المسافرة إلى العصور القادمة. يهدا. يستكين متحولا إلى رحاب يخيم عليها الهدوء. كم كانت رائعة...ا كم كان حضورها القوي ونجاحها الباهر يملأه فخرا فيعلن من غير تحفظ أنه استعاد اعتباره عبرها حين رآها منارا تبهت انواره كل الضياء الحربائية التي تجعل الكائن يتيه عن كنهه وحقيقته. مثلا آخر لقهر التحدي ونموذجا لمن لم تنل منه الميوعة في عالم انقاذ واستسلم لغرائزه ونزواته.
يتساءل. ماذا أصابها؟
يترقب سماع صوته هامسا بالجواب. يصيخ السمع فإذا حلقه لا يلفظ كلمة. يسكب إكسير التصميم على وجدانه فإذا لسانه محنط لا يقوى على الحركة. يكتشف أنه في حاجة إلى طاقة هائلة كي يكسر السد المنيع الفاصل بين البوح و الإمتناع. يحاول من جديد. تأمر نفسه بان تتوقف حيث هي . ويستعد بصره للانطفاء قبل ان تلتقط عيناه أي صورة من صفحتها الجديدة حتى لا تتكدر ذاكرته وتفسد كل الصور الجميلة التي يحملها عنها .
يعب المرارة. يود لو يضاعف من حدتها عشرات المرات حتى يصير كل شئ غيرها مستصاغ وحلو المذاق. يريد ان يمارس على نفسه طقوس عذاب لم يهتد إليها من قبل أي جلاد او طاغية.
يمد يده إلى البؤرة. هو متاكد أنها كامنة هناك كأفعى أسطورية تقتل بمجرد أن يحس الكائن أنها كامنة حيث هي. ترتعش الأصابع. تتحاشى عيناه و تتجنب قراءة تاريخ النكبة. يحتاج إلى الكثير الكثير من الصلابة و الجراة كي يصرخ علنا أن كل حجم المناعة التي اعتقد أنه امتلكها قد بدت مزيفة ، و أن قلبه قد أصيب عند اول تسديدة في اتجاهه.
يسأل نفسه: هل للمستحيل سلاحه السري الذي يشهره في شكل لعنة يفجرها في وجه من ينالون منه و يكسروه؟... هو تبرير وحيد منطقي لما جرى. و الا كيف اختلطت عليها الإحداثيات وصارت تقرأ إشارات المنحدرات الحادة على أنها سهول وطئة بلا نهاية؟ وكيف التقطت مسامعها دعوات الانكسار و الأفول ولم تسمع نداءات الحذر و التبصر؟ أين كان الخطأ؟
هو بلا شك في الاعتقاد أن من يمتلكون نفس المرجعية لا يمكن ان تتضارب رؤاهم ليقرأ الأبيض ما سيقرأه الآخر أسود.

يخرج العلبة. يفتحها. لا يريد ان ينتظر طويلا. يدرك أنه الخاسر ، و ان المحارب المنهزم يعي من جملة ما يعيه أن الحرب التي خاضها في فصولها الاكثر مدعاة للحرب كانت من أجل تحديد من يملك مشروعية إعطاء لون للأزمنة. ولأنه خسر الرهان، فهو يدرك أن ما تبقى له من الوقت لن يسعه حتى من اجل أن يندب حظه.

يعتصر جبينه بمنتهى القسوة. يتساءل بانكسار: لماذا فعلت ما فعلته؟ وهل لم تجد في كل هذا المعمور سوى شبحا مبهما كل ما حكاه عن نفسه يثبت خساسته، و ان ما تبقى من طاقته إن قرر أن يوظفه من اجل الهروب من عمره المتقدم فلن يجعله في أبعد من مرمى حجر من كهولته؟ إلأنه فقط ينتمي للعالم الآخر الذي ينظر لذاته مندهشا ما إن كان حقا يتوفر على كل تمثلاتنا الوهمية عنه؟.. ثم كيف تتخلى عن كل الدلائل التي تستطيع أن تمسكها باليد و المنبئة على أنها في طريق أكبر نجاح لها في الحياة لتمتلئ مسامعها فقط بعبارات أفاق كرر ما قاله لها لعشرات المغفلات قبلها و بعدها؟.. ثم كيف تتخلى عن عرشها الفسيح لتتحول إلى مجرد رقم داخل سلسلة قناص طوعها من البدء لتكزن مجرد مشهد يؤثث فضاء حياته مع إمكانية استبداله في اي لحظة من لحظة تغير مزاجه؟

يصفع وجهه ليتأكد من أنه ليس في ليس تحت تأثير كابوس . لا ...هي الحقيقة. أي هول..ا ماذا يستبقيه حيا لحد الآن؟
يجزم أن الغباء هو كائن بريء. و أن الرزانة هي ابنة النكبات. و ان الفطنة فاكهة ربانية ينعم بها على من يستطيع أن يرقى ليتحسس الألم من غير ان يجرح.

شحن الملعقة الأولى. وجهه تجمد. وعيناه احمرت و دمعت. واحس بأمعائه ترتج وتنتفض. حرك يده اتجاه فمه. انفتحت الباب فجأة. كانت هي . لم يصدق. نظرت إليه. قرأت كل شئ . ارتمت في حضنه وعانقته بحرارة.



#عبدالله_البقالي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هوامش
- الطوفان
- الإصرار و الترصد
- 1/4رباعية الخبز:الخبز الأبيص
- أوراق على الرصيف
- قصة قصيرة: السي الخمار و الديمقراطية
- صور وصور -الى كل النساء في عيدهن الأممي .
- قصة قصيرة : سور العاطلين
- السينيما
- الإمتحان الشفاهي
- فقر وغنى
- قصة قصيرة: حفلات و أزمات
- الجحيم الأن
- من هزم غيوم .الحياة أم الأحياء؟
- حزيران مرة أخرى


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالله البقالي - لون الموت