المشترك بين تموز بغداد ونيسان لشبونة


رشيد غويلب
الحوار المتمدن - العدد: 7977 - 2024 / 5 / 14 - 14:09
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية     

احتفلت قوى اليسار والسلام والتقدم في البرتغال والعالم هذا العام بالذكرى الخمسين لانتصار ثورة 25 نيسان 1974 والمعروفة بثورة القرنفل. هذه المساهمة محاولة لتسليط الضوء على المشتركات بين ثورة الرابع عشر من تموز 1958 العراقية وثورة نيسان البرتغالية، من حيث طابعها ومسارها ومآلاتها، وكذلك تأثير التجربة العميق الذي سيظل يصاحب الصراع السياسي والاجتماعي في البلاد. ولا يفوتني التأكيد على التباينات التاريخية والثقافية بين البلدين والمنطقتين عموما وهذا انعكس بوضوح في نتائج الانقلاب على الثورتين، ففي حين أدت هزيمة 14 تموز إلى عنف ودمار شامل ما زال يتفاعل إلى اليوم. أنتج الانقلاب على ثورة القرنفل تراجعا سياسيا واقتصاديا لصالح الرأسمال المحلي والعالمي، ولم يؤد إلى تراجع حضاري وخراب شامل.

طبيعة الثورتين

لم تكن الثورتان فعلا مستوردا، بل كانتا فعلا وطنيا خالصا، واعتمدت الثورتان على مشاركة وانتفاضة شعبية واسعة، حولت الحركة المسلحة التي قادها ضباط شباب يساريون ووطنيون ديمقراطيون إلى ثورتين شعبيتين. لقد استطاعت ثورة القرنفل من الحصول على الشرعيتين الشعبية والدستورية، من خلال التأكيد على الانتخابات، وإقرار دستور تقدمي للغاية في الجمعية التأسيسية في 2 أبريل 1976 من خلال التعاون بين مختلف الأحزاب. لقد امتلكت ثورة تموز الدعم الشعبي وتعاون الأحزاب السياسية المسبق في إطار جبهة الاتحاد الوطني ولكنها فشلت في إقرار دستورها عبر جمعية تأسيسه، وكان هذا من أخطاء قيادة الثورة المبكرة جدا، ولم تجد نفعا محاولات الشهور الأخيرة من عمر الثورة في العودة اليه. واشتركت الثورتان بدور أساسي للحزب الشيوعي في كليهما سواء في العقود التي سبقت الثورة، او في التحضير والمشاركة في تنفيذها، وتعبئة أوسع الجماهير للدفاع عنها.

أسقطت الثورة البرتغالية نظاما فاشيا دكتاتوريا، مثل مصالح كبار ملاك الأراضي بما يتماشى مع مصالح الإمبريالية. وأسقطت ثورة تموز نظاما ملكيا رجعيا زرعه الاستعمار البريطاني في العراق، جعل من الإقطاع قاعدته الاجتماعية الرئيسية. وكرس العلاقات شبه الإقطاعية شبه الرأسمالية، وحول المستعمرة البريطانية) السابقة إلى دولة تابعة.

كانت البرتغال أحد قلاع الاستعمار الغربي، لهذا جاء طابع الثورة مناهضا للاستعمار والإمبريالية، وكان نجاحها سببا رئيسيا في حصول المستعمرات على حريتها، وكذلك بوابة للتطورات التقدمية التي عاشها عدد من هذه المستعمرات في حينها. بالمقابل حررت 14 تموز العراق من التبعية للاستعمار البريطاني، وكانت جزءا من حركة تحرر صاعدة في المنطقة، أحدثت تغييرا عميقا في توازن القوى في منطقة الشرق الوسط، وأنهت عمليا حلف بغداد المعادي لمصالح الشعوب، وكانت رافعة لصعود قوى تقدمية في العديد من البلدان المجاورة. واشتركت الثورتان في المساهمة الحاسمة في السلام: إنهاء الحرب الاستعمارية، والاعتراف بحق تقرير المصير للشعوب واستقلال المستعمرات السابقة.

إنجازات الثورتين

بالإضافة إلى ما أشرنا اليه بشأن تغيير ألنظمة الفاشية / الرجعية ومؤسساتهما الشريرة في البلدين، حققت الثورتان الحريات والديمقراطية: حرية التجمع والتظاهر، الموافقة على الأحزاب السياسية، حرية تكوين الجمعيات، حق الإضراب، وحرية العمل النقابي. وفي البرتغال الانتخابات العامة والمباشرة.

وانفتحت آفاق جديدة في النضال من أجل القضاء على العجز الاجتماعي: التقدم في تحسين الظروف المعيشية للعمال والشعب، وإدخال النظام الصحي الحكومي، والزيادات الملحوظة في الأجور والزيادات في معاشات التقاعد ومدفوعات التقاعد، وحماية الضمان الاجتماعي، لقد تم إحراز تقدم كبير في مجال الحقوق المدنية: المساواة للمرأة، وجملة من السياسات الاجتماعية التي تباينت بين البلدين نتيجة للتباين في تطورهما وموقعهما الجغرافي. وبالإضافة إلى ذلك، كان هناك دعم للتعليم والثقافة والرياضة، وحوافز للأنشطة الترفيهية.

وكانت التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الأخرى مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بديمقراطية اجتماعية: التأميم (القانون رقم 80 في العراق)، والإصلاح الزراعي، قوانين وإجراءات تقدمية في عالم العمل، والتحرر من دكتاتورية الاحتكارات الأجنبية.

الثورة المضادة

منذ اللحظة الأولى لانتصار الثورتين عملت قوى الثورة المضادة، لعرقلة تقدمهما، واسترداد ما يمكن استرداده وكانت محاولات وقف مسيرة الثورة عديدة ومتنوعة في طبيعتها. في البرتغال، كان التركيز على تركيز السلطة في يد شخص واحد من أجل تأمين أهداف الطبقة الحاكمة. ينبغي أن يظل هيكل النظام الفاشي على حاله، ولا ينبغي السماح باتخاذ خطوات نحو إرساء الديمقراطية في المجتمع البرتغالي. ومن ناحية أخرى، بالطبع، يجب أيضًا إيقاف عملية إنهاء الاستعمار من أجل إطلاق مشروع استعماري جديد بديل.

وعملت القوى الخارجية والداخلية المرتبطة بها بشن حرب أيدولوجية في البلدين ركزت على الخطر الشيوعي الداهم، وعادت إلى خزين معاداة الشيوعية سيئة الصيت. وتشكل تحالف بين القوى المتضررة من نجاح الثورتين، وبدعم خارجي. في العراق تحالفت شركات النفط مع الاقطاع، والمؤسسات الدينية التي تعاملت مع الثورة على أنها خطر يهدد هيمنتها، وكان الذراع السياسي لهذا التحالف البعث والقوميين المتشددين مدعومين من الأنظمة الرجعية المجاورة التي كانت حريصة على تجاوز مصير مشابه لنهاية النظام الملكي في العراق. وبالتحالف مع الولايات المتحدة وبريطانيا.

لقد تعرضت الثورتان إلى عدد من الانقلابات العسكرية الفاشلة: في البرتغال انقلابان في تموز 1974، واذار 1975، بالإضافة إلى استخدام التفجيرات والتخريب وغيرها من الهجمات لعرقلة مسار الثورة. وبرزت بشكل خاص المنظمات الإرهابية اليمينية المتطرفة: "جيش تحرير البرتغال"، و"الحركة الديمقراطية لتحرير البرتغال". وفي العراق تعرضت الثورة في عمرها القصير إلى أكثر من 30 محاولة انقلابية، كان آخرها انقلاب 8 شباط الأسود، الذي أنهي مسيرة الثورة. عملت الثورة المضادة في البلدين، منذ البداية، من خلال أجهزة الدولة المؤقتة ثم لجأت إلى الوسائل الإرهابية. لقد تم التشهير بالقوى الديمقراطية الأكثر تقدمية وثباتا، سواء المدنية أو العسكرية. بهذه الاستراتيجية المزدوجة، نجحت الثورة المضادة في البرتغال في حرف الثورة من مسارها التقدمي عبر القوى التي وصلت للسلطة، وتبنت خطابا سياسيا تقدميا لخداع الشعب، في حين عولت على دعم القوى التي حولت البرتغال إلى الدولة الأكثر تخلفًا في أوروبا.

ولا يختلف الدور الأمريكي في البلدين إلا في طبيعة أدواته، وعمق آثاره التدميرية. في العراق. لقد عملت الولايات المتحدة على زعزعة استقرار البلدين، وكانت وراء تجميع وتسليح القوى الأشد عداء للثورتين.

لقد أدرك الأمريكيون "الخطر الشيوعي" الوشيك المفترض. لقد أبلغ جيرالد فورد وهنري كيسنجر الرئيس البرتغالي كوستا جوميز بعدم الرضا عن مشاركة أعضاء الحزب الشيوعي في الحكومة البرتغالية. وفي آب 1974، أرسلوا على الفور نائب مدير وكالة المخابرات المركزية فرانك كارلوتشي إلى البرتغال "لحفظ النظام". وكإجراء احترازي، عينوا فيما بعد فرانك كارلوتشي سفيرهم في لشبونة حتى يتمكن من إبعاد "الخطر الشيوعي".

مواقف مشتركة

ترفض قوى اليسار والتقدم في البرتغال والعراق محاولات إعادة كتابة التاريخ، التي يقوم بها أعداء الثورة داخل السلطة وخارجها. إنهم يريدون إخفاء الطبيعة الإجرامية للأنظمة التي أطاحت بها الثورتان والعمل على تبيض صفحة المتآمرين عليها، مستندين على الأكاذيب في سياق هجوم أيديولوجي. إنهم يحاربون الثورة الديمقراطية والوطنية لأنها تحظى بشعبية لدى الشعب، ولأنها أحدثت حينها تغييرات جوهرية في جميع مجالات المجتمع، في محاولة بائسة في إعادة كل شيء إلى الوراء. وفي مركز هذه العملية تقف محاولة للتقليل من أهمية الدور الذي لعبه الحزبان الشيوعيان، والتقليل من أهمية المساهمة الحاسمة التي قدمها الحزبان في تهيئة الظروف للثورتين.

يمكن القول إن الثورتين كانتا عمليتين ديمقراطيتين لم تكتملا، لكنهما يشكلان رصيدا لا ينضب لكل القوى الساعية، كل وفق تطوره التاريخي، لإقامة البديل الديمقراطي الحقيقي الذي يجب ان يتسم بالحرية الذي يستطيع الشعب من خلاله أن يقرر مصيره في دولة ديمقراطية وتمثيلية وتشاركية؛ والتنمية الاقتصادية على أساس اقتصاد مختلط لا تهيمن عليه الاحتكارات، او مافيات الدولة العميقة. وسياسة اجتماعية تقوم على تحسين الظروف المعيشية للعمال والناس؛ وسياسة ثقافية تضمن حرية الإبداع والوصول دون عوائق إلى المعلومة؛ دولة مستقلة ذات سيادة، وسياساتها مبنية على السلام والصداقة والتعاون بين الشعوب.