أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد كشكار - الضريرة المستنيرة.















المزيد.....

الضريرة المستنيرة.


محمد كشكار

الحوار المتمدن-العدد: 2976 - 2010 / 4 / 15 - 19:22
المحور: الادب والفن
    


ولدت سنة 1943 بقرية جمنة بالجنوب الغربي التونسي. كانت ثانية أخواتها, طفلة جميلة و ذكية تنعم بجميع حواسها, تجري و تقفز و تلهو في المنزل و الحي مثل أندادها. أضفت الفرحة و البهجة على والديها و جيرانها. عندما بلغت 6 سنوات من عمرها, أصابها مرض الرمد في عينيها, مرض بسيط, لو عولجت طبيا بسرعة لشفيت منه تماما. لم يكن بالقرية لا طبيب و لا ممرض. أبوها كان غائبا بتونس العاصمة لظروف العمل. أشار الجيران على أمها بمعالجتها بـ"الدواء العربي" و يا ليتها ما استشارت و لا نفذت لكن من فرط حبها لها طبقت الوصفة التي تتمثل في ضمادة محشوة, أصرّ المتطبّبون أن تبيت على عينيها ليلة كاملة. ضمادة فيها ما فيها و لا أريد ذكر ما فيها لهول ما فيها. نامت الملاك المبصرة بنت الست سنوات و الضمادة على عينيها فأصبحت في الغد بنتا ضريرة لا تميّز بالنظر بين أمها و أختها و لا ترى من الدنيا إلا هالة من نور و بقيت على هذه الحالة طوال حياتها.
رجع أبوها من السفر و عرف بالمصيبة فحملها فورا إلى تونس العاصمة و عرضها على الأطباء لكن لا علاج لما أفسده الجهل و التخلف و العادات البالية. عادت إلى حضن أمها الحنون و رضيت بما كتبه الله لها و لم تنقم على أمها و لا على المشعوذين الجهلة اللذين نصحوا أمها. فقدت البصر و لم تفقد البصيرة. كبرت على الرضا بالمكتوب و التسليم بالقضاء و القدر حتى القاسي منهما. لم تشك لحظة في حب أمها و عاشت تحت جناح أرق و أجمل أم في الدنيا. غمرتها أمها بحب لا يوصف لكن لم تميزها على أختها لكثرة ما لهذه الأم من حنان و عطف لو وزعته على أمة محمد لكفاهم جميعا. لم تستسلم لقدرها رغم إيمانها القوي. كانت تقوم بكل شؤون المنزل من طبخ و كنس و خياطة رغم فقدان البصر. لا تكل و لا تمل و لا تمن علينا نحن إخوتها الصغار. كانت محترمة من القريب و الجار لفطنتها و ذكائها. لم يرضي هذا العيش الكريم طموحها فالتحقت و هي في سن الثلاثين بمعهد سيدي ثابت للمكفوفين أين تعلمت القراءة و حرفة النسيج. بعد التخرج, استقرت مع زميلاتها بمبيت معمل النسيج للمكفوفين بسوسة و اشتغلت فيه سنوات تأكل من عرق جبينها. كانت تعمل ثماني ساعات في اليوم و تتقاضى أجرا زهيدا يساوي 50 دينارا في الشهر في عهد الثمانينات و التسعينات من القرن العشرين. يخصم مدير المعمل من أجرها 10 دنانير للأكل و عشرة و للسكن و كانت راضية و قنوعة و سعيدة و فخورة بعملها الذي ضمن لها الاستقلالية و الكرامة. كان أصحاب الخير يتبرعون لها و لزميلاتها بين الفينة و الأخرى ببعض المال. يمتاز شهر رمضان في المبيت بطابع خاص, تنصب فيه موائد الرحمان من عند الرحمان, فواكه و رمان و عسل و بنان و أصناف لذيذة من الطعام من صنع أهل سوسة الخيرين و كان المشرفون المتطوعون يشاركونهن يوميا فطورهن و يعدون لهن صحو رهن.
في يوم من الأيام المفجعة اندلع حريق هائل في مخزن معملهن فاشتعل القطن الاصطناعي, المادة الأولية التي يصنعن منها ممسحة [ Serpillière ]. حريق من نوع خاص, لا تطفئه خراطيم المياه, يحترق ببطء دون انقطاع. لم تستطع الحماية المدنية إطفاءه. كان مرقد البنات يقع بجوار المخزن المحترق. دام الحريق أياما و الحماية المدنية حاضرة نهارا غائبة ليلا و من فرط حرصها على سلامة المكفوفين فقد أوصتهم بتبليغها هاتفيا لو كبر الحريق. كيف يتأنى لكفيف أن يراقب حريقا عجزت عن إطفائه مؤسسة مبصرة مختصة في الحرائق؟ و راقبنه الكفيفات بكل كفاءة. كان المخزن قبلتهم في الليل و بخشوع و قدسية كن مائة أذن ينصتن بصمت رهيب لصوت احتراق القطن الاصطناعي دون غمضة عين طوال الليل و تعرفون أن الأعمى يتمتع بحاسة سمع مرهفة تفوق بكثير مثيلتها عند المبصر لأنه يحوّل وجهة خلايا المركز العصبي للإبصار و يوظفها للسمع. عندما يرتفع هذا الصوت المتربص بحياتهن, يهرعن إلى سماعة الهاتف الموجودة في ساحة المعمل و يبلغن الحماية المدنية حتى تأتي لنجدتهن مؤقتا ثم يرجع العمال المبصرون لديارهم تاركين البنات الكفيفات تحت رحمة قنبلة قد تنفجر فيهم في أي لحظة من الليل المظلم. ظلام تعوّدن عليه طوال حياتهن و حولنه إلى نور داخلي يضئ بصيرتهن لكن لم يتعودن على نور الحريق الكيميائي المستمر الذي قد يقضي على حياتهن جميعا.
لم تكن ظروف العيش في المعمل سيئة كما تتصورون, كن يكوّنّ مجتمعا مغلقا على الخارج منفتحا على الداخل. يحتوي المعمل على مشغل فيه آلات للنسيج و مشرب يستقبلن فيه ضيوفهن و مطعما يتناولن فيه وجباتهن. تزوج بعضهن و بنين أسرا و أنجبن أطفالا كالزهور مبصرين لأن فقدان البصر ليس مرضا وراثيا في جل الحالات بل هو مكتسب من سوء الظروف الصحية و المعيشية و ناتج عن إهمال الطب الوقائي عندنا في العالم العربي.
كنت أزورهن عند مروري بسوسة و كن يرحبن بي بحفاوة كبيرة و كرم حاتمي. كانت بينهن ضريرة جميلة تمنيت الزواج بها, عيناها سليمتان و خضراوان [قد يكون الخلل في المركز العصبي للإبصار أو في العصب البصري الذي يربطه بالعين السليمة], قوامها رشيق و فكرها متقد و كبرياؤها في السماء. كنت أحاول مجاملتها و التخفيف عليها بذكر عبقرية طه حسين الأعمى و كانت ترد علىّ بكل سخرية لاذعة قائلة: طه حسين هو الشجرة التي حجبت الغابة, غابة معانات العميان المصريين و التونسيين, طه حسين يمثل حالة محضوضة و معزولة و لا يحق لنا تعميمها لخصوصية ظروفها و ملابساتها, وجد في طريقه جامعة الأزهر أين الدراسة بالسمع فقط و احتضنته جامعة السريون و عشقته زوجته الفرنسية المتفهمة التي عوضت عينيه و تفرغت لقراءة الكتب له وحده.
كن قنوعات بما يسّرت لهن الدولة التونسية من مؤسسات بما فيها من ايجابيات و سلبيات. كان همهن الوحيد هو التقاعد بعد ما يبلغن الستين من العمر و لا يقدرن على العمل و لا يجدن من يعيلهن في كبرهن.
ناضلن من أجل هذا المطلب. قمن بمظاهرات و مسيرات بتونس العاصمة أمام الوزارة الأولى و أمام قصر قرطاج للمطالبة بتحسين ظروف العمل و جراية عند التقاعد. فرّقهن البوليس أمام الوزارة الأولى و استقبلهن ممثل الرئيس في القصر و وعدهن بتبليغ مطالبهن المشروعة لسيادة الرئيس. كن ينسقن فيما بينهن في سوسة و يلتقين في تونس في دار اتحاد المكفوفين و قد حضرت مرة لممثلتين منهن يدافعن عن مطالبهن في منظمة حقوق الإنسان المستقلة بتونس العاصمة و قد صفق لهن الحضور لفصاحتهن و شجاعتهن.
بعد نضال مرير دام سنوات تحصلن على حق التقاعد. أغلقت السلطات المعمل لأسباب واهية و رجعت كل بنت إلى أهلها.
كان أجر التقاعد يساوي مرتين أجرهن أثناء العمل و قد وفر لهن نسبيا عيشا كريما يغنيهن على ذل السؤال وفقدان الاستقلال.
ملاحظة: الضريرة المستنيرة التي احكي قصة حياتها و الدمع الدافئ يرقرق عيناي من الحب و الاحترام و الإعجاب بمسيرتها النضالية هي أختي الشقيقة فاطمة كشكار.



#محمد_كشكار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إهمال العامل الداخلي العربي المتسبب في الاستعمار و الإمبريال ...
- و الأذن تري قبل العين أحيانا.
- تكوين المدرسين في الإعلامية قبل تكوينهم في الإبستومولوجيا و ...
- هل العلم موضوعي أم متحيّز؟
- التلميذ لا يتحمل مسؤولية الغش في الامتحانات وحده.
- خطأ التلميذ في القسم يفيد المعلّم و المتعلّم.
- بطاقة تعريف لعلم نسبيا جديد يسمّى -التعلّميّة - [ la Didacti ...
- هذا ما أقوله لتلامذتي في الحصّة الأولى.
- استغفلونا
- التعليم في تونس: هل هو هرم مقلوب؟
- الإسلام المقاتل: من يقاتل, أين يقاتل و لماذا يقاتل ؟
- تبسيط المفاهيم العلمية قد يجر التلميذ إلى الخطأ.
- هل يستطيع التلميذ بناء معرفة علميّة جديدة فوق معرفته غير الع ...
- التصوّرات غير العلمية لا تزول بسهولة.
- حذار من مرض السكر(Diabète) .
- -جمنة- الخمسينات تعطي درسا في التربية الحديثة: التربية البنا ...
- التربية الصحية بين المطلوب و الممكن.
- خواطر في التعليم بلغة لو...
- هل يوجد لدى الطفل مستويان من النموّ الذهنيّ ؟
- يبدو أنّ مهنة الأستاذ المباشر في القسم في طريق الانقراض !


المزيد.....




- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد كشكار - الضريرة المستنيرة.