أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - ضيا اسكندر - الغِرُّ














المزيد.....

الغِرُّ


ضيا اسكندر

الحوار المتمدن-العدد: 6529 - 2020 / 4 / 5 - 02:33
المحور: كتابات ساخرة
    


بينما كنت في الطريق متوجّهاً إلى جلسةٍ حواريّة اتفقتُ عليها مع بعض الأصدقاء للنّقاش حول الأزمة السورية، وإذ برجلٍ كهلٍ نحيف، عظام وجهه بارزة. ذو شعرٍ رماديٍّ منتفش. رثُّ الثياب يستوقفني سائلاً:
- عفواً أستاذ، لو سمحت، هل يبعد كثيراً مشفى الباسل للأمراض القلبية عن هذا المكان؟
ولمّا كنت قريباً من مشفى تشرين، توقّعتُ أنه ربما أخطأ باسم المشفى فأجبته مستوضحاً:
- يا عمّ، هل تسأل عن مشفى تشرين أم مشفى الباسل؟
ثبّتَ نظره بي وكرّر قائلاً بأنه يقصد مشفى الباسل.
قلتُ له وأنا أتمعّن بتقاسيمه، حيث حفر الزمن أخاديد على وجهه، وأكل عدداً من أسنانه، وغارت عيناه في محجريهما:
- ولكن مشفى الباسل يبعد كثيراً عن هنا؟
أجاب وهو يحكُّ شعر لحيته الشعثاء:
- وهل يبعد مشياً أكثر من ساعة؟ إنَّ من يسير من مفرق قريته "المزيرعة" إلى هنا، لا يصعب عليه السير إلى مشفى الباسل.
وكأنني لم أفهم جيداً ما قاله. حاولتُ أن أتخيّل تجشّمه عناء الانتقال من قريته إلى اللاذقية سيراً على الأقدام، لكنني لم أستطع! سألته وقد بلغ بي الاستغراب حدّ الالتباس:
- هل مشيتَ من مفرق المزيرعة إلى هنا؟! إن المسافة تزيد عن (10) كم يا عمّ!
باعَدَ بين ذراعيه علامةً على العجز. ثم أخرج منديلاً أبيض من جيب سترته ومسح به عينيه وأنفه. وزَفَرَ زفرةً محرقة وأجاب بصوتٍ حارﱟ كالرجاء:
- وماذا أفعل يا أخي! الله وكيلك لا أملك ليرةً واحدة. اتصلوا معي من المشفى وأخبروني بأن ابني الذي خضع لعملية قلب مفتوح منذ أيام قد فارقَ الحياة – الله يرحمه ويرحم أمواتك – وطلبوا منّي القدوم إليهم لاستلام جثمانه.
صفعَتْ كلماتُه أذني على نحوٍ أليمٍ، وسَرَتْ في جلدي رعشةُ جَزَع. وتبخَّرَ الكلام على لساني. توقّفتُ لحظات متردّداً تتنازعني أحاسيس متناقضة؛ ناوشتني في غضونها سهام الارتياب، ومشاعر التضامن الإنساني مع هذا الرجل البائس. وأجريتُ محاكمة عقلية هادئة. وسرعان ما تغلّبَ العقل على العاطفة بعد أن استشعرتُ دَجَله وتساءلْتُ في سرّي: «صحيح أن الكثير من القِيَم الأخلاقية قد تشوّهت بفعل الكارثة الإنسانية الفظيعة التي عصفت في البلاد. إلا أنه في حالات الموت، وخاصةً في الأرياف، فإن مشاعر التضامن والتعاضد بين أبناء القرية ما زالت على حالها. ولا يمكن أن يتركوا رجلاً مفجوعاً بفلذة كبده، يتجشّم عناء التنقّل ما بين الريف والمدينة سيراً على الأقدام لإحضار جثمان ولده».
نظرتُ إليه بازدراء وأوليتُه ظهري منصرفاً بخطى ساخطة، دون أن أُعَقِّبَ بكلمةٍ واحدة. ولم تخامرْني أيّة مشاعر تبكيت الضمير.
لدى وصولي إلى وجهتي، حكيتُ لرفاقي ما جرى معي. وختمتُ حديثي بالقول: «آمل ألاّ أكون قد ظلمتُ هذا الرجل بظنوني!». ابتسم أحدهم واستوضح عن صفات ذلك الرجل. وبعد أن استمع إليّ، طَفِقَ يقهقه ويتلوّى ضاحكاً. ولمّا استطاع الكلام، انبرى سارداً قصة مماثلة حصلت معه منذ أيام في ذات المكان، ومع ذات الرجل الذي يتاجر بمشاعر الناس، ويبتزُّ عواطفهم النبيلة مستخدماً ذات السيناريو في الشّحاذة.. وختم قائلاً: «إن أمثاله كُثُر يا صديقي، وربما أحوالهم أدهى وأمرّ».
شعرتُ بجسمي ينقبض، وغرقتُ في الحزن وأنا أفكّر بهذا الرجل الذي اضطرَّ إلى التخلّي عن رجولته وكرامته، ولجأ إلى هذه الوسيلة لتدبير قوت يومه. قلتُ لرفاقي: «نعم، هذه إحدى الفجائع التي أفرزتها الحرب. ويمكننا البدء بمناقشة الأزمة السورية من هذه الواقعة أيها الأصدقاء!».



#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- «عدّاء الطائرة الورقية» ولأجلكِ، ألف مرّة أخرى..
- «الكندرجي»
- «سجينة طهران»
- الوكْفُ والمِزْراب
- سكْسوكة
- المَهْزوز
- الحُبُّ في زمن «الكورونا»
- قراءة في رواية «الواجهة»
- كهف أفلاطون والديمقراطية السورية
- حبيبتي حزينة!
- يا للهول! إنهم يتناسخون!
- العُنْفُ حلٌّ أحياناً
- الشَّمس
- «الكباش» الروسي التركي إلى أين؟
- لكلّ حصان كبْوة!
- براءَةُ الخصام
- أُمْنِيّة استثنائيّة
- «الأُمّ»
- عزف منفرد
- مَنْسَف لحم


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - ضيا اسكندر - الغِرُّ