العبادة الأُموميّة الزراعية


أمجد سيجري
الحوار المتمدن - العدد: 6519 - 2020 / 3 / 21 - 22:03
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

استخدم الإنسان عبر التاريخ الأساطير والقصص كمحاولة منه لفهم العالم من حوله وذلك عن طريق ربط هذه القصص والأساطير بنماذج عامة لها صفات خاصة مشتركة عند جميع البشر وهي النماذج التي أسماها كارل يونغ بالنماذج الأصلية والتي عرفها "بأنها عبارة عن صورة أو نقش أو فكرة عامة ومتكررة تمثل تجربة إنسانية نموذجية بالتالي يمكن إعتبارها أنماط وسلوكيات أو انها الصور البدائية التي تشكل جزءاً من النفس واﻷنظمة اﻻجتماعية لدينا " أحد أهم النماذج الأولية التي صنفها يونغ واعتبرها جزءاً من اللاوعي الجمعي كان نموذج الأم و هذا النموذج الأصلي نراه يدعم الرؤية العالمية لعدد من الأساطير الخاصة بالأم ويساعد في تفسير عالمية صور الآلهة الأمومية حول العالم فالأمومة هي واحدة من الحقائق الإنسانية العالمية التي تتصف بصفات عامة مشتركة عند الجميع كالحب والرعاية والأمان والحنان والدفء والخصوبة فنحن نجد أن العديد من الثقافات والحضارات لديها قصص مشتركة عن آلهة أمومية ترتبط بشخصية أنثوية تكون عادة إما زوجة أو أم تتمحور قصتها حول كونها نقطة بداية خلق الحياة و توفير الطعام والمأوى للبشرية وتشكل بهذا رمزاً للإبداع ، والولادة ، والخصوبة ، والاتحاد الجنسي ، والتغذية ، ودورة النمو .
كانت الإلهة الأم في ديانات الشرق الأدنى تعتبر تجسيداً للأنوثة الإلهية الممثل العظيم للأرض و لخصوبة الأرض فكانت تعبد تحت العديد من الأسماء والصفات والتي تعبر بشكل أساسي عن القوة الإبداعية في الطبيعة، و المسؤولة عن التجديد الدوري للحياة كما اسلفنا .
تضمنت الأشكال اللاحقة لعبادتها عبادة إلهاً ذكراً ، تشكل معه زوجاً إلهياً تم إعتباره بشكل مختلف إما شقيقها أو أبنها أو عشيقها على سبيل المثال لا الحصر ،( أدونيس وأتيس وأوزوريس و بعل) فتروي أساطيرهم طبيعة العلاقة بين الزوجين وتقلباتها والتي كان لها إسقاطات طبيعية، فغالباً ما كانت تختفي هذه الأم ويرتبط إختفاءها بآثار كونية مثل القحط والجفاف لتعود بعدها وتحتفل بزواج إلهي عن طريق شريك ذكر تختاره غالباً ما يكون ممثلاً شمسياً يعيد الخصوبة لها وبعدها يتم إبعاد هذا الإله الذكر وإرساله إلى العالم السفلي ليتم إستبداله في العام الثاني أو حسب بعض الأساطير يعود و يقوم من العالم السفلي بالتالي كان مماتهم ومن ثم قيامتهم رمزاً لقوى التجدد في الأرض وقيامة النبات من رحم الأرض بعد دفن بذورها ضمن هذا الرحم فكانت هذه العملية أقدم أشكال القيامة بعد الموت والإنطلاق للحياة الثانية .
بالتالي كانت الأرض هي الأم التي يتم تخصيبها من الأمطار ونور الشمس التي كانت تأخذ في الغالب صفة الذكورة فتقدم المواسم الوفيرة نتيجة لهذا التخصيب فكانت تتمثل بها كما أسلفنا دورة الولادة والحياة والموت والتجديد لذلك اتخذت الإلهة الأم مجموعة متنوعة من الأشكال الرمزية المختلفة على سبيل المثال كانت تأخذ أحيانا رمزية الأفعى كونها تمثيل التجدد حين تبدل جلدها أو تمثل رمزياً بالسمكة الدالة بشكلها المغزلي على الرحم والذي يدل على الخصوبة أو تدل على القمر الذي يشكل رمزاً مهماً يمثل دورة الموت الولادة والتجدد من الهلال للمحاق فالقمر يولد ويموت من جديد كل 28 يومًا ، مما يعكس الدورة الشهرية الأنثوية لذلك كانت عبادة القمر متقدمة للغاية فقد كان للقمر أهمية تاريخية ودينية تعود إلى آلاف السنين ، حيث كان الإنسان القديم يصطاد على ضوء القمر المكتمل الذي كان يوفر له أفضل الفرص لصيد جيد.
في الحقيقة يمكن أن نعتبر أن الإرتباط بين الأنثى والأرض قد دعمه طبيعة الحياة التي كان يعيشها الإنسان الأول فقد كانت النسوة في الأصل من جامعات البذور فبينما يخرج الرجال للصيد كانت النسوة تقمن بجمع البذور لذلك كانت النسوة على الأرجح هن من أوجدن و طورن الخبرات الزراعية عن طريق علاقتهن الطويلة مع البذور وعبر إستخدام غريزتهن وحسهن السليم لاختيار أفضل البذور لمحاصيل العام المقبل ، عبر إنشاء ما نسميه الآن بالانتقاء الاصطناعي .
بالتالي يمكن أن نجد تبريراً لقيام الألهة الأنثى بإرسال الإله الذكر إلى العالم السفلي كما فعلت عشتار مع تموز بالتالي هذه العملية هي تعبر تماما عن دفن تلك النسوة لتلك البذور في التراب لتقوم وتحيا في الموسم الزراعي الجديد .
كما تم تمثيل الآلهة الأمومية عن طريق عدد من التماثيل والصور الصفة العامة لتلك التماثيل الشكل الكروي المليء بالمنحنيات البارزة الدالة على الخصوبة بالإضافة الى تماثيل وأيقونات لربات تمارسن الفعل الرئيسي الدال على الأمومة المتمثل بالأم الحاضنة الحامية والمرضعه لطفلها الإلهي الراعي المستقبلي، للبشرية جمعاء وهذا الشكل نجده بشكل متكرر في تمثيلات حورس وأيزيس و الكثير من التمثيلات الخاصة بمريم العذراء ويسوع المسيح والتي تجعل منها المعادل المسيحي للأم الكبرى لا سيما في التمثيل الأمومي النموذجي في صورتها المزدوجة كأم وعذراء ، مع ابنها الذي يمثل الإله والذي يعاني الموت والقيامة.
* من الأمثلة المهمة عن الألهة الأم في ديانات الشرق الأدنى القديم :
في بلاد الرافدين مثلاً كانت المياه البدئية نمو و من ثم نينتو ( نينخرساج ) و إنانا واللواتي تم إعادة تعريفهما عند البابليين بالاسماء على الترتيب تيامات ( تعامة ) و مامي و عشتار .
وفي الساحل السوري كانت كل من عشيرة و عناة وعشتروت وفي مصر كانت إيزيس و حتحور وفي اليونان تمت عبداتها بأشكال مختلفة مثل جيا و هيرا وريا وديميتير وافروديت وفي روما تم تحديدها على أنها مايا وتيلوس او تيرا وسيريس وفينوس .
وفي النهاية يصادف غداً 21 آذار يوم الإعتدال الربيعي الذي تكون فيه الشمس عمودية على خط الإستواء حيث يتساوى الليل والنهار 12 ساعة لكل منهما تم رصد هذا اليوم منذ الآلاف السنين وتم إعتباره يوماً مقدساً وبداية للسنة الزراعية الجديدة في العديد من الحضارات نتيجة بداية اعلان انتصار الشمس و انتصار النور على الظلام وقيامة نباتات المراعي والمزروعات من باطن الأرض بالتالي يحمل معه هذا الانتصار الخير والوفرة للجميع .
وفي النهاية كل عام وكل الامهات بألف ألف خير .