أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - ضيا اسكندر - أُمْنِيّة استثنائيّة















المزيد.....

أُمْنِيّة استثنائيّة


ضيا اسكندر

الحوار المتمدن-العدد: 6481 - 2020 / 2 / 3 - 12:49
المحور: كتابات ساخرة
    


في إحدى الحصص الدرسيّة، ارتأت معلّمة الصفّ الرابع الابتدائي أن تُشغِلَ طلاّبها في الدقائق الأخيرة من زمن الحصّة بعد انتهائها من شرح الدرس بالسؤال: «ماذا يرغب كلٌّ منكم أن يكون في المستقبل؟»
وطَفِقَ الطلاب كلٌّ بدوره يُدلي برغبته؛ هذا يحلم أن يكون طبيباً، وذاك محامياً، وتلك مهندسة.. وهكذا إلى أن جاء دور أحد الطلاب المعروف بانطوائه وقلّة مشاركته فأجاب: «آنسة، أتمنّى في المستقبل أن أكون سائق سيارة زبالة!» فانفجرت عاصفة من الضحك والتعليقات الساخرة من قِبَل زملائه، بعضها همساً وبعضها بصوتٍ مسموع.
دُهِشَت المعلّمة من جواب الطالب (سامر). وتاهت بسمة هادئة على شفتيها، وأمرت الطلاّب بالكفّ عن الضجّة. ثم توقّفت لبرهة وهي تحدّق ببصرها على سيماء هذا الطالب ذي الإجابة الفريدة والغريبة، لتستقصي ما إذا كان جادّاً في قوله أم إنه يتهكّم. ولمّا لاحظ الطالب تفرّسَ المعلّمة في وجهه، أسبل جفنيه وأطرق رأسه خجلاً. فما كان منها إلاّ وسألته مجدّداً بعد أن تأكّدت من صدق جوابه: «لماذا اخترتَ هذه المهنة يا بنيّ!؟»
فأجابها بنبرةٍ حزينةٍ متردّدة: «آنسة، سائق سيارة الزبالة يجول بكافة شوارع وأحياء المدينة يومياً. ويتمتّع برؤية الناس والحدائق والمحلات التجارية، وهو يستمع إلى الأغاني التي يحبّها من راديو السيارة.. أمّا أنا، فإنني لا أغادر بيتي إلاّ بمجيئي إلى المدرسة. أو إذا طُلِب منّي شراء غرضٍ من الدكان. وفي البيت لا أستطيع سماع الموسيقى، اللهمّ إلّا شارة نشرات الأخبار التي يتابعها أبي من على شاشة التلفزيون أغلب الأوقات.»
ران صمتٌ مطبق في أرجاء الصفّ. واقتربت منه المعلّمة وقد تغيّرت سحنتها. ربّتت على كتفه بحنان ومسحت براحتها شعره. وقالت له وقد اشتعل لديها فضول التعرّف على ظروفه عن كثب: «يسعدني لقاء ذويك، أخبرْهم أنني أرغب بزيارتكم، وأرجو أن يكون الموعد قريباً.»
في اليوم التالي أبلغها سامر بأن والديه يرحّبان بها في أيّ وقت.
بعد نهاية الدوام، توجّهت المعلّمة برفقة سامر إلى بيته. ولم تنسَ أن تعرّج على أقرب محلّ تجاري لشراء علبة بسكويت كهدية لأسرته.
لدى بلوغهما البيت الكائن في الطابق الأرضي ضمن بناية مؤلّفة من عشرة طوابق، كان في استقبالها الأب وزوجته عند مدخل البيت المؤلّف من غرفة واحدة. رحّبا بها وأمطراها بألطف عبارات الحفاوة والتقدير.
قدّمت لهما الهدية وجلست تتأمّل المكان. الغرفة كبيرة بعض الشيء، يقتصر أثاثها على سرير وأريكة وطاولة صغيرة عليها تلفزيون. إلى جانبها عدة كراسي. وعلى أحد الجدران علاّقة ثياب. وفي زاوية الغرفة غاز للطبخ وبرّاد. يعلوهما رفّ توضّعتْ عليه مجموعة من الأواني والكؤوس.
بعد دقائق من الدردشة، تعرّفت على أحوالهم باختصار؛ فالأب مهجّرٌ من ضيعته بسبب الحرب ودمار مسكنه. يعمل حارساً في ذات البناية، يقوم بتنظيفها والعناية بحديقتها لقاء سكنه بالمجّان، بالإضافة إلى راتب شهري هزيل. لا يغادر بيته إلا لتلبية طلبات سكّان البناية والقيام بخدمتهم. تساعده زوجته في خدمة السيدات اللواتي يأنفنَ من القيام ببعض الواجبات المنزلية، من غسيل السجّاد وتنظيف الحمّامات وطبخ المأكولات صعبة التنفيذ وما إلى ذلك.
استهلّت المعلّمة مداخلتها بالحديث عن سامر. وأبدت إعجابها بسلوكه الهادئ وبحسن أخلاقه. وختمت قولها: «إنه طالب ذكي مجتهد، لكنه نادراً ما يشارك زملاءه ولا يتفاعل مع الدرس. ومن خلال استجوابي له، تبيّن لي أنه يعاني من الوحدة. فهو لا يبارح بيته إلاّ إلى المدرسة. وأنتم كما تعلمون، فإن أيّ إنسان بحاجة إلى الجانب الترفيهي في حياته، لا سيّما الأطفال.»
وافقها الأبوان على انطباعها عن شخصية ابنهما. وتململت أم سامر بعد أن ندّت عنها زفرة حارقة، وبصوتٍ راعش النبرات يسيل ألماً ويشوبه العتاب والإحباط قالت:
- والله يا آنسة، لا أحد إلّا ويتمنّى أن يحيا معزّزاً مرفّهاً متمتعاً بكرامته. ولكن كما ترَين، لا قِبَلَ لنا بحياةٍ كهذه. لكِ أن تقدّري معاناتنا من أننا لا نستطيع زيارة أحد من أقاربنا أو معارفنا بسبب شروط السكن في هذه البناية؛ فالويل لنا إذا ما دقَّ أحد الجيران بابنا ولم نكن موجودين. دائماً يهدّدوننا بالإخلاء. الله وكيلك شغلنا الشاغل هو الحرص على إرضائهم.
وهنا تدخّل الأب وقد تغضّن جبينه بعد أن أثارت زوجته أشجانه. فشرع يقول بصوت المستسلم الذي اعتاد تلقّي المصائب:
- يا آنسة، ما حكته أم سامر نقطة في بحر معاناتنا. ومع ذلك نحمد الله ونشكره أننا نسكن في حيٍّ راقٍ، يحمينا سقف، نأكل لقمتنا بالحلال.. صدّقيني عندما أقارن وضعنا على عِلاّته، بأوضاع النازحين واللاجئين من جرّاء هذه الحرب الملعونة، أعتبر نفسي محظوظاً. والله، لا همَّ لنا إلا أن تتوقّف الحرب لأعود إلى ضيعتي وأرمّم بيتي المهدّم والعناية بأرضي.. وأرتاح من هذا الذّلّ.
وأضاف أبو سامر بعد أن ألقى نظرة سريعة إلى ابنه الصامت الجالس في زاوية الأريكة:
- الله يرضى عليه. سامر لا مثيل له بين أقرانه؛ تصوّري يا آنسة، مع أنه حديث السنّ، فإنه يساعدني يومياً بجمْع أكياس القمامة من أمام أبواب شقق البناية ونقلها إلى الحاوية. وإذا تأخّرتْ سيارة الزبالة عن موعدها، فإنه يمتعض ويُبدي تذمّره وكأنه المسؤول عن نظافة الحيّ!
كانت المعلّمة تنصت بانتباه لكل كلمة. وأدركت سرّ تعلّق سامر بمهنة سائق سيارة الزبالة، والتي كانت السبب في زيارتها. واستنتجت أن مراقبة سامر لعملية إفراغ الحاوية في السيارة كل يوم، ورصده لحالة السائق المغرم بسماع الأغاني أثناء عمله، وانطلاق السيارة بعد ذلك لمتابعة المهمة في شوارع وأحياء أخرى.. جعلته وهو المحروم من مغادرة بيته إلا إلى المدرسة أو إلى الدكان المجاور كحدّ أقصى، جعلته في شوقٍ لأن يحلَّ محلّ السائق.
لحظات من الصمت لا يعكّر صفوه سوى زعيق الدينامو المجاور. تنهّدت المعلّمة وكأنها تريد طيّ هذه الصفحة، وقالت في تماهلٍ ورِثاء:
- يؤسفني ما أنتم عليه. وأحيّي صبركم وإصراركم على مقاومة الصّعاب. لقد تجرّأتم وأفضَيتم ببعض ما يعتمل في صدوركم من آلام. صدّقوني حال أغلبية الشعب، وأنا واحدةٌ منهم، تشبه حالكم. وعلى الرغم من كل شيء، فإن ثقتي بأن القادم أجمل. هذا أمرٌ لا ريب فيه. وإنْ لم يعاصر جيلنا التغيير المنشود، فإنّ سامر وأقرانه سيعاصرونه بالتأكيد ويتنعّمون بثمراته.
ونهضت المعلّمة وعانقت أم سامر بذراعها، وبالذراع الثانية ضمّت سامر إلى خصرها. وكانت عَيْنا الأب تلمعان بالأمل وقد استشعر الانشراح من كلمات المعلّمة. وشعَّ وجهه بنور الحبور البهيج، وهو يرنو إلى هذا المشهد الحميميّ المؤثّر.



#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- «الأُمّ»
- عزف منفرد
- مَنْسَف لحم
- في حَضْرَةِ الغياب
- لماذا لم تُشكّل الحكومة الانتقالية في سورية؟
- قَصْرُ المُحافِظ
- من أين لك هذا؟!
- البَدْلةُ الزرقاء
- جُرْأة غير مسبوقة!
- الصحفي والمسؤول
- القلم
- بين الفكر والسّلوك
- الملعبُ البلديّ والسُّلُّمُ الخشبيّ
- أوّلُ أجرٍ أتقاضاه
- فأر الحقل
- مع عدم الموافقة!
- خطاب رسمي
- من ذكريات «الزمن الجميل!»
- روسيا وتركيا و«الكباش» المعلن والمخفي
- أوَّلُ مهمّةٍ حزبيّة


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - ضيا اسكندر - أُمْنِيّة استثنائيّة