أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد مضيه - يسفهون الرواية الصهيونية















المزيد.....


يسفهون الرواية الصهيونية


سعيد مضيه

الحوار المتمدن-العدد: 3323 - 2011 / 4 / 1 - 14:50
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يسفهون الرواية الصهيونية 3
مع شلومو ساند في كتابه اختراع الشعب اليهودي الحلقة الثانية


في الحلقة السابقة تمت مقاربة البروفيسور شلومو ساند في كتابه اختراع الشعب اليهودي ، عبر الفصول التي يرصد فيها نكوص الحركة الصهيونية عن أفكار التنوير والعقلانية ، وصمته عن وقائع تاريخية برزت خلالها دول اعتنقت شعوبها الديانة اليهودية ولم ينتسبوا للإسرائيليين. والحلقة الثانية تقارب من الكتاب الفصول التي تملأ فراغها الفكري بالميثولوجيا والخرافات.
في الفصل الثاني "الميثو تاريخ" يكشف ساند كيف استعانت الصهيونية وحكومات إسرائيل بعناصر دينية معجونة بالخرافة بديلا لمعطيات التنوير والعقلانية . راحوا يلملون سقط الفكر ويلتقطون زوان المعرفة لينسجوا منها تاريخ "الأصل الواحد الضارب في القدم ذي الجوهر الإثني الصلب والراسخ ولا يتغير على مر التاريخ". يلاحظ الباحث أنه لم يسجل عبر العصور القديمة والوسطى تاريخ لليهود بأيدي يهود. "من ناحية عملية ظل كتاب التوراة الكتاب الأبرز لدى القرائين في الماضي البعيد ولدى البروتستنت حتى بداية العصر الحديث. أما التناخ فكان بالنسبة لمعظم اليهود على مدار سنوات بمنزلة الكتب المقدسة الإلهية التي لم تكن قابلة للإدراك تماما من ناحية روحية ، بالضبط مثلما أن الأرض المقدسة لم تكن تقريبا في مخيلهم الديني جزءا واقعيا وحقيقيا من فضاءات الحياة على وجه الأرض.[109].
اكتُفي بأسفار التوراة ، حيث اقتصرت التوراة على اليهود فقط، إلى أن جاءت مرحلة الإصلاح الديني، حيث "أضفى البروتستنت على العهد القديم هيبة وقيمة إضافيتين تعاظمتا بشكل خاص لدى الكنيسة الأنغليكانية والمنشقين عنها"[99]. سيطر على المثقفين اليهود اتجاهان متناقضان: رغبة في الاندماج وأخرى في الاحتفاظ بالخصوصية الثقافية وقوامها الميثولوجيا. شرع المؤرخون اليهود في العصر الحديث يتناولون التاريخ اليهودي من حقب متأخرة . في العام 1820 ظهر الجزء الأول من كتاب المؤرخ الألماني اليهودي ، إيزاك يوست (1793ـ 1860) ، وأسماه "تاريخ الإيزرائيليتيم منذ أيام المكابيين وحتى يومنا" ، والإزرائيليتيم تسمية أطلقها على أنفسهم ألمان وفرنسيون من أتباع موسى. قفز يوست من حقبة التناخ إلى فترة الحشمونيين" [100]. ومن وجهة نظر يوست ومجايله المؤرخ زونز (ليوبولد1792ـ 1886) فالتاريخ اليهودي بدأ بالعودة إلى صهيون من بابل . في تلك الفترة بدأت تنبثق اليهودية التاريخية ـ الدينية التي يكمن مصدر تبلورها الثقافي في حقبة المكوث في المنفى [102]. إلى أين عاد اليهود ومن أين أخذوا إلى النفي الأول؟ بقيت مسلمات رهينة بالفكر الاستشراقي ولم يتم التدقيق في تلك الحقبة التاريخية؛ حتى المؤرخون العرب واصلوا الأخذ بالتأويل الاستشراقي. اكتسب اليهود في بلاد فارس ثقافة متقدمة دخلت في مضمون التوراة البابلية فجاءت أكثر تقدما من التوراة الأورشليمية. وأي أورشليم ؟ فقد كان باليمن ثلاث مدن تدعى أورشالم والقدس . ومازال بعضها يحمل الاسم حتى الوقت الحاضر.
تأثر المثقفون بالتنوير واستلهموه في إدخال إصلاحات على الديانة اليهودية[103] . ومن جهة ثانية استلهم الإزرائيليون توجه البحث في إرث الماضي . "وعلى غرار النهوض الثقافي للبحث عن الأصول لدى قوميات أوروبا ، وجهت البراعم الأولى نحو القومية اليهودية ازدهارها صوب الضوء الساطع المنعكس من مملكة داوود الميثولوجية ، والذي احتفظ بقوته طوال مئات السنين في شواحن العقيدة الدينية[110]. أغلب أنصار الإصلاح في القرن التاسع عشر ومنهم أبراهام جينجر (1810ـ 1874) "أدركوا أن الكتب الدينية قد كتبت في أزمنة مختلفة على أيدي مؤلفين مختلفين ولا توجد لنصوصها ثبوتات خارجية(..)تعلم اليهود في بلاد فارس واكتسبوا من الفارسيين وجهة نظر دينية جديدة ونمط حياة. كلمة "دات" وتعني دين أصلها فارسي. في نظر يوست "ليس ثمة كيان قومي يفصل ما بين اليهود وغير اليهود. ومن حقهم أن يتمتعوا بحقوق متساوية كسائر الطوائف والمجموعات الثقافية الأخرى" [104].
نظر الفكر التنويري إلى الإنسان بأنه " لا ينطوي على الشر" لأن الشر ليس جزءا من الطبيعة البشرية؛ وبذا أسقط فكرة الخطيئة الأولى التلمودية، وبين أنها لا تستند إلى أساس محسوس. الإنسان ظاهرة سوسيولوجية والحضارة والمجتمع ليسا معطيات مقدسة بل نتاج التاريخ. "عملت الحداثة على إقصاء الحقيقة المطلقة الإلهية من مكانتها الرفيعة وانحسر تقديس الحقيقة "[99].
تجاوب اليهود مع التحديث وانخرطوا في الحركة العقلانية (الهكسلاة) ومعناها التنوير."الأفكار المسيحية ساعدت الإصلاحيين على تخليص التراث اليهودي من قبليته ومن تاريخيته . انفتحت الإصلاحية اليهودية على التاريخ الإنساني [67]. تطورت الحركة الإصلاحية من 1750 إلى 1880. "كان موشى مندلسون أول دعاة التنوير اليهودي؛ أنكر أن اليهودية دين سماوي بل مجموعة قوانين أخلاقية. ترجم أسفار موسى الخمسة إلى الألمانية كي يطلع عليها اليهود العاديون، وكتب تعليقا مستنيرا عن الكتاب المقدس" [ 63]؛ كما أصدر مجلة ثقافية تنشر ثمار الثقافة الإنسانية بالعبرية وطالب بمنح كل فرد حرية العقيدة ليعمل ما يشاء حسب ما يمليه عليه ضميره الأخلاقي[ 64]. بلغ التيار الإصلاحي أقصى مداه في قرارات مؤتمر بيتسبرغ (1885)، حيث قرر أن الكتاب المقدس ليس من صنع الله ، بل هو وثيقة من صنع الإنسان. وتضمنت فكرة الإصلاح استبعاد العناصر القومية من الدين اليهودي، التي تؤكد انعزال اليهود . ركزت الإصلاحية على الجوهر الأخلاقي للتلمود . نادى ابراهام جينجر بحذف كل العبارات التي تشير إلى خصوصية الشعب اليهودي من الطقوس والعقائد والأخلاق والأدب؛ رفض الإصلاحيون فكرة عودة المشيح، وأحلوا بدلها فكرة العصر المشيحاني ، حيث يحل فيه السلام والكمال . سيأتي العصر المشيحاني من خلال التقدم العلمي والحضاري وسيؤدي إلى خلاص الجنس البشري كله[ 66] . يلاحظ هنا تأثير المسيحية بروحها الإنسانية. اعتقد هولدهايم أن الدين أداة أبدعها الإنسان من أجل تطوير المجتمع البشري ؛ وهو كأي أداة لابد أن يواكب التطور ، وأن يعدل من آونة لأخرى . كانت تقاليد اليهودية ولاهوتها ملائمة للماضي ؛ لكنها فقدت صلتها بالواقع الراهن ، ولا بد من تطويرها[ 65]
بعد ذلك انتكست أفكار الإصلاحية الدينية وانزوت في عتمة الغياب. والغريب أن البروفيسور شلومو ساند يغيب تماما أثر بروز المرحلة الامبريالية، حيث أخذت تنتشر المسيحية الأصولية المتمحورة حول عودة اليهود إلى أرض الآباء وإقامة دولة اليهود وبناء الهيكل كمقدمة محتومة لعودة المسيح. انتصر الاتجاه المنغلق للقومية في أرجاء أوروبا الغربية، ولم تعد العقلانية تحظى بالتمجيد. توطدت المصالح المتعلقة بالخرافة. فقد أسدت خرافات التناخ حول الأصل العريق لشعب المعجزات، الذي قدم من الصحراء واحتل بلادا واسعة وبنى لنفسه مملكة عظيمة.. "أسدت خدمة عظيمة ومخلصة لصعود القومية اليهودية والمشروع الاستيطاني الصهيوني" [164]. ظهر هنريخ غريتس مؤرخا من المعيار القومي المنغلق . سمى غريتس كتابه الأول " استيطان إسرائيل في البلاد وبداية تحوله إلى شعب" ركز على الرواية التناخية مبرزا الأعمال البطولية والقوة العسكرية والسيادة الرسمية وبالأساس القوة والمناعة الأخلاقية في فترة طفولة الأمة اليهودية. وجاء هيس مؤرخا يهوديا بعد غريتس. رأى هيس أن استمرارية " الأمة اليهودية" كامن في عقيدتها [115]. فلماذا أغفل ساند بدء حقبة التوسع الكولنيالي وفكرها الاستشراقي؟!
احتدم الصراع في تلك الحقبة بين الاتجاهين : في عام 1882 عالج باحث التناخ المعروف يوليوس ولهاوزن في مؤلفه " مقدمة لتاريخ إسرائيل " تراكيب قرابة مائة عام من النقد الذي حاول حل لغز مواعيد الكتابة المختلفة لسفر الأسفار. فمن خلال تحليل فيلولوجي بارع بدا يشكك في جزء من قصص التناخ كتبت بعد مرور زمن طويل على الأحداث الموصوفة فيه. فصيرورة الديانة اليهودية كانت ، حسب رأيه،عملية متدرجة وتطورية ، وأن كل جزء من الأجزاء الخمسة يعبر عن مواعيد فترات مختلفة[124].
هوجمت أفكار ويلهاوزن من قبل غريتس والقوميين اليهود . وكان ما أغاظهم قول المؤرخ أن التناخ كتب بعد العودة من السبي الأول، بمعنى أن مصدر إعادة كتابة التاريخ اليهودي القديم لا يكمن في ثقافة "شعب عظيم مفعم بالقوة والشموخ"؛ وإنما في طائفة صغيرة عادت من بابل..
أزعج اكتشاف أن اليهود غادروا مصر إبان سيطرة الفراعنة على فلسطين؛ فكيف إذن تمرد العبيد على المملكة وغادروها ليحتلوا أرض كنعان بالقوة؟[130].

في فلسطين برز يتسحق باعر أول مؤرخ يهودي فلسطيني استبعد النصوص التناخية التي تصف بدايات الأمة ـ فترة الآباء وفترة جبل الصحراء. وقال أن الوصف المثالي لليهود يتحلقون في الصحراء حول " خيمة الاجتماع" وسحابة الله التي تسير أمام المخيم لا يمكن أن تكون حقيقة. وبرز المؤرخ دينور أول وزير تربية في حكومة بن غوريون. ويمكن القول أن المؤرخ دينور جعل من الكتاب المقدس بعد أن جرده من الميتافيزيقيا الإيمانية ،بمثابة عقيدة قومية صرف. [145] أخضع اللاهوت بأكمله لعملية غربلة ؛ فيما استبدل كلام الله الذي يرد في كل صفحة تقريبا من صفحات التناخ ببعض المصادر غير التاريخية التي ورد ذكرها.
شارك دينور في منتدى الآثار الذي اعتاد بن غوريون الالتقاء به في بيته. استخدم بن غوريون بذكاء الكتاب المقدس كتابا علمانيا ـ قوميا يشكل منهلا مركزيا لتصاوير ماضوية جماعية ويساهم في تحويل مئات ألوف المهاجرين الجدد إلى شعب موحد متكاتف ويربط الأجيال الشابة بالأرض. لم يكن صدفة أن يتمركز النقاشات الصاخبة حول سفر يوشع . شارك بن غوريون في اجتماعات علنية حول التناخ وساهم في مبادرة لمسابقة حوله تحولت إلى مهرجان قومي إعلامي. كما شجع زخم الحفريات الأثرية[147] . ركز بن غوريون على إبادة يهوشع للعمالقة في أرض كنعان.
"إن هذا يدل على مركزية ’ الميثة التاريخية‘ التناخية في الهندسة الإيديولوجية الصهيونية. فلو تأملنا كتاباته ’ تأملات في التناخ‘ فلسوف نندهش من أسلوبه الكتابي المرن الذي يتراوح بين البراغماتية السياسية المراوغة وبين الإيمان الصادق والخاص في ’الحقيقة‘ الماضوية. وصرح مرارا وتكرارا بأن سفر الأسفار هو هوية الشعب اليهودي وهو البرهان لصك الانتداب على ’أرض إسرائيل‘".[148]
وفي نظر موشيه دايان فالتناخ يشكل التبرير الأسمى للتواجد والاستيطان اليهودي في العصر الحديث. ومن هنا فإن كل معركة إن هي إلا صدى لأفعال قديمة . وينتهي الكتاب إلى التعبير عن تعطش مكشوف لأن تكون إسرائيل مشابهة لمملكة داود ، القوية ، والعيش في أرض إسرائيل واحدة تمتد من النهر إلى البحر ، ومن صحراء سيناء وحتى الحرمون ( جبل الشيخ)[152] .
في العام 1964 أصدر عالم الآثار البروفيسور أهروني أطلس كارتا لحقبة التناخ . رسم بدقة متناهية تحركات الشخصيات المركزية في التناخ : ترحال إبراهيم وترحال يعقوب وخروج مصر ، تسلل الجواسيس إلى أرض كنعان، تقاذف " تابوت العهد" ، تحركات جيش داوود، طرق تجارة مملكة سليمان،مع المكتشفات الأثرية غير التناخية لترسم تواصلا كرونولوجيا مدهشا. ولعله ليس غريبا أن يكون أهروني من أوائل الموقعين على أرض إسرائيل الكبرى، بعد حرب حزيران. [155]
غير أن الفرحة الغامرة لدى أهروني وزملائه بدأت تذوي مع تقدم البحث. تمردت بعض المكتشفات الأثرية على النص المقدس ، غير أن علماء الآثار قاموا جريا على عادتهم ، بحل المشاكل بطريقة تبريرية محكمة استنطقوا فيها المعطيات الصماء كما يحلو لهم ولاءموها كي تتناغم مع الأصوات المتنفذة القادمة من التناخ[155]. ففي مناطق الجبل المركزي جبل منشيه وجبل أفرايم وفي محيط القدس وجبال يهودا اكتشفت معطيات أكدت بعض المخاوف والظنون،التي تولدت في السابق إثر حفريات جرت في مواقع سابقة[156].....
أخذ علم الآثار التناخي يشهد انحسارا متزايدا في مكانته المهيمنة . وظهر اتجاه نقدي أكثر انفتاحا في الساحة الإسرائيلية العامة ، وهو ما دفع بعض الباحثين عن الآثار أيضا إلى إسماع صوتهم الأجش علنا . فلغاية ذلك الوقت كانت حناجرهم مليئة بالتراب القومي المقدس[157].
باحثون غير إسرائيليين ، وعلى رأسهم الفرنسي الجريء توماس تومبسون،أدركوا في مرحلة مبكرة جدا انعدام المنطق في هذه التأرخة المربكة . والكثير من الأسماء في سفر التكوين ظهرت في القرنين السادس والخامس. ومن المؤكد أن كتبة هذا السفر عرفوا بابل وآشور اللتين أقيمتا بعد " العليا" المقدرة في القرن العشرين قبل الميلاد بفترة طويلة[159].
"ولحسن الحظ لم تجد ميثة الاستيطان الدموية ، والتي وصفت بحيوية صارخة في سفر يوشع كواحدة من عمليات الإبادة الجماعية الأولى في التاريخ لا أساس لها من الصحة. وهكذا فإن احتلال أرض كنعان المعروف كان الميثة التالية التي هزمت تماما بواسطة معارك علم الآثار الحديث"[160]. الحفريات الأثرية التي جرت في القدس في سبعينات القرن العشرين ، أي بعد قيام حكومة إسرائيل توحيدها " إلى الأبد" كانت مربكة للخيال الماضوي الفخور. لم يتم العثور في سائر المواقع المدشنة حول الأقصى بقايا أو لآثار تدل على وجود مملكة مهمة في القرن العاشر قبل الميلاد. وهو العصر المقدر لحكم داوود وسليمان. لم يكتشف أي شاهد على بناء عظيم ؛ ولم يكن هناك أسوار ولا قصور فخمة[161]. الحفريات الحديثة التي جرت في أريحا عاي وحشبون، تلك المدن " الحصينة " و "القوية" التي قيل إن بني إسرائيل احتلوها وسط نفخ الأبواق وإطلاق صيحات النصر أكدت مجددا معطيات معروفة : في نهاية القرن الثالث عشر ق.م كانت أريحا قرية صغيرة بائسة وبالقطع غير محصنة بالأسوار.
"التناخ بدأ نصا أملاه الرب على موسى ُ، ثم صار تحت النقد كتابات سجلت في أزمنة مختلفة وأخيرا فسر بأنه من خلفية فارسية أو حتى هلينية ؛ ولكن من المشكوك فيه أن تقيض لنا معرفة أكيدة لأزمنة الكتابة ولهوية أولئك الكتاب المجهولين"[165].
في الفصل الخامس يبين البروفيسور ساند كيف عوض الإسرائيليون الشكوك في صحة التوراة بتفخيم مصطنع عبر علوم الوراثة المزيفة . تم إقصاء ـسياسة الهويات في إسرائيل؛ من ناحية عملية كانت الصهيونية بين العام 1897 ، المؤتمر الأول للحركة، وانتهاء الحر ب العالمية الأولى تيارا هزيلا داخل الجاليات اليهودية في العالم.[327]
فالقومية اليهودية أخذت على عاتقها مهمة شبه مستحيلة ؛ "فقد سعت إلى صهر شعب عرقي واحد موحد من مزيج من الوحدات ’الإثنية‘، بمعنى مجموعات ثقافية لغوية من أصول مختلفة متنوعة . من هنا يفسر تبني التوراة ككتاب ذاكرة قومي ممتاز(...) تناسوا وغيبوا عمليات التهويد الجماعية التي صاغت بداية طريق اليهودية، التي بفضلها ـ عمليات التهويد ـ تعاظم دين موسى سواء من الناحية الديمقراطية أو من الناحية الثقافية[331].
"تبنى هنريخ غريتس ، أبو القومية اليهودية ، ثم موشيه هيس الاتجاهات العلمية في عصرهما؛ ولاسيما الاتجاهات الانثروبولوجية المادية ومزجها في ما يشبه نظرية هوية ذاتية جديدة." والعلم العنصري الذي أخذ يتطور في مرحلة الامبريالية في سائر مختبرات المعرفة في اوروبا، تغلغل في حيزات القومية المركزية الإثنية وكذلك داخل مراحل الساحات العامة، و صار جزءا من النسيج الإيديولوجي لحركات سياسية جديدة، ومنها الحركة الصهيونية(..) أحرز العلم البيولوجي نجاحا ملموسا في الحركة . وكان العامل الوراثي إلى حد كبير شرطا ضروريا لتسويغ مطلب السيادة على فلسطين.. الوعد الإلهي لم يكن مقنعا بالنسبة للدعاة العلمانيين؛ أدخل نتان بيرنباوم (1864 ـ 1937) مفهوم العرق. واللغة في نظره لا تفسر نشوء القوميات ؛ إنما البيولوجيا[ 333،334].
أسهم نورداو، وهو من كبار المثقفين الصهاينة ، ونصير متحمس لهيرتزل، في "تعزيز المنحى البيولوجي"، وركز على تقوية العضلات من خلال العمل الزراعي [335]. وبعده "ركز مارتين بوبر ، الذي عمل سنوات رئيسا لتحرير مجلة (دي فيلت) التابعة للحركة الصهيونية وبدأ حياته كداعية للدم(تسلسل بيولوجي عبر الأجيال) ثم انقلب إلى داعية لدولة يهودية ـ عربية (من أنصار آينشتين)[336]. واستوت النظرة العنصرية للصهيونية على ركائز بيولوجية في فكر زعيم جناح المراجعة المتطرف في الحركة زئيف جابوتينسكي. كان متعطشا للقوة والعنف. روج لفكرة وجود دم يهودي مخصوص يميزهم عن الآخرين[337]. (اليهود هم اليهود والعرب هم العرب والبحر هو البحر) . فالوراثية تستعصي على التغيير في نظر الفكر العنصري.
برزت في هذا الميدان البروفيسورة نوريث كيرش ، أكملت رسالة الدكتوراة بجامعة تل أبيب وخلصت إلى الاستنتاج بأن "علم الوراثة ، كما علم الآثار، مجير لخدمة الفكر الصهيوني ، حيث سعت الصهيونية لإيجاد تجانس بيولوجي بين يهود العالم، منسجمين مع الميثة الصهيونية[350].
في عام 1978 صدر عن دار نشر أوكسفورد كتاب ألفه فريق من الباحثين برئاسة آرثر مورانت عنوانه ’الخصائص الوراثية لليهود‘ وقد انتمى هذا المثقف البريطاني لطائفة اعتقدت أن البريطانيين هم أحفاد الأسباط العشرة المفقودين؛ وعلى غرار علماء الآثار التوراتيين "لاءم علمه الأنثروبولوجي ـ الوراثي مع الرواية التناخية" [351]. وبالنتيجة خرجت الفكرة الصهيونية حول الشعب اليهودي العرقي إلى حيز الوجود كعلم أحياء واضح وموثوق. ومثلما فرض في الجامعات علم تاريخ لليهود صار هناك علم يدعى "علم وراثة اليهود"[352].
وفي عام 1981 وقع الاختيار على إسرائيل لاستضافة المؤتمر الدولي السادس حول علم وراثة الإنسان، وتم اختيار البروفيسورة بات شيفع بونا تامير(نشرت مقالاعنوانه " نظرة جديدة على علم الوراثة لدى اليهود) سكرتيرة للمؤتمر[353].
شاعت بعد اتفاق أوسلو ثم سحبت من التداول "اكتشاف" يثبت أن الفلسطينيين واليهود لهم آباء مشتركين . وشاعت بعد ذلك هلوسات هيمنت على الأبحاث البيولوجية. ثم ظهرت رسالة دكتوراة كتبها دورون بيخار ، ونشرتها مجلة" أميركان جورنال أف هيومان جينيتيكس". أشرف على الرسالة بروفيسور كارول سكورتسكي، وهو متدين انتقل من جامعة تورنتو الكندية إلى جامعة التخنيون في حيفا. فبل الانتقال اكتشف ما أسماه " بصمة الكهنة" اقنعه بأصله السامي؛ وبناء على طلب رئيس مركز الكهنة في القدس الحاخام يعكوف كلايمان، أجرى البحث عن أصل جميع الذين يسمون كوهين. ومن مهام المركز إعداد كهنة يخدمون في الهيكل الثالث بعد بنائه على أنقاض الأقصى. والحكاية انتشرت في ظل الهلوسات العرقية المنتشرة في نهاية القرن الماضي، واكتسبت هالة غير متوقعة، وخلقت جمهورا عريضا من المؤمنين والمؤيدين اليهود في إسرائيل والعالم... أُعد بحث سكورتسكي بمشاركة علماء من بريطانيا وإسرائيل وإيطاليا ، ونشرت استنتاجاته في المجلة البريطانية المرموقة (Nature)؛ وقد أثبت البحث بما لا يدع مجالا للشك أن الكهنوتية اليهودية تأسست في الواقع على يد أب قديم مشترك عاش قبل 3300سنة، وهو ما سارعت الصحافة الإسرائيلية إلى نشره لتعم فرحة وراثية عارمة" [356]." إن أحدا من الصحفيين الإسرائيليين لم يعبأ بنشر معطيات واستنتاجات البروفيسور عوزي ريتا ، من قسم علم الوراثة في الجامعة العبرية ، والذي فحص بصورة مختلفة الجزيئات ’الكاهنية‘ لكروموزوم Y ,ولم يجد فيها أي تفرد أو تميز " [357].
وقد يثبت ’الجين الكاهاني‘ غير يهودي، نظرا لأن كهنة عديدين تزوجوا منذ القرن التاسع عشر من نساء غير يهوديات...من المفترض أن يحل ’العلم ‘ اليهودي الخالص في عصر العقل المتنور مكان العقيدة اليهودية التي عفا عليها الزمن ، والتي تحفل بالآراء المسبقة. ومن المفترض أيضا أنه بعد السقوط المدوي للأعمدة التي نهض عليها بنيان هيكل الأبارتهارد أن يعاد النظر في الإجراءات العنصرية التي نفذت على قاعدتها وأن تعاد للشعب الفلسطيني حقوقه المغتصبة.
على كل حال فهذه الاكتشافات القيمة التي قدمتها نزاهة البحث العلمي تمد الجبهة الثقافية في الصراع مع الائتلاف الصهيوني ـ الامبريالي بثروة نفيسة تجتذب إلى الحق الفلسطيني المزيد والمزيد من الأنصار والمتضامنين على صعيد العالم كله.



#سعيد_مضيه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مع البروفيسور شلومو ساند في كتابه اختراع الشعب اليهودي حلقة ...
- كيث واينلام في كتابه اختلاق إسرائيل القديمة إسكات التاريخ ال ...
- أعمدة سرابية لهيكل الأبارتهايد
- تتهتكت الأقنعة
- مصر القاطرة
- كشف المستور أم قناع للزيف؟
- هل هي حكومة حرب في إسرائيل؟
- جوليان أسانج وقانون التجسس ومأساة الزوجين روزنبرغ
- ويكيليكس وحرية العبور الإعلامي
- بين حجب الحقائق وهدر العقل الجماعي
- نقد مسمم النصال
- الانتظاريون والانتخابات الأميركية
- في ذكرى ثورة أكتوبر العظمى متى بدأ نقص المناعة ينخر جسد النظ ...
- الطريق الثالث غير عبث التفاوض وعبث العنف القاصر
- الوساطة الأميركية مشكلة وليست الحل
- ديبلوماسية إدارة الصراع وابتزاز التنازلات
- عقد حصار لا تنفع معها المواعظ
- دلالات فشل المفاوضات الجارية
- كيف نحول الأفكار إلى قوة تغيير
- الأمن الوطني مفهوم مركب من عناصر اقتصادية وسياسية وثقافية


المزيد.....




- وزير دفاع أمريكا يوجه - تحذيرا- لإيران بعد الهجوم على إسرائي ...
- الجيش الإسرائيلي ينشر لقطات لعملية إزالة حطام صاروخ إيراني - ...
- -لا أستطيع التنفس-.. كاميرا شرطية تظهر وفاة أمريكي خلال اعتق ...
- أنقرة تؤكد تأجيل زيارة أردوغان إلى الولايات المتحدة
- شرطة برلين تزيل بالقوة مخيم اعتصام مؤيد للفلسطينيين قرب البر ...
- قيادي حوثي ردا على واشنطن: فلتوجه أمريكا سفنها وسفن إسرائيل ...
- وكالة أمن بحري: تضرر سفينة بعد تعرضها لهجومين قبالة سواحل ال ...
- أوروبا.. مشهدًا للتصعيد النووي؟
- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة بريطانية في البحر الأحمر وإسقا ...
- آلهة الحرب


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد مضيه - يسفهون الرواية الصهيونية