|
حادثة أبي طاهر التي لاتصدق
رياض خليل
الحوار المتمدن-العدد: 3488 - 2011 / 9 / 16 - 17:09
المحور:
الادب والفن
حادثة أبي طاهر التي لا تصدق قصة قصيرة من مجموعة : " القرش والأسماك" الصادرة عن دار الحوار باللاذقية عام 1995 القصة التاسعة اتصل بي صديق ، تواعدنا ، التقينا ، ليسرد لي قصة أبي طاهر التي لا تصدق ، كنا في مقهى الحجاز ، ولم يكن لدينا الوقت إلا للحديث عن أبي طاهر ، الذي اعتدنا أن نلتقي معه هنا ، على هذه الطاولة بالذات ، ونستمع .. ونستمتع بأحاديثه الشيقة ، عن المشاكل اليومية التي يصادفها مع المواطنين المراجعين ، وعن مصطلحات .. ليس من السهل فهمها بالنسبة للإنسان العادي . كان أبو طاهر يحدثنا عن مفهوم " التضخم " و" الأوراق المالية " والقيمة الشرائية ، وارتفاع الأسعار ، كان يبسطها ، يفسرها ، يشرحها ، بحيث يفهمها حتى الإنسان الأمي . كان أبو طاهر يقول: " المسألة في غاية البساطة . النقد أو المال يمثل قيمة . مثله مثل أية سلعة ، كالذهب مثلا ، والذي هو مقياس للقيمة ، لقيمة السلع ، مقياس مادي ملموس ومحسوس لقيمة ا لسلع والنقد أيضا ، هو كالمتر بالنسبة لقياس الأطوال ، أو الغرام بالنسبة للأوزان ، إنه وحدة قياس متعارف عليها ، إنه مثل ميزان الحرارة ، وسألته مرة : كيف نقيس قيمة الذهب؟ وماهو مصدر القيمة ؟ أجاب: " العمل مصدر كل القيم ، والمقياس الأساس الفعلي ، ولكن لتسهيل عملية ا لقياس ، كان لابد من استخدام صورة ملموسة لعمل متجسد ماديا ،وليس أفضل من الذهب سلعة تصلح لتجسيد القيمة من الناحية العملية والواقعية ، وبالذهب نصنع معايير ووحدات قياس صغيرة وكبيرة متفاوتة وطبقا للحاجة ، الذهب يمكن تجزئته ونقله وادخاره وبيعه وشراءه بسهولة ،ويمكن تداوله وتبادله بسهولة ويسر مع سائر السلع " - ولماذا الأوراق النقدية إذا؟ - إنها تعبير عنه ، ويمكنها أن تكون تعبيرا عن العمل نفسه مباشرة ، وهي أسهل استخداما من الذهب ، ويمكن تكييفه مع تعاظم العمليات النقدية المتزايدة . قال صديقي: " كان أبو طاهر يرى الأوراق النقدية سلاحا ذا حدين ، فهي غير آمنه أو مستقرة من حيث القيمة . إذ أن قيمتها لاتفتأ تنخفض ، وتتآكل مع مرور الوقت ، وحصول الأزمات الاقتصادية الدورية المدمرة ، وتلك العاهة أو الآفة لاوجود لها في السلع ، كقانون عام ، أو كخط بياني ، السلع محصنة نسبيا ، ولديها مناعة ضد التضخم ، فهي ترتع أسعارها الأسمية لتحافظ على أسعارها الفعلية ، كلما حصل تضخم مالي . " . وكان أبو طاهر يضرب لنا الأمثلة فيقول: " لم تعد المسألة بحاجة إلى ذكاء وعبقرية . سل أي إنسان تجده يفهم المعادلة على طريقته الخاصة ، سل أي إنسان يقول لك : كل شيء يرتفع سعره ، والعملة تنخفض قيمتها بنفس المقدار . " . وتابع: " السلعة التي كان سعرها عشر ليرات ، صارت بمائة ليرة ، يعني هذا أن المائة ليرة صارت تساوي عشر ليرات . كان سعر غرام الذهب أقل من خمس ليرات ، أي دولار واحد ، أو قريبا من هذا ، وكان الموظف الذي يحصل على راتب مقداره مائتا ليرة ، يستطيع أن يشتري براتبه أربعين غراما من الذهب ، أي أربعين دولارا حسب سعر الدولار المذكور أعلاه ، والأربعين غراما من الذهب تساوي حاليا .. في هذه الأيام حوالي عشرين ألف ليرة سورية ، وبالنسبة للدولار فقد تضخم عشر مرات ، بينما الليرة فقد تضخمت مائة مرة ، وأردف أبو طاهر قائلا: " من كان راتبه الآن أربعة آلاف ليرة ، يستطيع أن يحصل مقابلها على ثمانية غرامات من الذهب فقط ، أي أن راتبه انخفض كقوة شرائية بمقدار الذهب من أربعين غراما إلى ثمانية غرامات ، أي انخفض خمس مرات . فتخيلوا الفرق . واعلموا أن هذا ينطبق على كل السلع من الإبرة إلى السيارة والمنزل والأغذية وكل شيء . إننا نحصل الآن من الناحية الإ سمية على عشرة أضعاف راتبنا القديم ، أما من الناحية الفعلية ، فإن المعادلة مقلوبة تماما وبشكل محزن ومفزع ومفجع " . كم كنت رائعا يا أبا طاهر ! قال صديقي معلقا . قلت : إنني لا أصدق ما حصل ، رجل مثل أبي طاهر مستحيل أن يفعلها . وقال صديقي: ولكنك لو علمت شيئا عن ظروفه ، إذن لصدقت واقتنعت ، كانت لديه الدوافع الكافية لذلك . قلت: شوقتني كثيرا يا صديقي ، بودي لو أعرف . استرسل صديقي بحديثه عن أسرة أبي طاهر ،وحياته العائلية ، فقال: - هل تعرف أين يسكن أبو طاهر؟ - أين؟ - في منطقة " نهر عيشة" العشوائية . بيته لا يرى الشمس . غرفتان وممر ضيق وحمام في داخله مرحاض ومطبخ عرضه متر ونصف المتر ، وطوله متران . 2 - ألا تعمل زوجته؟ - إنها ربة منزل وحسب . فقط أبو طاهر يعمل موظفا في المصرف" البنك" كما تعلم ، ولامعيل لأسرته سواه . - كم ولدا له؟ - بنتان ، وصبي وحيد ومريض . البنت البكر عمرها ثلاثة عشر عاما ،وتدعى: نجاح . بعدها يأتي الصبي طاهر ، وعمره عشر سنوات . أما الصغرى فعمرها ثمانية أعوام ، واسمها فريحة . أم طاهر ، زوجة أبي طاهر، هي بنفس الوقت ابنتة خالته خديجة : سيدة درويشة وطيبة القلب . - وما مرض طاهر؟ - إنه مصاب بورم مجهول في رأسه ، يشكو ألما في رأسه دائما ، وكل يوم يزداد الألم ، ويتفاقم المرض ، مؤثرا على مجمل صحته ونشاطه - ما رأي الأطباء؟ - عرضه على الأطباء ، وأدخله المشافي الحكومية ، والخاصة ، قالوا : إنه بحاجة إلى عملية جراحية في الجمجمة ، بأسرع ما يمكن ، وأن أي تأخير يزيد الأمر سوءا وصعوبة وخطورة على حياته ، وأن المرض يتفاقم باطراد ، ويؤثر على بنية الطفل ونموه الجسدي والعقلي ، ويقصر حياته بشكل متسارع . - حتى الآن لم أفهم المشكلة - العملية تحتاج للدقة ولأدوات لاتتوفر في المشافي الحكومية كما يجب ، عدا عن الدور ، عليه أن ينتظر الدور - يعني أنه قد يموت قبل أن يأتيه الدور لإجراء العملية ! - هنا المشكلة ، وفي المشافي الخاصة ستكلف تلك العملية الكثير ، وإمكانات أبي طاهر لاتتحمل مثل هذا العبء المالي الضخم - كم تكلف؟ - سبعون ألف ليرة سورية - ليستدن - حاول جاهدا بلا جدوى - ليبع أثاث بيته - لايكفي - ليبع البيت - البيت ليس ملكه ، إنه مستأجر - من يعاشر أباطاهر لايخمن إنه يعيش هذه الحالة المأساوية ، إنه كثير الابتسام والضحك ، وصاحب نكتة ، ينشر حوله جوا من السعادة والمرح بأحاديثه وفكاهاته اللطيفة ، بئس تلك الحكاية التي لا تصدق . - خسارة يا أبا طاهر - لقد فقد أعصابه - من منا لايفقد أعصابه أحيانا؟ - بل قل : من منا يستطيع أن يمسك أعصابه ، ويتمالك نفسه في هذه الحياة الصعبة ، المزدحمة الإثارة والاستفزاز ؟ - فعلا ، إنها لمفارقة أن يعيش شخص بين أكداس من الأوراق النقدية ، وبنفس الوقت يعاني من الفقر المدقع ، من المرض والبؤس . موظف في مصرف ، ولا يملك ما يعالج به وحيده - إن تصرفه أدى إلى خسائر جسيمة ، تكفي لعلاج مئات المرضى - حادثة غريبة! أظن أنه بالغ في تصرفه - غدا سيمثل أمام المحكمة - هل ستحضر؟ - طبعا .. لن أفوت هذه الفرصة - إذن سنحضر معا ، ستكون محاكمة مثيرة وطريفة في اليوم التالي .. ذهبت وصديقي إلى القصر العدلي ، لنشهد المحاكمة . دخلنا القاعة ، كانت تغص بالحضور ، ورأينا أبا طاهر يقف خلف القضبان مبتسما . كانت الساعة العاشرة والنصف صباحا ، عندما فاجأنا صوت قوي ، ارتفع مدويا في القاعة : " محكمة" . ونهض الجميع وقوفا ، تحية لهيئة المحكمة ، التي اتخذت مجلسها خلف " القوس" (منصة القضاة) . 3 بعد سلسلة الأسئلة التقليدية الموجهة لأبي طاهر ، عن هويته وأحواله الشخصية ، وطلب قسم اليمين ، بدأت المحكمة بطرح الأسئلة المتعلقة بالحادث ، على المتهم أبي طاهر : " أمين بن عبد الغني الشريف" ، متزوج . له ثلاثة أولاد . عمره أربعون . موظف في المصرف . انطلق أبو طاهر مرافعا عن نفسه بنفسه ، وقال: " إنسانيتي تمنعني من الاعتداء على بني البشر . أخلاقي تمنعني من ارتكاب أية جريمة أو جنحة شائنة ، كالسرقة أو الاختلاس . لقد عشت حياتي وأنا أرى الإنسان عدوا لنفسه ، وربما لبعض بني جنسه ، الإنسان يلهث وراء الأشياء التي تؤذي صحته ونفسه وروحه وأخلاقه وعقله ، كالتدخين وتعاطي المخدرات والقمار والتهريب وبيع الذات وتقديس المال وهلمجرا . ابني الوحيد طاهر مريض ، وأنا أعيش بين أكداس من المال والأوراق النقدية ، دون أن أستطيع أن أمد يدي إليها وآخذ منها حاجتي الملحة لمعالجة ولدي الوحيد طاهر ، شعرت يوما بعد آخر بأن المال والأوراق النقدية هي المسؤولة عن إنقاذ ابني الوحيد ، وعن كل مايجري من جرائم ومآسي لبني البشر، للفرد والأسرة والمجتمع والعالم ، سيطرت علي الفكرة ، كنت كل يوم أتجول بين أكوام الأوراق النقدية ، وكنت أشعر بها كالمرض أو الوباء الذي لاشفاء منه . أحسست أنها تتحول تدريجيا إلى كائنات حية .. مخيفة . بدأت تبدو لي كالثعابين والعقارب والوحوش المفترسة من كل الأنواع ، بدأت تتحداني ، تتربص بي ، تهددني ، تحاصرني ، تهدد حياة طاهر: ابني الوحيد . وحاولت سدى أن أتحاشاها ، أن أهرب منها ، ألحت على مطاردتي في اليقظة والنوم ، وفي كل مكان ، أحسست بها توشك أن تفترسني وابني ، وتسحق عظامي بأسنانها الحادة ، ومع ذلك كنت أفتش عن أي حل آخر ، لولا أنها تطاولت على ابني طاهرالوحيد ، نعم رأيت النقود تتحول إلى أشباح ، إلى تنين متعدد الرؤوس ، يزحف نحو ولدي ، يلفظ من شدقيه جحيما ، ثم لم أدر كيف انتفضت ، وتلبستني قوة أسطورية ، شعرت بنفسي عملاقا .. ماردا بحجم الجبل وصلابته ، نهضت لأضرم النار ، لأقذف الجحيم في وجه تلك الوحوش الشيطانية الطاغية . النار تطهر .. تدمر ..تلتهم كل شيء ، عدا ولدي طاهر ، دخلت المعركة الضارية بشجاعة فائقة وانتصرت ، كانت حربا ظالمة فرضت علي ، ولكنني انتصرت .. انتصرت ، وتلك النهاية المحتومة لأي عدوان غاشم غادر على بني البشر ، على السيد الإنسان ، ملك المكان والزمان والبلدان ، الإنسان الذي لايجوز أن ينتصر عليه أي شيء ، لايجوز أن يقهر ويهزم ، لايجوز أن تمس حريته وكرامته وسيادته . ذهب أبو طاهر إلى السجن ، بينما جرت عملية طباعة أوراق مالية عوضا عن الأوراق التي التهمتها نيران أبي طاهر . انتهى 22/10/1994
#رياض_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الخناس: شعر
-
المسافة: قصة قصيرة
-
رجل تحت الأنقاض
-
إنها سيدة محترمة : قصة قصيرة
-
كوني فأكون: شعر
-
سوسن وعيد الأم
-
القرش والأسماك
-
ابتسامات دعد
-
المفترسان
-
الولادة الأخيرة : قصة قصيرة
-
موجة عابرة في سطح صقيل
-
ولكن غدا لم يأت
-
جريمة في ملف النمرود: قصة قصيرة
-
الولادة: قصة قصيرة
-
ستعودين:قصيدة
-
المتقمصة: قصة قصيرة من مجموعة الريح تقرع الباب 1976
-
يحدث هذا حبا : قصة قصيرة
-
عيّودا: قصة قصيرة
-
ماوراء هموم امرؤ القيس
-
لماذا رجعت إلى الحزن
المزيد.....
-
مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز
...
-
الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
-
اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
-
نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم
...
-
هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية
...
-
بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن
...
-
العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
-
-من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
-
فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
-
باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|