خدعة لويس - الشاعرة الفينيقية بيلِتيس


أمجد سيجري
الحوار المتمدن - العدد: 6053 - 2018 / 11 / 13 - 22:13
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

على الشواطئِ المظلمةِ لنهرِ ميلاسَ في تامسوسَ في بامفيليا .
أنا بيلِتيس ابنةُ داموفيلوس ، أبصرتُ النورَ.
وكما ترونَ الأنَ أنا بعيدةٌ عن مسقطِ رأسي ...
عندما كنتُ طفلةً تجرعتُ الحُبَّ من أدونَ و عشتارَ والأسرارَ من سوريا المقدسة والموتَ والقيامةَ
من جفونِ عشتارَ المدورةَ.
إذا كنتُ مومساً تتساقطُ عليها الملامةَ والعتابَ .... لم يكن هذا عمليَّ كامرأة ؟
غريب ٌ، أمُّ الوجودِ تُرشدنا .....
بحكمتها و لا يمكنها تجاهلنا.......
أنا ممتنةٌ لكَ ..أنت يا من تقفُ هنا.. أتمنى لكَ ذاتَ المصيرِ، ربما تكونُ محبوباً لكنهُ ليسَ حباً حقيقاً ....
في كهولتكَ عندما تشارفُ على الرحيلِ تذكر كلاميَّ هذا حين تحدقُ بقبريَّ.

هذه القصيدة قمت بترجمتها من النسخة الإنكليزية من كتاب " قصائد بيلِتيس" هو عمل أدبي تم نشره لأول مرة في باريس وذلك في العام 1894 على يد الكاتب الفرنسي بير لويس "Pierre Louÿs" وقام بترجمته للإنكليزية Alvah C. Bessie في العام 1926 م.

صرح الكاتب الفرنسي بيير لويس أن ما نشره هو عمل أدبي عبارة عن ترجمات قام هو بترجمتها من قصائد وجدت على جدران مقبرة في قبرص كتبتها امرأة إدعى أن أمها فينيقية وأبوها إغريقي تدعى " بيلِتيس" وبين أنها معاصرة للشاعرة الإغريقية "صافو" "Sappho" تعود للقرن 6 ق. م .
سألخص الحكاية التي أوردها بيير لويس في أحد فصول كتابه المدعو " حياة بيلِتيس" وأرجوا القراءة إلى نهاية المقال :
" ولدت بيلِتيس Bilitis في بداية القرن السادس قبل عصرنا ، في قرية جبلية تقع على ضفاف نهر ميلاس ، نحو شرق بامفيليا من أب يوناني وأم فينيقية لم تعرف والدها ويبدو أنه ماتَ في صغرها وهذا يفسرُ أنها تحمل إسماً فينيقياً عاشت مع أمها وأخواتها حياةً هادئة مع بعض الفتياة الصغيرات اللواتي كانوا صديقاتٍ لها ايضاً فكانت تقود الاغنام للكلأ والماء وتحلبها حين يكون الجو صحواً وتجز صوفها حين تتساقط الأمطار ولعبت مع صديقاتها في الحقول القريبة عاشت تجربة الحب والإغتصاب من قبل رجل لديه طفل ثم غادرت بيلِتيس بامفيليا لأسباب غامضة ولم يظهر أنها عادت اليها ابداً .

تظهر بيلِتيس إبنة 16سنة في ميتيليني وتدخل حياة جديدةً في تلك المدينة التي تمتلئ بمجالس البغاء حيث يذكر لويس أن الرجال تعج مجالسهم بالجواري ونسائهم بمجالس أخرى منعزلة عن مجالس الرجال بالتالي دخلت ممارسات شاذة إلى تلك المجالس النسوية .
وهنا من تلك المجالس تبرز صافو الشاعرة الإغريقية الشهيرة المثلية التي تعلم بيلِتيس المُراهِقة الشعر والغناء ويظهر أيضاً في ثلاثين قصيدة لبيلِتيس فتاة جميلة ساحرة تدعى مناسيديكا كانت شاعرتنا على علاقة غرامية بها في مدينة ميتيليني.
تعود وترحل بيلِتيس مرةً اخرى إلى قبرص تلك الجزيرة الفينيقية فهنا الحياة أكثر صعوبة ففي السابق كانت من تقدم الهوى هي من الرعية ومن عامة الشعب من المشردين والفقراء لكن هنا في قبرص الوضع مختلف فمن يقدم الهوى هم بنات أعيان ووجهاء الجزيرة نذروا أنفسهم خدماً لمبعبد افروديت " عشتار " ليقدموا البغاء المقدس.
تنتهي حكاية بيلِتيس في قبرص ويقول لويس :
" لانعرف شيأً عن المرحلة الأخيرة من حياة بيلِتيس ولا في أي عمر ماتت "
ويضيف : "تم إكتشاف قبرها من قبل
عالم الأثار Herr G. Heim السيد ج.هيم في مدينة ليماسول القبرصية القديمة على طريق قديم ليس بعيد من الطريق القديم بإتجاه أماسوس "
ويقول "إختفت أنقاض القبر وحجارة المنزل الذي عاشت فيه بيلِتيس في الثلاثين سنة الماضية وهذه الحجارة هي اليوم أرصفة ميناء بورسعيد اليوم"
ثم يقدم لويس وصفاً للقبر فيقول :
كان القبر تحت الأرض حسب العُرفِ الفينيقي، حتى أنه نجا من نهب صيادي الكنوز توغل السيد ج. هيم إلى داخل القبر من خلال بئر ضيقة حتى وصل للكهف الذي يحتوي القبر فوجد في أسفله باباً حطمه فوجد حجرة ممهدة بألواح من الحجر الجيري وأربعة جدران مغطاة بلوحات من حجر الأمفيبوليت أسود تم نحت قصائدها عليهم بإستثناء ثلاثة قصائد زينت التابوت "
ثم يقدم وصفاً شاعرياً للجثة الراقدة في التابوت فيقول :
" عند فتح القبر ظهر كما تم دفنه منذ أربعة وعشرين قرناً وقارورات العطر معلقة من الأوتار الترابية إحدى تلك القارورات ماتزال عَطرة وبجانبها مرأتها الفضية المصقولة التي كانت ترى نفسها بها وقلم الكحل الذي كان ينشر اللون الأزرق الداكن على جفونها ...وهيكلها العظمي أبيضُ كالثلجِ مزينُ بكل جواهرها الذهبية حتى تنهدت تنهيدةً قوية من عظمةِ تلك اللحظة انزاح الغبار ونزل عليها ."
ثم يوقع في النهاية
PIERRE LOUŸS
Constantinople, August 1894.
- بير لويس، القسطنطينية ، اب، 1894 م

ملاحظات :
على مستوى العالم معروف حجم التزوير التاريخي الذي قدمه بير لويس في كتابه لكن ما شفع لهذا التزوير التاريخي هو العمل الأدبي الملفت الذي قدمه للعالم ومقدار الأحاسيس والعاطفة اللامتناهية في كلماته التي عبرت عن الحب بشكل جميل جداً بالرغم من اظهاره وجهاً آخر للحب غير مقبول إجتماعياً كما أن الكتاب حتى اليوم مهم جداً وخصوصاً بين المثليات lisbians على مستوى العالم نتيجة احساسه العالي في التعاطف مع قضيتهم وخصوصاً أن هذه النصوص الشعرية المنسوبة للشاعرة المفترضةً جائت من قبل رجل وهو لويس فأعتبروه تعاطفاً ذكورياً معهم في مراحل مبكرة.
لا وجود لبيلِتيس ولا وجود لقبر بيلِتيس ولا وجود لألواح الأمفيبوليت التي نُقشت عليها القصائد ولا وجود لتابوتها الموصوف في نص لويس أقل ما يمكن كانت ملأت صور هذا الإكتشاف أصقاع الأرض فلا وجود لأي دليل مادي أركيولوجي يثبت ما جاء به لويس حتى الصور المتداولة على أنها رسوم إغريقية هي عبارة عن رسومات الكتاب.

والمثير أيضاً أننا أمةٌ ننقاد بعواطفنا فكل ما يبث إلينا حتى لو كان إحتيال نصدقه فقط لأنه يدغدغ عواطفنا ومشاعرنا فتجد الكثيرين يستشهدون بعالم الأثار الالماني الذي استشهد به لويس وهو Herr G. Heim السيد ج. هيم فهو غير موجود أصلاً من نسج خيال الكاتب ولا وجود له حتى أن المضحك المبكي في تناقل المواقع العربية لهذا الأسم كعالم أثار في الحقيقة هو لعبة من الكاتب وكانت كالتالي:
كلمة geheim الألمانية قام بتقسيمها لويس فأصبحت G. Heim ومعناها السر فكان Herr G. Heim الترجمة الإنكليزية لها Secret أي Mr. S. Cret اي "السيد سر " و من يستغرب هذا الكلام لا يندهش كثيراً فهذا التزوير بسيط في القرن التاسع عشر فكل ما يقال حينها يتم تصديقه وخصوصاً من قامة أدبية ذات خبرة عالية باللغة الإغريقية ك بيير لويس لكن من المعيب والمخجل منا نحن كأمة في القرن الحادي والعشرين أن نصدق كل ما يقال لنا فقط لان ما يُقال يدغدغ عواطفنا ويحرك مشاعر الإنتماء القومي لدينا.