أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حذام الودغيري - قراءة في -اللاهوت العربي وأصول العنف الديني - للدكتور يوسف زيدان تتمة















المزيد.....



قراءة في -اللاهوت العربي وأصول العنف الديني - للدكتور يوسف زيدان تتمة


حذام الودغيري

الحوار المتمدن-العدد: 4245 - 2013 / 10 / 14 - 12:48
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


(نركز في هذه المقالة على "اللاهوت العربي" أما "العنف الديني" فقد تحدثنا عنه في المقالة السابقة الحوار المتمدن-العدد: 4188 - 2013 / 8 / 18)
مما شد انتباهنا في ردّات الفعل ( السّلبية)، غير المبرّرة، حول كتاب "اللاهوت العربي وأصول العنف الديني" للدكتور يوسف زيدان، الذي ظهر عام 2009 ووصل الآن إلى طبعته التاسعةـ هو أن العنوان نفسه أفزع بعض النفوس ولقي اعتراضات، فصاح مسيحيون ومسلمون معا : "لا يوجد لاهوت في الإسلام!". وهذا دليل على ظاهرة "الخوف" من بعض المصطلحات التي ترتبط ذهنيا وتاريخيا وثقافيا ببعض المفاهيم المحدودة أوتلك التي يُجهل معناها. يقول يوسف زيدان : " فنحن دوما نفكر عبر اللغة، واللغة مشبعة بالدلالاتت الدينية، والدلالة الدينية عميقة في تراثنا وغائرة...ولذا فمن العسير أن نصل إلى تلك الدرجة من التجرد والتجريد العقائدي اللازمين لأي عملية فهم عميق للماضي، وللحاضر أيضا. " فما هو اللاهوت؟ اللاهوت: كلمة سريانية انتقلت إلى العربية ( يقابلها الناسوت). ويقصد بها الإلهيات أو العلم الإلهي، أو ذات الله وصفاته. وفي اللغات الأوروبية يعبر عنها بـالـ" ثيولوجيا" التي كان يكرهها المسيحيون الأوائل لارتباطها في أذهانهم بالتراث الفلسفي اليوناني الوثني. وكان الفيلسوف أوريجين أول من استعملها في المسيحية للإشارة إلى الإلهيات التي انصبّت عنده ، على ما سوف يعرف لاحقا بلاهوت اللوجوس، أو لاهوت الكلمة. ثم صارت " الكلمة" ( اللوجوس) عند المسيحيين، هي المسيح ذاته. وقد أصبحت كلمة ثيولوجيا (لاهوت) في التراث المسيحي تدل علي كل ماله علاقة بالعقيدة المسيحية والإيمان المسيحي والطبيعة، فاتسع اللفظ بمعناه حتى فقده تماما.
إلا أن نعت اللاهوت بـ"العربي" ملفت فعلا ومثير للاهتمام؛ ولم تمض سنوات قليلة، حتى تلقف هذا المصطلح بعض الباحثين واللاهوتيين، وبدأنا نراه في عناوين كتب ومحاضرات. يقول يوسف زيدان ، أستاذ الفلسفة والتصوف الإسلامي، "وبداية ، فإني من خلال هذا المصطلح الجديد "اللاهوت العربي" الذي أطرحه هنا للمرة الأولى، أؤكدُ أن ثمة نقاطا مفصلية، مهمة ومهملة، تجمع بين تراث الديانتين الكبيرتين : المسيحية والإسلام. بل تجمع هذه النقاط المفصلية الواصلة، بين تراث الديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، التي هي فيما أرى، ديانة واحدة ذات تجليات ثلاثة".
ابتداء من ستينيات القرن العشرين، في الفترة التاريخية التي عرفت إنهاء الاستعمار وتفاقم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، تكاثرت المبادرات لدراسة الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام وتقديمها معا وظهرت حركة فكرية لمحاولة الوصول إلى الفهم والتقدير المتبادل بين هذه الأديان. ومن روادها المسستشرقون Henri Corbin، Denise Masson وRoger Arnaldez ... إلا أن هذا التطور يدين بالكثير للويس ماسينيون Louis Massignon، الذي كان لأطروحته عن الحلاّج التي قارن فيها بين مأساة (الشهيد الصوفي للإسلام) وآلام (السيد المسيح ) تأثير "الصاعقة في سماء اللاهوت الروحي المسيحي. " كما قال الأب Robert Caspar و كان لها دور كبيرفي تحرير وثيقة " في عصرنا" التي أعلنها المجمع الفاتيكاني الثاني (1965):"وتنظر الكنيسة أيضاً بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد،..." وفي عام 1987 ، اقترح اللاهوتي البرتستانتي Gérard Siegwalt الحديث عن " ثلاث ديانات إبراهيمية " بمعنى أن الديانات التوحيدية الثلاث لها مرجعية معيارية وهي الإيمان بإبراهيم، وهناك من يرى في سبب تسميتها أن أصحابها ينتسبون إلى إبراهيم، فالمسيح ينتسب إليه من جهة الأم.
يرى يوسف زيدان " أن الديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، هي في حقيقة أمرها ديانة واحدة، جوهرها واحد ولكنها ظهرت بتجلّيات عدة، عبر الزمان الممتد بعد النبي إبراهيم (أبرام) الملقب في الإسلام بأبي الأنبياء." وبسبب اختلاف اللغات والأماكن والأزمنة، ظهرت اختلافات تشريعية وعقائدية بينها. وهنا لا يعني أنها تتلخص في دين واحد أو أنه أراد اختزالها جميعا في الإسلام كما ظن البعض. ولكن لأن الجوهر الاعتقادي ظلّ واحدا. ففي الديانات الثلاث المعبود واحد، مهما تعددت صفاته وأسماؤه وأقانيمه (ج.أقنوم: ذات، جوهر، كائن قائم بذاته ...)، وهو يختص قوما بخطابه الإلهي، وهو يصطفي رسله والمؤمنين به، فيرفعهم فوق بقية الناس .
أما صفة التوحيد فليست المعبّر الجوهري عن وحدة الديانات الثلاث فهنك ديانت أخرى سابقة ولاحقة نادت بالتوحيد. (منذ عبادة آتون إلى نحلة البهائية)، فضلا عن أنّ أصحاب هذه الديانات لا يتفقون تماما حول مفهوم الله أوالتوحيد أو الوحدانية. ونعزّز هذه النقطة، بقول البابا يوحنا بولس الثاني في كتابه" العبور إلى الرجاء" : إن القرآن يصف الله بأجمل ما عرفه اللسان البشري من الأسماء الحسنى. ولكنّه في النهاية، إله متعالٍ عن العالم، ذو جلال، لا "إلهنا معنا"، عمانوئيل(...) يَذْكرُ عيسى، ولكن ليس إلاّ بوصفه نبيّاً يمهّد لخاتمة جميع الأنبياء، محمد." وكذلك بـ Jacques Halbronn مؤرخ علم الفَلَك اليهودي، الذي يصيح :" من سرق إلهنا ؟ " ويقول "المشكلة الحقيقية لليهود ليست المحرقة، بل هي تملّك الله من قبل المسيحيين والمسلمين (...) الأنبياء لصوص الله، يقوّلونه ما يريدون (...) حين يبتكر شعب ما إلهاً، فهذا الإله لا يوجد إلا من خلال هذا الشعب. إنه أداته وامتداده. وفي الواقع، وجود اليهود بحد ذاتهم هو من يؤسس لله و من خلال اليهود نصل إلى ما يسمى الله..." وختام كلامه :"إن القرن الحادي والعشرين سيكون القرن الذي سنتوقف فيه عن الحديث عن التوحيد الذي يتمفصل حول نفس الإله."
إلا أن الفيلسوف يوسف زيدان يقترح مصطلحا جديدا للديانات الإبراهيمية لتمييزها عن الديانات الأخرى وهو "الديانات الرسالية" أو " الرسولية" لأنها "أتت إلى الناس برسالة من السماء، عبر رسل من الله وأنبياء يدعون إليه تعالى ويخبرون عنه الناس، سواء جاء هذا المُخبر عن الله بكتاب فكان رسولا، أو عولت دعوته على كتاب سابق، فكان نبيا." (علما أن أهل الكتاب لم يزعموا أن كتبهم مُنَزّلة وإنما كتبت بوحي). وفي كل ديانة شريعة هي وحدها واجبة الاتباع، وأهلها فقط المؤمنون وغيرهم غير مؤمنين، و يؤكد الدين اللاحق الدين السابق، بينما الدين السابق ينكر اللاحق ويستنكره ، أو ذلك ما يفعله أهل الديانات ذلك في أنفسهم، ثم يفعلونه داخل كل ديانة على حدة، حين يجعلون المذهب معادلا للدين، فيصير الذين خارج المذهب خارجين عن العقيدة والدين. "وبقطع النظر عن الصورة المثلى التي قدم بها الإسلام الأنبياء الأوائل، فإن المهم هنا هو (الإجماع) على نبوتهم، والتأكيد على جوهرية (النبوة)".
يبدو لنا في البداية أن المؤلف أراد نفض غبار النسيان أو التناسي عن الحضارة العربية القديمة وأراد رد الاعتبار للعقل العربي بكل أطيافه . فبازدراء ثابت ومستمر ، شعر المسلمون بأنهم مجبرين على تقديم فترة ما قبل الإسلام، وهو ما سماه يوسف زيدان ب"الزمن المطمور" كفترة تميزت بالظلامية والوحشية والإرهاب والخرافة. وقد امتثل معظم المستشرقين بسرعة فائقة لهذه الفكرة ,فكان ينبغي التأكيد على الهمجية والجهل، "الجاهلية" ليكون ظهور الرسول العربي خارقا للانتقال من الظلمات إلى النور. فهذا المسعودي في مروجه يسفّه العرب ويصور كيف أن مناخ الصحراء يتلف دماغ العربي! وكذلك قال كثيرون من عرب و شعوبيين . إلا أن العرب في الحقيقة لم يكونوا مجرد لصوص القوافل، يعيشون بالغزو ونهب قبائل الجوار الغنية، إذ كانت أنبل مهنهم تجارة السلع، التي تعتبر ، في كل زمان ومكان طوال التاريخ البشري، الشقيق التوأم لتجارة الأفكار. فكانوا يتبادلون السلع والأفكار مع الصين والهند لإيصالها إلى فراعنة مصر وبلاد الرافدين ، وكانوا شركاء تجاريين للإغريق والرومان أيضا وقد أطلق هذان الأخيران على بلادهم Arabia Felix وEudaimon أي" بلاد العرب السعيدة"، وكانت لهم ممالك مجيدة مديدة وعتيدة، بقرون عديدة قبل المسيح، سواء في الجنوب أو في الشمال منهما مملكة سبأ ومملكة تدمر اللتين حكمتهما العظيمتان بلقيس وزنوبيا ...وممالك أخرى قوية ومتحضرة. وقد أكد الإسلام ارتباطه باللغة العربية، واعتزاز النبي بأصوله العربية. ولم يكونوا يدينون فقط بالوثنية ، فكان منهم اليهود والنصارى والصابئة، والحنفيون وغيرهم ... كما تكونت نصوص من التقاليد الإسلامية يمكن وصفها بالكاريكاتيرية، لما تصوره من حالة الانحلال الأخلاقي الجماعي المستفحل التي كان يعيشها العرب...فنتساءل: لو كان ذلك فعلا مناخهم الفكري والأخلاقي فكيف استقبل عدد منهم عن رضا كلام الله الأخلاقي التنزيهي دون سابق تهييء؟ وقد رسم يوسف زيدان في رواية "النبطي" الحالة الاجتماعية والدينية والسياسية التي كان يعيشها العرب قبيل ظهور الإسلام. لقد بدأ الحضور العربي منذ أواخر الألف الثالثة ق.م،وقد نزحت قبائل عربيه من قلب الجزيرة واليمن في القرن الخامس قبل الميلاد بعد انهيار السد واستقرت ببلاد الشمال الخضراء الشام والعراق وبجنوبها "الهلال الخصيب"، وفكانت منطقة الرها عربية تماما كما أن فيلبوس العربي حكم روما والعالم القديم من 244إلى 249 م.
يؤكّد يوسف زيدان أنّ "اللاهوت العربي وأصول العنف الديني"، ليس مقارنة في الأديان بالمعنى العربي المشهور، أو حسب تعريف د. أحمد شلبي: " علم يسعى لامتلاك "سلاح" يكون بيد المسلمين، وهي بحث يبرز جمال الإسلام ورجحانه، ويؤكد أن الفكر الإسلامي قمة شامخة، وما سواه حافل بالانحراف والوثنية والتعدد!"
يقول زيدان: " فماذا لوكان الذي (يقاارن الأديان) غير مسلم؟ وهل يرى غير المسلم الإسلام إلا مثلما يرى المسلم الديانات غير الإسلامية، حافلة بالانحراف والوثنية والتعدد؟ وما الفارق بين علم مقارنة الأديان المزعوم، وما يسمى في المسيحية بعلم اللاهوت الدفاعي؟ ولعل في قولهم ( الدفاعي) إفصاحا عن الشعورر بحالة الحرب بين الديانات ولذلك ألحقت صفة الدفاعية باللاهوت. فالأصوب والأقرب عندي ، أن نقرن بين الديانات الرسالية الثلاث ( الإبراهيمية) أو نقارب بينها، على اعتبار أنها تجليات ثلاثة لجوهر ديني واحد."
طبّق المؤلّف في دراسته هذه المنظور التساندي الذي يسمّيه بـ "المتَّصَل التراثي" .إذ أنه عند النظر إلى التراث الممتد منذ اليهودية المبكرة والفكر الإسلامي المعاصر، يستشعر "التساندية" الممتدة بين البنيات الكلّية، المؤثرة بتفاعلها التساندي مع بعضها، عبر المراحل التاريخية المتتالية، وتكون أحيانا خفية . وهو نفس المنهج الذي طبقه في بحوثه وفي كتابه " المتواليات، دراسات في المتصل التراثي ". وكذلك "عبر الفكاك المؤقت من أسر التديّن والإدانة، نسعى في هذا الكتاب ...إلى رصد الوصلات العميقة بين اليهودية والمسيحية والإسلام، والبنيات العامة الحاكمة والارتباطات التاريخية ذات الجذور التاريخية المطمورة، بين الدين والسياسة، وبين التدين والعنف، وبين التعصّب والتخلّف (عن الإنسانية)."
وانطلق من فرضيات ثلاث:
ـ لا يمكن فهم التراث العربي -الإسلامي أو الوعي به دون التعمق في الأصول الأسبق زمنا، التي كانت بمثابة مقدمات له.
ـ في حالة "التزامن" والمعاصرة بين الدوائر التراثية ، فإنه لا يشترط، أن يؤثر الأقدم زمنا في الأحدث منه أو التالي عليه، فأحيانا يحدث العكس فيؤثر اللاحق في السابق حين يتعاصران. وكما يقول المستشرق اليهودي Michel Abitbol "تحت تأثير الإسلام، تحولت الحضارة اليهودية على جميع المستويات: الثقافية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الدينية(...) فأعيدت كتابة اليهودية بالعربية من قبل مفكرين مثل سعدية غاوون(سعيد بن يوسف الفيّومي) وبفضل اللغة العربية، تفتحت على جميع أنواع التأثيرات، وبخاصة الفلسفة اليونانية، فتم إثراؤها بأطر مرجعية جديدة وبمفاهيم قانونية وفلسفية أو اقتصادية جديدة. وهكذا نشأ اللاهوت اليهودي الذي لم يكن معروفا حتى ذلك الوقت. واليهودية التي نعرفها اليوم تكونت في تلك الفترة. "
ـ تغيير تسميات الشيء الواحد، يجعله مع تعدّد تسمياته كأنه متعدّد، وكذلك من شأنه أن يحجب الأصول عن الأشخاص إلا أن الخلفية الثقافية وطبيعة "العقلية" التي انتمى إليها هؤلاء أصلا، لا تلغى تماما مع أسمائهم الأولى. (عند وسامة الرهبان بإسقاط أسمائهم الأصلية لصالح الاسم الكنسي المختار).
نود الإشارة إلى أن مختلف المفسرين والمؤرخين الغربيين للمسيحية لا يكترثون بالعقل والروح العربيّين اللذين ساهما في صياغتها، ومن هنا تظهر أهمية مقاربة الدكتور يوسف زيدان لموضوع اللاهوت "العربي". كما أنهم كانوا يفصلون المسيح عن جذوره اليهودية، يقول الأب Jean Dujardin :"لقد كانت تنبغي صدمة المحرقة... حتى تعيد الكنيسة الكاثوليكية قراءة تاريخ علاقتها مع الشعب اليهودي..." ويقول Roger Benjamin في "طبيعة ومستقبل المسيحية" :
" ولكن قبل عقود بدأ التوجه نحو التركيز على يهودية يسوع. فحسب الأناجيل الأربعة هناك استمرارية وقطيعة. فتلاميذ يسوع الذين نقلوا التقاليد داخل المجتمعات المسيحية الناشئة ، وأولئك الذين سيكتبون الأناجيل يهود. فالتوراة ذاكرتهم والنبع الذي ينهلون منه. فسيبحثون في كتب الأسلاف المقدسة عن العناصر التي يمكن إدراجها ودمجها في خطاب جديد، وسيأخذون من الكتابات المقدسة كل ما تبدو له علاقة بالإعلان عن قدوم المسيح. أما ما يخص أساس إيمانهم والاعتقاد بأن يسوع المصلوب رفع إلى السماء، سيجعلهم يحوّلون المسيح الملكي إلى المسيح الخادم المعذّب، إلى المسيح الفادي."
وبصورة إجمالية أصبح يُنظَر الآن إلى اللاهوت المسيحيي كتوليف للعقلانية اليونانية وبعض الروحانية اليهودية ، إلا أن هذا التوليف يتوّج بشيء آخر، أصيل، وهو تمثيل الله الذي يتجسد وبإدخال الإنسانية في ثالوث المحبة.
ينطلق يوسف زيدان من جذور الإشكال: الله والأنبياء في التوراة. ( ما يعرف بالنص "الأصلي" للكتاب المقدس في المقام الأول هي النسخة التي كتبها النبي عزرا الكاتب في 539 قبل الميلاد ،انطلاقا من ذاكرته، أثناء طريق العودة من بابل. فالنصوص "الحقيقية " القديمة دمرت كلها عندما أحرق جنود نبوخذ نصر الهيكل الأول. وقد مرّ حوالي 15 قرنا (من 1400 ق.م تقريبا إلى نهاية القرن الأول الميلادي ) بين كتابة السفر الأول من الكتاب المقدس ( سفر التكوين) وكتابة الأخير (سفر الرؤيا). ويقول الإنجيلي الإيطالي Sandro Ribi: " لكن على الرغم من أنه كُتِب في أزمان وأماكن ولغات مختلفة وبواسطة أشخاص من طبقات اجتماعية متباينة ، فإن الكتاب المقدس يقدم تماسكا وانسجاما استثنائيين، وذلك يؤكّد إلهامه من البداية إلى النهاية" . )
فبينما وصلت الحضارة المصرية إلى تقديم صورة مثلى للإله المتسامي، المحتجب في عليائه (آمون تعني المختفي) ؛ واهب الحياة والمفيض بالخير على الكون متجليا في صورة أنثوية (عشتار، إيزيس...) العادل الكامل البهي...أتت اليهودية بصورة إشكالية للإله، لم تقف عند إشكالية تعدد أسمائه (الرب، يهوه، أدوناي، إيل، إيلوهيم ـ وهي جمع ـ ...) بل تعدتها إلى إشكالية طبيعة الله وصفاته في التوراة (الصفات الربانية)، فهو يظهر تارة داعيا للخير وفضائل الأعمال وتارة عنيفا، منتقما من الناس لحساب اليهود ويأمرهم بالاحتيال على المصريين؛ كما تظهر له صورة إنسانية : فهو يقلق، ويستغيث، ويُغْلَب، ويندم، ويغار من البشر، ويحقد وينسى فيستعين بقوس قزح لي يتذكر وينتشي برائة الشواء، و يحاول قتل موسى فيفشل، ينام ، يستيقظ، ...إضافة إلى إشكالية التصاق الله بالأرض لا بالسماء، فهو ينزل إلى (الخيمة)، فيصير قريبا من الإنسان، ويشاركه وقائع حياته. وقد قُدِّمت عبر التاريخ الطويل لليهودية ، وفي المسيحية من بعد، تأويلات، وشروح بغية إبقاء (القداسة) ضافية على نصوص العهد القديم، إلا أن هذه الحلول المقترحة، تأخر وصولها مترجمة إلى بقية اللغات التي ترجمت إليها التوراة، فنشأت مشكلة كبرى تتمثل آثارها في ارتباط ( الصفات) بالذات الإلهية.
كما أن الصورة التوراتية للآباء الأوائل والأنبياء ورجال الله (الصور الرسالية) مفزعة، فبالرغم من كونهم أخيارا مختارين، فهم لا يتورعون عن الإتيان بأفعال مهولة، كالقتل والسرقة والاحتيال والزنا ( بالمحارم، أيضا) والإمعان في إبادة الناس ؛ فضلا عن الاستهانة بحقوق البشر من غير اليهود ، فكأنّ (الأُمَمِيين أو الأُمّيّين، الذين لم تلدهم أم يهودية) تنقصهم الأهلية الإنسانية لينضموا إلى أبناء الرب ( اليهود) ، أو أن ربّا آخر غير رب اليهود هو الذي خلقهم. وهذا مناقض لمفهوم "الضمير" الذي عرفته مصر القديمة وكذلك للقيم الإنسانية التي أنتجتها الحضارات قبل تدوين التوراة بقرون. وقد بقي هذا الإشكال العميق قائمًا، حتى جاءت المسيحية، فكان "الحل المسيحي : من الثيولوجيا إلى الكريستولوجيا )
ظل اليهود ينتظرون طويلا المسيح المُخَلّص الذي سوف يتحقق به وعد الرب لامتلاك الأرض من النيل إلى الفرات. وتوالت البشارات خلال القرنين السابقين لمجئ السيد المسيح في أسفار الانبياء يرافقها غالبا إنذار إلهي لشعوب الأرض جميعاً. وقد ظهر الكثير من الكاذبين وكان أحبار اليهود يختبرون من يظهر دعواه من هؤلاء فيرونه كاذباً وعندئذ يصرفونه بالحسنى أو التهديد أو يسلمونه الى السلطة الرومانية التي تقوم باعدامه. وجاء المسيح بعد ما طال زمان الانتظار اليهودى، إلا أن الأمر بينه وبين اليهود اللذين جاء لخلاصهم سارعلى المنوال المعتاد مع كل السابقين عليه الذين زعموا أنهم المخلصون.
وقد طُرِحَتِ الديانة المسيحية أصلاً على أنها امتداد للديانة اليهودية ثم تطورت على أنها حركة تصحيح عام لليهودية وبشارة عامة لجميع الامم." لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ." (17،18 متي).
إلا أنّ المسيحية أكدت وجود الله مع الإنسان في الأرض مثل اليهودية ثم رفعته إلى السماء، وكان المسيح هو صيغة الخلاص من مشكلة اندماج الله مع الإنسان واندماجه في الأرض ومن صيغة الخلاص الإنساني من خطيئة آدم التي ورثها أبناؤه. على اعتبار أن الله المسيحي الآب، فيه الصفتان المتقابلتان: القدوسية (الجلال) والرحمة (الجمال) فكانت التوراة مجلى القدوسية وكان الإنجيل الذي يعني لفظه حرفيا البشارة، مجلى (الرحمة).
انتشرت المسيحية في القرن الثاني الميلادي كثيرا ، وابتداء من القرن الثالث الملادي بدأ التمييز بينها وبين اليهودية كما بدأ الخلاف بين المسيحيين حول ماهية المسيح وطبيعته. فكانت إشكالية عقيدة الديانة المسيحية: مادام المسيح قد انفصل عن الآب بالموت وعاد بعد 3 أيام فهما ليسا من طبيعة واحدة، ولا عن طبيعة واحدة لأن الانفصال بينهما واقع.
وقد اعترف بالمسيحية واحدة من الديانات الرسمية للإمبراطورية الرومانية في مرسوم ميلانو الصادرسنة 313 م. ومع كثرة الأناجيل وتضاربها وتعدد رؤى المؤمنين وتناقضها، ومع اختلاف ألسنة الناس ولغاتهم في المناطق التي انتشرت فيها المسيحية مبكرا، كان من الطبيعي أن يتشوّش الإيمان القويم (الأرثودوكسية) وذلك بسبب تعدد صورة المسيح في الأذهان، بين كونه ابن الله أو ما سوف يسمى صورة الله أو الله بذاته من ناحية ومن الناحية المقابلة كونه رسول الله أو نبي الله أو الإنسان المتألّه. أما عن معنى الأرثودكسية: وصارت اليوم اللفظ المضاد للهرطقة، فهي كلمة يونانية الأصل تعني" الاستقامة"، ثم صارت تدلّ اصطلاحا على عقيدة الكنائس الكبرى قبل ظهور الإسلام، تمييزا لها عن عقيدة الموسومين بالهرطقة. وصارت قريبة المعنى مما نقصده بكلمة (السلفية) أو (أهل السنة) في مجال الفكر الإسلامي، وبكلمة (المحافظين) في المجال السياسي، مع اختلافات طفيفة في الدلالة العامة. و يرى يوسف زيدان أن الأرثودكسية كمصطلح دال على (إيمان) مسيحي معيّن، لم تنشأ وتتطور إلا عبر الجدل والجدال مع الهرطقة والمهرطقين.
"وعلى هذا النحو صار (المسيح) هو الديانة ذاتها، فمن اسمه اشتق اسمها، ومن مولده يبدأ كتابها (الأناجيل) و من الإقرار بألوهيته يُستهل قانون إيمانها الأول، وشيئا فشيئاً أصبح المسيح معادلاَ موضوعياَ لله، ثم غدا مع اجتهادات الآباء الأوائل (الأرثوذكس) هو الله الذى غاب وناب عنه المسيح. ولأن كل ما هو إلهي (ثيولوجي) قد أمسى متعلقاً بالمسيح أى صار كريستولوجيا. فإن المشكلة الكبرى فى اليهودية (صفات الله) لم تعد مطروحة للنظر و إنما صار الإيمان القويم (الأرثوذوكسي) إيماناً بالمسيح الذي هو الله، وصار التشكيك فى ألوهيته التامة يعنى الكفر بعينه، أو بحسب المصطلح المسيحي: الهرطقة."
فما هي الهرطقة إذن؟ الهرطقة: لفظة من أصل يوناني وكانت تعني: الاختيار، الطائفة، الحزب، الجماعة الدينية، المدرسة الفكرية...ثم مع ترجمة أعما ل الرسل إلى اللغات المختلفة، صارت تعني :" بدعة". واستقرت الدلالة السلبية للكلمة مع القديس إيرينيئوس في كتابه "ضد الهرطقات" ووصفه الاتجاهات والجماعات الروحية ذات النزعة الفلسفية - الدينية، وهي المعروفة بالغنوصية ( العرفانية) أنها هرطقات. فالمهرطق (الهرطوقي) هو الذي ينكر أصلا من الأصول الدينية، أو يؤمن إيمانا مشوبا ببعض الاعتقادات الباطلة، من وجهة النظر الأرثودكية (الأمانة المستقيمة، الدين القويم) .أما في الإسلام فقد نابت عنها مفردات أخرى عربية مثل: بدعة، إلحاد، كفر، زندقة. وأصبحت الزندقة (ذات الأصل الفارسي) عند المسلمين تشير إلى الخارج عن نطاق الدين الإسلامي، مع أنه منسوب إليه. واشتهرت العبارة (من تمنطق فقد تزندق)!. أما في اليهودية فمفهوم الهرطقة يتعلق بمن يدعون أنهم "المسيح المنتظر" أو الأنبياء الكاذبون الذين انتشروا في تاريخ اليهودية، أو من يرتدون عن الدين. وثقافيا، تشجع اليهودية النقاش والخلافات المذهبية، كما تعبّر المقولة " حين يلتقي تلموديان، فعلى الفور تشتبك ثلاث آراء !"و بشكل عام الهرطقة في اليهودية، تؤدي إلى حدوث انشقاق دون عواقب حقيقية للأقلية، التي تعتبر دائما منتمية إلى الديانة اليهودية، وهذا ناتج إلى الانتماء لـ "شعب الله المختار" .
انعقد مجمع نيقية المسكوني سنة 325 م، فتقرر ما سيعرف باسم قانون الإيمان، وهو القانون الذي تعدل بعد ذلك واستكمل عدة مرات في مجامع كنسية تالية انعقدت بسبب الهرطقات المتوالية الظهور. وتشكلت بعد المجمع سنة 331م لجنة دينية دنيوية( كنسية إمبراطورية) مهمتها التفتيش وإعدام الأناجيل الكثيرة الأخرى، وهكذا بقيت فقط الأناجيل الأربعة المشهورة: متي، لوقا، مرقس، يوحنا. وهي الأناجيل التي حفظت مع الرسائل المسماة أعمال الرسل، فكان ما سيعرف باسم العهد الجديد تمييزا له ودلالة على استكماله العهد القديم المشتمل على أسفار التوراة الخمسة وأسفار الأنبياء اليهود الكبار والصغار ، فيكون من مجموع ذلك كله ما نعرفه اليوم باسم الكتاب المقدس. لكن الأناجيل المختلفة ( أبوكريفاوتعني اللفظة: المشكوك في صحتها وأصالتها) ظلت باقية بأيدي الناس.
انطلق يوسف زيدان من مصطلح ثنائيّ بديع و أصيل، لفظاً وفكرةً ، "النبوة والبنوة " ليوضح من خلاله كيف تم فهم الديانة المسيحية شرقا وغربا، وكيف أن جدل الهرطقة والأرثودكسية القديم وليد لعقليتين. لقد بدأ انتشار المسيحية من أرض فلسطين شرقا وغربا :
ـ غربا: كانت الديانات الغابرة في مصر واليونان وسواحل الشام تسمح بالتعددية وكانت تجيز التمازج أحيانا بين الربوبية والبشرية (اللاهوت والناسوت) أو لا ترى بأسا في تأليه الإنسان وتأنيس الإله. فالملك الفرعون في مصر القديمة هو ابن الشمس أو ابن الإله أو المفعم بالوجود الإلهي وكذلك الفهم المصري القديم لعالم الآلهة ذي الأبعاد الثلاثية، والإنجاب من دون نكاح حسي، وجواز القيام من الموت وانتظار الحساب وأن للحياة مفتاحا (عنخ، صليب) . وكذلك ما نجده في الديانة اليونانية القديمة الجامعة بين البشر والألهة، والعمالقة (الطيطان) وأنصاف الآلهة، وكان كبير الآلهة وغيره الذي يغرم بنساء من الأرض فيعاشرهن فيلدن أنصاف الألهة...وانتقلت هذه التصورات إلى العصر الهلينستي ثم استمرت في الوعي اللاتيني. لهذا لم يكن غريبا على المسيحية في مصر واليونان أن تصير أرثدوكسية، مؤمنة إيمانا قويا بأن المسيح هو ابن الله. ( تتقبّل وتتمحور حول فكرة البنوّة)
ـ شرقا، في الجزيرة العربية والهلال الخصيب: كانت مسافة شاسعة بين الله والإنسان يهيم فيها الجن والعفاريت والغيلان، إلى آخر هذه الكائنات الوسيطة، وإن صورت الآلهة على هيئة بشرية (أوثان) أو هيئة مجردة (أصنام). وكان الكهنة والحكماء والأنبياء، الذين يحتفى بهم، عبارة عن أدلّاء يعرّفون الناس بالإله، بعيدا عن النظريات الفلسفية المعقدة ( نظرية الفيض لأفلوطين) أومخبرين يسخرون الجن، أو عرّافين يستطلعون أخبار السماء، بعيدا عن أي ادعاء من هؤلاء الوسطاء .وكانت قوانين حمو رابي تعتبر وحيا من الآلهة، عالم مستقل تماما عن البشر. ويرى يوسف زيدان أن فكرة "النبوة" ـ ذات اللفظ المشترك في العبرية والعربية ـ عبرانية الروح والمنشأ، وانسربت عند العرب. فقد جلبها اليهود، من زمن أسرهم بأرض بابل حيث عاشت من قبلهم هناك أفكار مماثلة عن أنبياء الفرس القدماء، خاصة النبي الشهير زرادشت( القرن السابع ق.م). وقد جعل اليهود النبوة موقوفة على اليهود ( أبناء الرب) ولا سبيل لظهورها في غيرهم، من "الأمم" الذين حذرهم الله من مشابهتهم...فلم يعترفوا بالأنبياء الذين ظهروا عند العرب قبل الإسلام بزمن طويل... وكانت لهذه السمات الثقافية العربية، أثرها القوي ( الخفي) في وعي العرب بالمسيحية، إذ جعلتهم أو جعلت بعضهم يتقبلون أن تلد العذراء بمعجزة إلهية، إذ المعجزات صنوٌ للنبوّات. لكنهم بطبعهم، لم يستسيغوا أن يترتّب على ذلك أن يكون المولود هو ابن الله، اللهم إلا على سبيل المجاز. (تحتفي وتعلي من قدر النبوة)
وبعد انتشار ديانة المسيح، وقد ترجمت الأناجيل المشهورة فوصلت إلى الناس عبر عدة لغات، بل عبر عدة ترجمات في اللغة الواحدة ، فترتبت عن هذا أوصاف كثيرة للسيد المسيح منها أنه:" ابن الإنسان" و"ابن الله، و "السيد" و" الرب" و"المعلّم" فعلى هذا النحو، كانت أمام الناس في العالم شرقا وغربا، فسحة لتأوّل النصوص المسيحية المقدسة وتأويل الصفات ( الكريستولوجية) بحسب الثقافة التي ينتمون إليها والعقلية التي تحكم تفكيرهم، .خاصة أن القَصَص الإنجيلي يسمح بهذا الفهم أو ذاك فيما يتعلق بحقيقة السيد المسيح الواصلة بين اللاهوت والناسوت.
فكان من الطبيعي بالنسبة للمصريين واليونانيين أن يفهموا أن المسيح هو ابن الله، ثم أمنوا بأنه الرب وبأنه الإله. وأن يفهم العرب والكلدانيون والأشوريون واليهود الذين أمنوا بالمسيح، أنه المخلّص وأنه النبيّ.ولم ينكر المسيح على الناس قولهم بأنه واحد من الأنبياء، يقول متي المسكين في شرح إنجيل مرقس : "فالمسيح هنا لم يحزن لقول الناس الذين عثروا فيه ولكنه فرح بالتلاميذ الذين أمنوا بسرّ الله " (أي الذين أمنوا بألوهيته).
وكان من الطبيعي أيضا أن يقوم الخلاف بين هاتين العقليتين، وأن تهيج حمّى الحرومات (الأناثيما أو اللعنات ويقصد بها الإبعاد عن الكنيسة، أوما يُعرف بـالحرمان الكنسي) وصارت مع احتدام الخلاف بين الكنائس اتهامات مبدئية جاهزة للانطباق على المخالفين، وسلاحا حادا لا يقتصر إشهاره على حالات الاختلاف العقائدي وإنما يتعداه إلى تفاصيل الحياة اليومية. فكان ذلك إنذارا بانبثاق العنف من قلب الدين، واستعلاء كل فريق باسم الإله، باسم الرب، (تفرّق العربية بين الألوهية والربوبية، فالرب معرّفا يطلق على الخالق، وغير معرّف يطلق على الله والإنسان، بينما الإله يطلق فقط على المعبود الأعلى) فتدفقت أنهار الدم وفقا لجدلية العلاقة بين الدين والعنف والسياسة...أما هذه المجادلات والصراعات فقد دارت جميعها حول موضوع واحد هو المسيح. ومن هنا يقول يوسف زيدان :" إن ما يسمّى في التراث المسيحي باللاهوت، إنما هو لاهوت لا يتعلّق في مجمله بالله ذاته، بل يدور جوهره حول المسيح الذي صار "الله"، حين صار الكلمة جسداً، بحسب الفهم الأرثودوكسي لطبيعة يسوع."
فأكّدت الكنيسة القبطية وباقي الكنائس الأرثودوكسية بصرامة ألوهية المسيح وأخرجت عن حدود الإيمان القويم والأمانه المستقيمة المنكر لها، وهو ما يوجد في "كتابة الآباء" أو "نصوص الاعتراف" عند الأقباط، وهي تشبه ما سيعرف في التراث الإسلامي بنصوص "العقيدة " حيث يقر كبار المشايخ في هذه الرسائل، بما يعتقدونه في ذات الله وصفاته، وغير ذلك من موضوعات "علم الكلام".
وكانت حرومات كيرُلُّس، التي وضعها ضد هرطقة نسطور، أكثر شهرة من غيرها ، فصدر إعلان الإيمان الأرثودكسي حسب ما تراه كنيسة الإسكندرية "(...) من لا يعترف أن عمانوئيل (يسوع المسيح) هو الله بالحقيقة، فليكن محروما.من يتجاسر ويقول إن المسيح هو إنسان حامل لله، وليس هو الله بالحق، والابن الواحد بالطبيعة، إذ أن الكلمة صار جسدا واشترك مثلنا في اللحم والدم، فليكن محروما." وذلك لتشكيك نسطور في كون العذراء مريم هي أم الإله، ثيوتوكوس.
ومنها أناثيما نسطور نفسه الذي رد بها على أناثيما كييرُلُّس...
شهد قلب الشام الكبير والعراق، إذن، هرطقات متوالية التوالد يصعب تحديد زمن ظهورها الأول، إذ كان الإيمان الأرثدوكسي والهرطقة يتزامنان دوما ويتطور كل منهما بتطور الآخر (الجدل في الاصطلاح الفلسفي؛ علاقة بين قضيتين تتفاعلان معا في الوعي حتى تتحدّدا عبر هذا التفاعل وقد تنتج عنها قضية ثالثة) وكان خطر الهرطقات أقوى خطرا على الديانة من االوثنية والوثنيين ومن اليهود واليهودية ، فهؤلاء تم القضاء عليهم تدريجيا وقد جرى ذلك كله في مهد المسيحية فلسطين وفي مدن الله العظمى روما الإسكندرية، أنطاكية وبيزنطة. وكانت تدور مفاهيم الإيمان والكفر ، القداسة والإلحاد حول محور وحيد هو طبيعة المسيح...أما هرطقات المنطقة الأوروبية لم تكن تدور حول المشكلة الكرستولوجية.ويؤكّد يوسف زيدان على كثافة الحضور العربي في الاجتهادات اللاهوتية "الهرطوقية ":فمنذ القرن الرابع الميلادي، كان كل أساقفة أورشليم عربا. وكانت الملكة العربية ماوية التنوخية التي خلفت زوجها في حكم المنطقة الممتدة جنوب الشام قد اشترطت كي تقبل الصلح مع الإمبراطور البيزنطي تنصيب بطرس العربي أسقفا على الشام؛ كما أن الملكة زنوبيا، دعمت بولس السميساطي وكانت مملكتها ممتدة من بابل إلى الإسكندرية.
كانت المواجهة في القرون الأولى تتم في الكتابات الدفاعية عن العقيدة أو في المجامع المحلية (المكانية) أو في المجامع الكنسية العالمية ( المسكونية) وكانت تنتهي دوما إلى قرارات حاسمة في تحديد مفهوم الإيمان.
فكانت هرطقات عديدة من بينها "الأبيونية" التي كانت تعد من أخطر الهرطقات الكرستولوجية، وظهرت في جماعة يهودية الأصل، عاشت في بادية الشام، وكانت تؤمن بناسوت المسيح وتعتبره المخلّص ونبيا متميزا عن باقي الأنبياء، محافظة على الشرائع اليهودية التقليدية.
والأريوسية، لصاحبها أريوس، قس سكندري من أصل ليبي، وتقول إن الابن المخلوق لا يمكن أن يساوي الله في الجوهر، وأن يسوع هو المسيح وليس هو الكلمة اللوجوس ولا الحكمة لأنهما صفتان إلهيتان لا تتوقفان على مخلوق وإلا صار الله عرضة للتغير مثل الخلائق. (سيطرح المسلمون فيما بعد : هل كلام الله القرآن قديم أم مخلوق، وهي محنة خلق القرآن) ويرى يوسف زيدان أن نسطور كان على نحو ما امتدادا للنمط الاجتهادي الذي قدمه آريوس من قبله بقرن من الزمان، رغم هدم نسطور لكنيسة الآريوسيين، لأن آريوس هو الذي توسع في مفهوم "التبني" الذي يقول بأن الله تبنى يسوع الإنسان كابن، فقط في معموديته. و هذه الكرستولوجية تستند على نسخة من إنجيل لوقا وجدت في بعض المخطوطات، و تنقل المزمور( 2، 7) "أنت ابني، أنا اليوم ولدتك" بدلا من "أنت ابني الحبيب الذي به سررت ".وجعله قاعدة لفهم طبيعة المسيح.
وقد تراوحت هذه الهرطقات من إنكارلاهوت المسيح إلى إنكار ناسوته ، الذي تجلّى في مذهب "المونوفيزية " أي مذهب ا"لطبيعة الواحدة"، حيث أن الطبيعة الإلهية ابتلعت الطبيعة الناسوتية، (كما يبتلع المحيط قطرة الماء أو نقطة العسل ).
وقد أثرى النساطرة الحضارة الإسلامية بنقل التراث اليوناني والسرياني إلى العربية بعد انتقاله قبل قرنين من الإسكندرية إلى بغداد وكان هناك ارتباط للاتجاهات المسماة "هرطقية" بالعمل العلمي، فكانت لهم مكانة مرموقة في الزمن الفارسي ثم الإسلامي وبلغ من استقرارهم وغناهم وتقدمهم الحضاري أن أقاموا كنائس ضخمة بالعراق وقال عنهم يعسيانوس القيصري: "ولأنهم من الأرض، ومن الأرض يتكلمون، ولأنهم يجهلون الآتي من فوق، فقد تركوا كتابات الله المقدسة، ليتفرغوا لعلم الهندسة والجغرفيا والفلسفة والطب..."
(لمزيد من التفاصيل وللتعرف على مختلف الهرطقات، يرجى الرجوع إلى الفصلين الثالث والرابع من "اللاهوت العربي وأصول العنف الديني")
وعند ظهور الإسلام كانت 4 كنائس أرثودكسية مثحالفة الإيمان: كنيسة الروم الأرثودكس (روما واليونان من بعد )، كنيسة الميلكانيين (بيزنطة)، كنيسةالسريان (أنطاكية)، وكنيسة الأقباط (الإسكندرية).وهكذا ابتعدت المسيحية عن الأصل الذي ابتدأت منه واشتهرت به وهو :المحبة" فصارت ديانة للمقت والإقصاء. يقول المؤرخ البريطاني Ernest Renan:
"تجدر الإشارة إلى أن الانتصارات الخاطفة للعرب ضد الإمبراطورية البيزنطية وقعت على أراضي "الهراطقة" ضد "الأرثوذكسية" البيزنطية، فحين هاجموها في العاصمة أجبروا على العودة الى الوراء.لقد ضرب الإسلام، منذ ولادته، البيزنطيين في كل الأراضي التي كانت تنتظر شعوبها محررين . فجيوش الخليفة عمر استقبلت أينما حلّت باعتبارها محرِّرة . فلم يكن من غير المألوف أن نرى مثل ما حدث يوم 20 آب 636 على أرض سوريا المقهورة ، حيث أنه خلال معركة بين جيش بيزنطي عتيد ومنظّم على النمط الروماني وجيش عربي يتألف من جماعات مسلحة قليلة يُسحَقُ البيزنطيون . "معجزة"؟ لا! اثنا عشر الف مسيحيي عربي من جيش هرقل الأول ، البيزنطي مضطهد اليهود والهراطقة، مرّوا بأعدادهم وعتادهم إلى صف العدو. وبالمثل، سلّم البطريرك القبطي مدينة الإسكندرية دون مقاومة للعرب، وكان سكانها المسيحييون غير مبالين بمصيرهم."
ففي لحظة حرجة، إذن، من أوائل القرن السابع الميلادي نزل القرآن؛ و سمته الأساسية أنه يقدم نفسه للناس أصلا كوحي إلهي وخطاب رباني وتنزيل من السماء، إما أن يقبل بالكلّية بفعل الإيمان، أو ينكر تماما من جهة الضالّين أو الكافرين. فلا مجال فيه لرأي يبديه راء ولا نقض يسوقه ناقض، ولا قبول جزئي أو اعتراض على جزئية. وقد قَدّم القرآن، باعتباره لاهوتا عربيا حقيقيا أو هو التجلّى الأخير لهذا اللاهوت، حلولاً محددة لكل ما كان اليهود والنصارى يختلفون فيه من مشكلات عقائدية. فأعاد بناء التصوّرات الأساسية للألوهية والنبوة: فكانت إعادة للتصور التوراتي للعرب، أبناء إسماعيل من الجارية المصرية هاجر، وسيبقى النبي محمد رجلا أمّيا أي "أُمَمِيّا" يرتبط بالأنبياء التوراتيين من جهة الأب، إشارة لظهور النبوة في غير بني إسرائيل (الأمم) وإلى الانتساب إلى مكة بوصفها "أم القرى".وجاء ت الحكاية في الأنبياء (أحسن القصص) راقية مترقّية إلى حضرة علوية: ولم تعد هناك خطية أزلية ورثها أبناء آدم من بعده، فآدم أخطأ بعصيان الأمر الإلهي ثم أدرك خطأه وتاب .وظهر الأنبياء والرسل بصورة كريمة. وهكذا سطع الله، رب العالمين، بقوة في القرآن حتى لا يكاد اسمه يغيب عن سطر واحد منه، أما عن الصفات فأفاض القرآن في تأكيد علوّ الله عن العالمين ، فهو تعالى المفارق التام، الترنسندنتالي، الذي "ليس كمثله شيء ". وبذلك عاد اللاهوت إلى صدارة المعتقد الديني، . وتوارى الناسوت عن أصلي الإسلام ( الكتاب والسنة)، فلم يعد مطروحا كأصل إيماني حتى ما كان مرتبطا بمحمد ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل). وهكذا تم إسلاميا تجاوز أزمتي صورة النبي وصفات الله و قطعت بالتالي جذور الإشكال الصفاتي التوراتي، وحلت مشكلة التشوّش في الصورة اليهودية للأنبياء... أما بالنسبة للإشكال العقائدي المسيحي حيث يتداخل مفهوما الله والإنسان، ويتشوش تصوّر "الابن" بين دائرتي النبوة والبنوة. فقد جاء المسيح القرآني(يسوع ـ عيسى) مقترنا باسم أمه مريم عدا ثلاث مرات أشير إلى اسمه مجردا. أما مريم القرآنية، فهي الصدّيقة، وليست ثيوتوكس أو أم النور الحقيقي، وإنما هي الصديقة، أوصل إليها جبريل النفحة الإلهية الخالقة ، وهي عذراء، فحملت بالمسيح. وبعد قصّ وقائع الميلاد العيسوي والمعجزات المحيطة به، أنهى نهاية حاسمة " ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه" (مريم ، 34 ـ35) كما أعاد القرأن بناء مفهوم "الأمانة" فأخرجها عن معناها الاصطلاحي المسيحي، أي الأمانة المستقيمة ( الأرثودكسية) وجعلها أمرا إنسانيا عامّا يرتبط بالإدراك السليم ويرادف العقل.
كما أن القرآن نزل بعقلية عملية "براجماتية" تعنى بالواقع المعيش، فقد مد القرآن المدني المسلمين بنظام حياتي ولم يكتف بالإلهيات التي فاضت بها السور المكية. وهكذا تحول الدين على أيدى المسلمين الأوائل إلى راية يحاربون تحتها بغرض تأسيس الدولة ومدّ حدودها.
يقول يوسف زيدان: "وحين فتحت البلاد المحيطة بجزيرة العرب حيث ولدت وعاشت المذاهب "الهرطوقية" وحيث ظلت تتوالد المخترعات العقائدية الجديدية كالمونوثيلية التي أقرّت بأن" طبيعتي المسيح اتحدتا في مشيئة واحدة وقدرة واحدة" ، انتقل القرآن من محلّه الأول ( اللغة العربية) مع محلّه الثاني (المسلمين) إلى المحلّ الثالث، الذي هو الجماعات الإنسانية غير العربية وغير الإسلامية. سواء من ذوي الثقافة العربية كالأنباط وأهل الممالك القديمة في الهلال الخصيب، أم ذوي الأصول غير العربية كالمصريين والفرس واليونان. ولما استقر الإسلام في منطقة الهلال الخصيب، شهدت هذه المنطقة ذاتها ، تحولات كبرى، امتدت خلالها الأفكار والرؤى التي كانت في الزمن المسيحي لاهوتا، ثم صارت تسمى في الزمن الإسلامي كلاما."
وقد كان للأزمة الكبيرة التي هزت المجتمع الإسلامي بعد معركة صفيّن عام 657 عواقب هائلة ليست فقط من الناحية السياسية ولكنها تسببت في كسور كبيرة في نظام الفكر العقائدي والأخلاقي. فحين يرتكب حاكمُ، خليفةُ، خطأ كبيرا هل يجب الاستمرار في طاعته؟ و بشكل أعم هل يمكن اعتبار المسلم المذنب وغير التائب من الناحية القانونية الشرعية كعضو في الجماعة (الأمة)؟ عرضت لهذه المسألة الهامة أجوبة كثيرة خلال القرنين الأولين من العصر الهجري: فكان النقاش حول القدر وحرية الإرادة التي كانت ضمنية في موقف الخوارج؛ بينما آثَر الأمويون آراءَ معزِّزة حسب الحاجة بأحاديث نبوية تؤكد على فكرة السلطة المطلقة ، غير المحدودة لله ، القَدر . فاذا كان الله هو مصدر كل أفعال الإنسان فإن السلوك السيّء ،الذي كان يُتهم به بعض الخلفاء معذور بطريقة أو بأخرى، وأصبح تمرد المحتجّين مثل الخوارج بلا جدوى، بل خارجا عن التقوى. لقد عمّم هدا المذهب المسمى بالجبر (من جبر ، والسلطة القسرية ) أفكاره بسرعة في الأوساط التي تعتمد على قراءة حرفية للقرآن، بما في ذلك أنصار الحديث. إلا أن الموقف الجبري لم يلق الإجماع في العصر الأموي . فقد قام تيار معارض خاصة في سوريا "القدرية " ( من القدر ، قوة القرار الحر ) يؤكد على فكرة القدرة على الاختيار عند الإ إنسان ، و الإرادة الحرة ، و اللعنات القرآنية العديدة ضد الخطائين و الظالمين . وقد قام هؤلاء القدرية، الذين نملك عنهم قليلا من االمعلومات ، بدور المعارضة ضد عدد من الحكام الأمويين الذين كانوا ينددون بتصرفاتهم الشخصية والسياسية، فمن المرجح أنهم كانوا يؤيدون الانتفاضة ضد الخلفاء العباسيين في دمشق ، وشكلوا احدى المناطق الأهم لولادة حركة المعتزلة في المستقبل .
أما "علم الكلام" فهو ما يعرف عند الأزهريين ب"علم أصول الدين"، وقد ظهرت بواكيره في النصف الثاني من القرن الأول الهجري " وصار له اسم مشتق من أن القرآن هو "كلام الله" وأن المشتغلين بهذا العلم هم "المتكلمون" في العقيدة بناء على ما ورد في القرآن، المدافعون عن التوحيد وأصول العقيدة ضد الانحرافات والمذاهب التي مالت عن "الأمانة" المستقيمة، وعن الدين القويم والحق الذي جاء به القرآن وجعل الله "العقل" سبيلا لفهمه. وقد سماه الإمام أبوحنيفة "الفقه الأكبر". وقد اشتهرت فرقتا المعتزلة والأشاعرة لانتشار المذهب ولارتباطه بالسياسة.
ظهر "آباء الكلام" في الشام والعراق مهد الهرطقات وموئلها؛ وارتبطوا بالتراث العربي المسيحي السابق عليهم من خلال أساتذتهم ومن خلال طبيعة البدع التي قالوا بها؛ وقد لقوا مصائر مفزعة، تذكّر بعصر الشهداء وآباء الكنيسة الأوائل. ويقول يوسف زيدان " "سمي آباء علماء الكلام بالُمعطّلة، أي بمنكري الصفات الإلهية (النفاة) لأن صفات الله كانت تمثل جذور المشكلة التي ظهرت أولا مع اليهودية، ثم توسعت المذاهب المسيحية في مناقشتها، بعد تحويلها إلى إشكالية كريستولوجية لا ثيولوجية. كما نفهم الصلة الخفية بين إصرار (الهراطقة) على نفي المماثلة بين الله والكلمة، وتأكيدهم أن اللوجوس مخلوق، وإصرار (المتكلّمين) على نفي صفة الكلام عن الذات الإلهية، وتأكيدهم أن القرآن مخلوق. كان أولئك وهؤلاء يقررون في واقع الأمر أن الله تعالى هو وحده المتفرد بالقدم، وما سواه حادث. فالعالم والمخلوقات والإنسان والكلمة والقرآن والمسيح ابن مريم، كلها عند أولائك وهؤلاء محدثات...ولا متعالي على الحدوث إلا الله."
أما هؤلاء الآباء فهم أربعة: 1ـ معبد الجهني، من البصرة، وهو أول من نطق في القَدَر، فكانت بدعته ( هرطقته) حول نفي القَدَر، الذي ناقض به المذهب "الجبري" الذي عممه الأمويون والمذهب "القدري" يقول: " لا قَدَر والأمر أُنُف" بمعنى أن الأمر أو السلطان مفروض بسطوة الحكام رغم أنوف المعارضين؛ ولا شأن لذلك بالقضاء والقدر الإلهيين. وقد لاقى هجوما متتاليا من أئمة المسلمين لتخوفهم الشديد على العقيدة الإسلامية القويمة من تلك الاجتهادات المضادة التي بدأ بها معبد الجهني، وكان راويا للحديث وشهد التحكيم و وصلبه عبد الملك بن مروان. 2ـ غيلان الدمشقي ، وكانت بدعته أنه قال بالحرية الإنسانية وكان على صلة بالخليفة عمر بن عبد العزيز، إلا أن هذا الأخير شدد عليه في عدم ترديد أقواله، وقتله هشام بن عبد الملك وقطعت يده ورجله وصُلب وقد كان مشهورا بصلاحه.3 ـ الجعد بن درهم، عاش بدمشق، كان مؤدبا للخليفة محمد بن مروان. وكانت زندقته (هرطقته) أنه أنكر نصوصا تفيد بأن الله شارك مخلوقاته ، أو تفيد التجسيم والتشبيه، وقال بضرورة تأويلها. فكان يقرر أن الله منزه عن صفات الحدوث. وقد ذبحه الأمير خالد القسري بعد خطبة عيد الأضحى. ومنها انبثقت قضية "خلق القرأن" التي تقول بأن كلام الله مخلوق ( تاريخي)، باعتبار أن القرآن وكل ما سوى الله، مخلوق، حادث في محل، لا هو أزلي ولا أبدي، وإنما هو "تاريخي" قابل دوما للتأويل بحسب ما يوافق إفساح المجال للحرية الإنسانية. ،وليس كما اعتقد أهل السنة أن كلام الله، صفة لله القديم. 4ـ الجهم بن صفوان ، آخر الأباء وأخطرهم حسب معاصريه ، وكان يتناقش مع أهل المذاهب والطرق الدينية وهو صاحب أول كلام متماسك ولذا عده البعض الجد الأعلى للمعتزلة وإن كان معاصرا لمؤسسي المذهب المعتزلي. وكانت زندقته أنه كان ينكر الصفات وينزه الباري عنهاـ ويقول بخلق القرآن وأن الله في الأمكنة كلها، وقد أسس مذهب "المُعَطِّلة" أي منكري الصفات الإلهية (النُّفاة)، الذين ينفون عن الله الصفات الملحقة به، ويرونها عين ذاته أي "هي هو" وهو ما يعود لمفهوم "الهوهو" الذي طرح لعدة قرون على مائدة البحث اللاهوتي بهذه المنطقة قبل الإسلام. وقد حكم ابن تيمية بكفره وقتل بإصبهان مع أنه كان عنده عهد أمان من الأمير، ابن القاتل.
ويرى يوسف زيدان أنّ قوام مذهب" أهل السنة" لم يتحدد إلا باتخاذ مواقف محددة من اجتهادات آباء الكلام، مثلما تحددت الأرثودكسية من خلال مواقفها التاريخية من الهرطقة.
ولما انتبه المتكلمون اللاحقون إلى خطورة الجمع بين الجانبين النظري والعملي، و المصير الذي ينتظر المتكلمين المهرطقين، اكتفوا بالمباحث الكلامية النظرية وفصلوا بينها وبين النضال السياسي متحاشين إغواء "الخروج". فقرر أئمة المعتزلة أن يكون أصل مذهبهم الخامس "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" مكتفيا بالمشاعر القلبية أو بقول اللسان وإن استعان المعتزلة بالخليفة المأمون على الإمام ابن حنبل وأصحابه الذين كانوا يقرّرون أن كلام الله" اللوجوس، القرآن" هو قديم غير مخلوق. إلا أن خطأ المعتزلة الكبير كان انضمامهم إلى السلطة العباسية لفرض أفكارهم التي أصبحت مذهب الدولة من 833-847. ومن الواضح قد أدى هذا إلى ردود فعل، فاضطُهِدوا بدورهم، تاركين المجال لمدارسَ تقلّل غالبا من دور العقل أو تغيبه مركزة بالمقابل على التقليد مثل الأشعرية أو المذهب الحنبلي، المرجع الحالي للأصوليين.
ويقول المستشرق Roger Arnaldez بأن المعتزلة، أمام خصوم يمتلكون الموارد الجدلية، كان عليهم أن يتهيّؤوا ولهذا
لم يترددوا في اعتماد القواعد المنطقية للبرهان ، وبالتالي في إعطاء العقل البشري قيمة لم يرد الإسلام في مجموعه الاعتراف بها .فإذا قال معظم الفقهاء المسلمين إن الإسلام عقلاني ، فذلك لأنه لا يقترح أي "غموض" أو"سرّ مقدس" ، عكس المسيحية ، وكذلك لأن الله نفسه يجادل في القرآن و يسأل الناس أن يفكروا ، بالوسائل المتاحة لهم، حول الحجج الإلهية . أما المعتزلة فسيذهبون أبعد من ذلك : فبالنسبة إليهم توجد حقائق عقلانية ، وضرورات جوهرية يمكن للعقل أن يكتشفها من تلقاء نفسه ، وهناك قيم الخير والشر التي تبنى على هذا العقل و التي يمكن للإنسان أن يعرفها دون أي وحي خاص. ومن المرجح أن الاعتزال كلاهوت نشأ بين مؤمنين لهم ثقة مطلقة في الوعد و الوعيد الإلهيين التي أعلن عنهما الله في القرآن. . فوحدة الله ووحدة القانون الموحى ، يجب أن تقابلهما وحدة ( الأمة ) ، بصفتها خير أمة أخرجت للناس بأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر. وقد دار في وقت مبكر جدا جدل بين المسيحيين والمسلمين خاصة في دائرة القديس يوحنا الدمشقي الذي جعل الإسلام "الهرطقة رقم "100 ضمن بيان الهرطقات المسيحية و تلميذه ثيودور أبي قرة . كان لهذا الجدل نتيجتان في الإسلام .فكان عليه، من جهة ، الدفاع عن عقيدة الوحدة المطلقة لله ( التوحيد ) ضد عقائد التثليث ، وثانيا ، امتلاك الأدوات المنطقية للمناقشة. فخلافا لأولئك الذين رفضوا رفضا صريحا كل ما هو غريب على الإسلام بصفته يخلو من أي قيمة ( الاتجاه الحنبلي ) ، أراد المعتزلة أن يصارعوا و يوفروا الوسائل لذلك . وقد رحبوا بالفلسفة اليونانية حين ترجمتها، نتيجة لمناظراتهم مع المسيحيين،وعلى الرغم من أنهم لم يكونوا فلاسفة ، فإن لهم علاقة بها، فقد انتقد عدد من الفلاسفة نظرياتهم . كما كان خلاف المعتزلة مع الثنويين والمجوس فتح لهم آفاقا جديدة، وكذلك خلافهم مع الرافضة، جعلهم يقرؤون فلسفات خصومهم، كما فعل أبو الهذيل العلاف . وقد كان للمعتزلة اعتماد كبير على القرآن ، وإنه لمن الخطأ أن نجعل منهم " المفكرين الأحرار" في الإسلام .
وهكذا يقول الفيلسوف يوسف زيدان " صرت اليوم أوقن، أن علم الكلام هو من حيث جوهره اللاهوت العربي، وقد بدا في ثوب جديد. غير أنه لم يكن في زمن الآباء الأربعة المؤسسين، قد صار إسلاميا خالصا بعد، حتى نتأت مشكلة مرتكب الكبيرة، التي طرحتها الظروف العامة في مطلع القرن الثاني الهجري، مع انتشار مذهب الخوارج القائلين، بأن مرتكب الكبيرة كافر. وبالتالي فإن الحلّ المعتزلي للمشكلة، أعني قولهم بالمنزلة بين المنزلتين، يعدّ أول اجتهاد "كلاميّ" إسلامي القالب، لأنه ارتبط بالواقع المعيش للمسلمين في تلك الفترة؛ بينما كانما سبقه من أفكار واجتهادات كلامية -لاهوتية، إنما هو امتداد للمشكلة الكريستولوجية - الثيولوجية، التي كانت مطروحة على مائدة البحث اللاهوتي، في المنطقةا لتي ظهرت فيها بواكير الكلام، لدى هذه المجتمعات (العربية الثقافة) ، التي كانت مسيحية خالصة، ثم صارت مزيجا من المسيحية والإسلام ثم غلب الإسلام هناك وسادت اللغة العربية وعلت بسرعة، فأبادت الأصول الأولى وطوت النصوص القديمة (السريانية، اليونانية) التي كانت تضم الاجتهادات اللاهوتية- الكلامية، التي قدمها قبلا، المفكرون الكنسيون من ذوي الأصول الثقافية العربية، وصار من بعدها الكلام "االلاهوت" عربيا".
ونختم هذه الرحلة الشيقة، الشاقة، الثرية، المفيدة ، الطويلة في" كتاب اللاهوت العربي وأصول العنف الديني" الذي شغفنا به ، بكلمة يوسف زيدان :"إن كل ما هو (عربى) لابد له أن يرتد لفظه، وبالتالى وعينا به، إلى صيغة الفعل الماضى. فلا شىء (أصلى) فى الحاضر المضارع، ولا شئ يحدث الآن، أو سوف يحدث مستقبلاً، إلا وأصله ومعناه كامنٌ فى جذره، الذى يأتى على صيغة فعله الماضى، وإلا فهو غير عربى. " من كتاب (كلمـــات... التقاط الألماس من كلام الناس)



#حذام_الودغيري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصيدة للأب فينتشينزو ريتشو (مترجمة عن الإيطالية)
- قصيدة للأم إيدموندو دي أميتشيس ( مترجمة عن الإيطالية)
- قراءة في اللاهوت العربي وأصول العنف الديني للدكتور يوسف زي ...
- برتولد برخت حياة جاليليو (الفصل 1، المشهد 1) عن الإيطالية ( ...
- ألدا ميريني قصيدتا -ليدا - و - فانّي- (مترجمتان عن الإيطالية ...
- لوتشو دالاّ كاروزو (الأغنية الشهيرة) عن الإيطالية
- إدموند روستان، - سيرانو دو برجراك- (الفصل 2، المشهد 8) ( متر ...
- قصيدتان ل ألدا ميريني ( مترجمتان عن الإيطالية)
- قصيدة -شاعرة- ل إيلدا ميريني (مترجمة عن الإيطالية)
- قصيدة -حبّ- بابلو نيرودا (مترجمة عن الإيطالية)
- قصيدة -الحب- لويس أراغون (مترجمة عن الفرنسية)
- لماذا تنبغي قراءة -اللاهوت العربي وأصول العنف الديني- للدكتو ...
- حول التحقيق مع الدكتور يوسف زيدان أمام نيابة أمن الدولة العل ...
- حبٌّ لا يسكن نفساً حرّة، لا يُعَوّل عليه... قراءة في - ظل ال ...
- نظريات الحب من خلال - مأدبة - أفلاطون
- قصيدة -جُمَلٌ سَلْبِيّة لِبذْرَةِ عُبّادِ شمس- للشاعر الصيني ...
- لمحة عن تطوّرات الشعر الإيطالي الحديث
- الصرخة ( II ) ألان جينسبيرغ ( ترجمة عن الإنجليزية)
- الأصدقاء ل دينو بوزاتي ( ترجمة عن الإيطالية)
- امرأة ككل النساء ورجل يقدّس الحياة قراءة في النبطي للدكتور ي ...


المزيد.....




- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حذام الودغيري - قراءة في -اللاهوت العربي وأصول العنف الديني - للدكتور يوسف زيدان تتمة