أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رحمن خضير عباس - جان جينيه ..القبر والمدينة















المزيد.....

جان جينيه ..القبر والمدينة


رحمن خضير عباس

الحوار المتمدن-العدد: 4252 - 2013 / 10 / 21 - 23:04
المحور: الادب والفن
    


جان جينيه ..القبر والمدينة
رحمن خضير عباس حالما وصلت العرائش –وهي مدينة في شمال المغرب – حتى اقترحت على صديقي المغربي (بوسته سعيد ) ان ازور قبر الأديب الفرنسي الكبير جان جينيه . وقد فوجئت بانه يعرف المقبرة ، كما يعرف ادق التفاصيل عن حياة وموت هذا الرجل الذي شغل العالم في القرن المنصرم . جان جينيه لص محترف ، فقد ولد لأمراة اسمها كامبل جينيه ، تخلصت منه ، بعد ان عهدت به الى ملجأ لرعاية اللقطاء ، لأنها كانت غير قادرة على رعاية طفلها وهي تبيع جسدها . ولأنه مجهول الأب فقد استخدم اسم امه . جينيه الذي تلظى في جحيم الفاقة والفقر واليتم والذل في طفولته . انحدر الى القاع ، متسلحا بكراهية للمجتمع الفرنسي مما جعل سيمون دي بوفوار تفسر ذالك على أنّ جينيه كان منبوذا من المجتمع فحاول ان ينتقم من ذالك المجتمع فتوجه الى السرقة . ولااعتقد ان الجنوح الأخلاقي وسلوك جريمة السرقة يعتمد على العامل النفسي فقط ، بل يتخطاه الى عوامل مختلفة ومنها الحرمان أو الفاقة التي منعته من أنْ يتمتع كأقرانه حينما كان صبيا ، فبقي محروما حتى من الحاجات الأساسية في الحياة .يقول في مذكراته " ان مدرس الفرنسية طلب منه ان يقرأ في درس الإنشاء ، فقرأ يصف منزله ، فغرق زملاؤه في القسم من الضحك، وحينما استفسر المعلم عن باعث الضحك فيهم . قالوا له: انهم يضحكون على جان لأنه لقيط ولامنزل لديه ". لقد كان زائرا مزمنا للسجن ، الذي راى فيه " مهربا من الحياة لكي يعود الى جوهرها " وفي اغوار السجن كتب أعظم اعماله الأدبية ومنها روايته الرائعة ( معجزة الوردة ) ، وكأنه يتعرض الى عملية هائلة من الصراع بين الأضداد وعواملها المنتجة ‘وقد تمخض ذالك عن عملية صهر كبيرة انتجت قيما وافكارا افاضها في الكثير من اعماله المسرحية والروائية . وكأنه يقوم بعملية تطهيرية شاملة . حتى انه حاول ان يقلع عن السرقة ، وحينما استشار رفيقه في السجن الكاتب المنحرف ( جوهاندو) بانه يريد ان يتخلى نهائيا عن سلوك اللصوصية ، ولكن الأخير غير قناعته مؤكدا ان الإستمرار في السرقة افضل من احتراف الكتابة !. ولعل كتابه ( يوميات لص ) يلقى اضواءا على الزوايا المعتمة من حياته .كما يكشف جوانب خفية من العلاقة بين الفرد والمجتمع في ظل الأنظمة الرأسمالية . و كان صريحا وصادقا في ذالك ، وكأنه يريد ان يواجه كل عوامل الأنحدار الأخلاقي باسلحتها . مما حدا بسارتر ان يقول عنه " قراءة كتابات جينيه تشبه قضاء ليلة في مبغى "
تقع مقبرة النصارى بمحاذاة البحر .كان علينا ان نجتاز حي القصبة . كتلة من البناء الذي يعود الى بدايات القرن المنصرم .شبكة من الأزقة الملونة ، تحتمي من وهج الشمس باقواس مزخرفة ، تتدلى من جدرانها ونوافذها الورود والنباتات . ازقة ملونة بالأزرق والأبيض . تنزلق باشكال حلزونية باتجاه السوق . سقوفها المقوسة والنوافذ ، توحي لك بالطراز الأندلسي .وكأنك قد انتقلت الى وهج الماضي الجميل للحضارة الأندلسية التي زحفت باتجاه المغرب الأقصى بعد ان طاردها الأسبان . لقد حافظ سكان المدينة على طابعها المعماري القديم - على الأقل في حي القصبة - اما الأحياء الأخرى فقد تسلقها الأهمال ، او البناء الذي لاينتمي الى روح المدينة . رائحة الورد والخضرة التي تطرز جدران الزنق الملونة ، تشيع في الذاكرة هوس العرائشيين الأوائل بمفهوم الحقل ، الذي يشاطر البحر في ان يهب الناس نسغ حياتهم ووسيلة بقائهم . لذالك فلا غرابة ان يطلقوا على البساتين اسم (الجنان) . تلك الجنان التي التهمتها المدينة في توسعها العشوائي . قال لي سعيد : " كان البناء في عهد الأسبان يسمح لأهل المدينة ان يروا البحر من كل الأتجاهات ". زرقة البحر تتسرب في جدران المدينة .ورائحة شواء السردين ينبعث من المطاعم الصغيرة الملاصقة للمرسى . اتجهنا الى منحدر، حيث جنان بوحساينة . كان منزل جان جينيه يتوسط الشارع . ويعلو عليه بحوالي اربع درجات اسمنتية . كانت الوانه الزرقاء قد خبت وتآكلت من رطوبة البحر .عرفنا المنزل عن طريق سيدة من الجيران اشارت اليه " هذا منزل الشاعر النصراني " وكلمة نصراني في شمال افريقيا تعني القومية اكثر مما تعني الدين . كان بين منزله وقبره دقائق وجيزة من الهبوط . قيل : ان جينيه كان يتسكع في المقبرة وهو يتأبط كتبه . يجلس تحت ظل شجرة ليقرا او يكتب . لم ار الشجرة قرب القبر ، قيل لي : ماتت الشجرة بعد موته بعدة سنين ولم يبق منها غير جذرها . قبل استقراره في مدينة العرائش عاش جان جينيه في مدينة طنجة ردحا من الزمن ، وقد كتب عنه الكاتب المغربي محمد شكري ( جينيه في طنجة) مستعرضا يومياته وجملة افكاره وروحه المتسامحة التي تميل الى مساعدة الفقراء والمقهورين من الناس . لم تكن دراسة محمد شكري عن جينيه عميقة ، او تفيد القاريء في فهم شخصية هذا الأديب او فحوى التحولات الفكرية التي تعرضت له شخصيته.
يبدو أنّ العرائش قد راقت لجينيه ،فاتخذ منها ملاذا للتأمل والأسترخاء ، والتقرب الى البساطة والعفوية التي عشقهما منذ طفولته ، بعد ان هاجر من بلده فرنسا وهو متوج بشهرة يحسده عليها كتّاب وادباء كبار . فقد كتب عنه الفيلسوف الوجودي سارتر كتابا مهما مشبعا برؤية فلسفية بعنوان( القديس جينيه . ممثلا وشهيدا ) ورغم انه كان يبرر جنوح جينيه ويعتبره ضحية لقيم عصره المختلة، ولكنه استطاع ان يتخذه مثلا لقيم العبثية في أسمى تجلياتها . كما اعتبره كوكتو اكبركتّاب عصره . وإختارته مؤسسة لاروس عام 1976 كواحد من ادباء فرنسا العظام . وهكذا فقد كان تسكعه في أزقة العرائش ومقاهيها شكلا من االعودة الى النبع ، الى التعايش مع المتعبين والمشاغبين والصيادين والشحاذين ومدمني الخمر والأفيون، التعايش مع الصالحين والطالحين وذوي الدخول المحدودة او الذين يعيشون تحت خطوط الفكر والكفاف . لم يتعايش معهم بصفته منقذا او مصلحا ، ولكنه حاول ان يقترب من ماضيه ويحس بمتعة تأمله . لم يكن ملاكا في تطهره ولكنه لم يكن شيطانا ، فقد عاش كانسان بسيط ، ينفق على نفسه مما تدر عليه مؤلفاته .في بداية ستينات القرن الماضي تحول من شخصية مشاكسة الى انسان يمتليء بالوداعة . فقد هجر اسلوب العبث واللامبالاة الى معانقة الهموم والقضايا الأنسانية التي تقضّ مضاجع عصرنا ، كاهتمامه بقضايا الزنوج والفصل العنصري . اضافة الى انشغاله بالقضية الفلسطينية . لقد كتب عن العمل الفدائي المقاوم . واصبح صديقا للفلسطينيين في مخيماتهم ، وحينما حدثت مجزرة صبرا وشاتلا ، كتب عنها ، وكان ضمن اول وفد صحفي واعلامي يدخل المخيم بعد المجزرة وقد كتب عنها اربعة ايام في شاتيلا ، تحولت الى مسرحية من اخراج فنان مسرحي فرنسي . يقول في كتابه : "حفلة وحشية جرت هناك ، سمر ورقص ونداء وتأوهات " وقال في نفس الموضوع " لقد كان عليّ أنْ أذهب الى شاتيلا لأدرك بذاءة الحب وبذاءة الموت ، فالأجساد في الحالتين ليس لديها ما تخفيه " كان الوحيد من كتاب الغرب ومفكريه من كتب عن المجزرة وفضح فيها القاتل ، سواء الذي قام بحفلة القتل الأليمة او من تستر عليها ووفر الظروف الملائمة لحدوثها . كانت كلماته تنزف دما ، حتى جعل العالم يشعر بالعار من هذه الوحشية التي ترتكب ضد البشر الأبرياء . لقد أدان جان جينيه السكين المتوحشة التي ذبحت البشر العزّل. وابرز الى المجتمع الغربي فجيعة المأساة التي مرت بصمت .
كان قبر جينيه يختلف عن القبور المحيطة به . يستلقي على ربوة صغيرة . لايفصله عن البحر سوى سور حجري قديم . تبدو شاهدة القبر بيضاء ناصعة وكأنها قد جُددت مرات لبواعث سياحية ، حيث ان قبره يستقطب الكثير من المثقفين . كتبو على شاهدة القبر ( جان جينيه من 1912 الى 1986 ) قبر بسيط يتخخلله الرمل البحري . يبتعد قليلا عن قبور الجنود الأسبان الذين قتلوا اثناء اداء واجباتهم في تحقيق سياسة جنرالاتهم التوسعية . لكن جينيه الذي اوصى بأن يدفن في العرائش بعد موته ، اراد ان يكون قريبا من اناسه البسطاء الذين اعتزوا به حيّا وميتا ، رغم ما رافق حياته من جدل حول بعض ميوله الشاذة . لقد انصاعت فرنسا لرغبته قبل موته ، مع ان الفرنسيين سوف يعيدون له اعتباره الذي يستحقه ، ولكن جينيه المتمرد على وطنه الأم في حياته ، استمر في هذا التمرد الى الأبد، حينما اوصى ان ينقل جثمانه الى مدينة العرائش .
في ربوة غير بعيدة عن المقبرة ، تستقر ليكسوس أو ( التفاحة الذهبية ) وهو الأسم الفينيقي لمدينة العرائش القديمة ، التي لم يبق منها سوى اطلال لذكرى حضارات كانت تمتد من البحر الى المحيط ، وهاهي مازالت قابعة على الربوة تنتظر من يفك اسرارها من خلال التنقيب . نهر اللوكوس ما زال شاهدا على عمق الحضارات التي مرت على تلك السهوب والربوات ، وقبر جينيه يغرق في الظلمة ليلا بينما تبدو الحياة في الصيف العرائشي غارقة في الأضواء . افواج من الناس يتبضعون او يحتسون القهوة ،او يتسكعون في الطرقات المفتوحة على البحر ، بينما امواج الأطلسي تعانق الصخور .
اوتاوة /كندا



#رحمن_خضير_عباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فنانون ..بلاحدود
- مسرى الناي .. سِفر الوجع المزمن
- على صهوة المجد.. واشكالية الهوية الشعرية
- عيّنة من نوابك ..ايها الشعب العراقي
- مظاهرات اليوم
- تجليات الواقع والخيال ..في رواية طوفان صدفي
- هروب سجناء القاعدة
- السطوع
- مدن اخرى ..وقلق المكان
- الجونوسايد في مصر
- رواية (كوميديا الحب الألهي) والذاكرة المعطوبة
- الرحيل ..وحزن اوتار العود
- علي دواي .. بصيص أمل في عراق جريح
- قف بالمعرة ..
- وأد الأطفال ..في بلاد النفط
- أحمد القبانجي .. سجينا
- بغداد عاصمة ..لأية ثقافة
- الوطن بعيون مهاجرة ( الأمن السياحي )
- شكري بلعيد .. وداعا
- لاشيء فوق العراق


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رحمن خضير عباس - جان جينيه ..القبر والمدينة