هيباتيا الشهيدة ... حكاية مقتلها


أمجد سيجري
الحوار المتمدن - العدد: 6507 - 2020 / 3 / 6 - 23:52
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

من منا لم يسمع عن الفيلسوفة وعالمة الرياضيات والفلك الشهيرة هيباتيا ابنة ثيون الإسكندراني التي تضج الشبكة العنكبوتية بمقالات عنها تروي حكايتها وتركز على قضية مقتلها و كونها شهيدة العلم .

بشكل عام يمكن أن نقول أن هذا الاهتمام بدأ اعلامياً بعد انتاج الفيلم الشهير "أغورا" في العام 2009 م والذي قامت ببطولته الممثلة البريطانية "ريتشل وايز " بدور هيباتيا والذي تناول حياتها في القرن الرابع الميلادي وأظهر مدى التطرف الديني الذي عاشته مدينة الإسكندرية حين أصبحت المسيحية الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية حيث طال هذا التطرف المعابد الوثنية ومكتبة الإسكندرية بما تحتويه حينها من نفائس الوثائق والخرائط والأبحاث بتهمة انتمائها الوثني .
كما يظهر الفيلم دعوة الأسقف لمنع النساء من العمل وضرورة التزام المرأة في منزلها والتحريض على هيباتيا كونها وثنية وكونها ساحرة ولا تؤمن بالدين المسيحي .

ينتهي الفيلم بالقبض على هيباتيا وتجريدها من ملابسها استعداداً لسلخ جلدها بالسكاكين و أثناء قيام الرجال بجمع الحجارة لرجمها ، يقوم أحد عبيدها بخنقها حتى الموت كي يريحها من التعذيب الذي كانت ستناله ثم يقوم المسيحيون بتشويه جسدها ونثر أشلائه وجرها في المدينة والتمثيل بها وحرقها.

طبعاً هذا الفيلم مثله مثل كل المقالات تلقي اللوم على التعصب المسيحي الذي قتلها ونكل بها مما دفع الكثير من الصفحات المسيحية المختصة برد الشبهات لكتابة مقالات كثيرة لرد الشبهة و الاتهامات الموجهة للكنيسة الأرثوذكسية بهذه القضية وخصوصاً أن الإتهام الرئيسي تم توجيهه إلى البابا الاسكندراني والبطريرك الرابع والعشرون كيرلس الأول الملقب "عمود الدين ومصباح الكنيسة الأرثوذكسية" لذلك في هذا المقال سنتعامل مع قضية مقتلها بشكل موضوعي وتبيان ماكتبه المؤرخون عن هذه القضية .

كما نعلم في العام 378 م تم تعين ثيودوسيوس الأول إمبراطوراً للإمبراطورية الرومانية وقد تبنى الامبراطور ثيودوسيوس الأول المسيحية في عام 380، وجعل منها ديناً وحيداً للامبراطورية في العام 391 م و من العام 382 م إلى العام 412 م كان بطريرك الإسكندرية هو البابا ثيوفيلوس ، وكما نعلم أن البابا ثيوفيلوس قد قتل الوثنين ونكل بهم حطم معابدهم وحوّلها إلى كنائس .
كما كان معارضاً بشدة للأفلاطونية الحديثة التي قال بها الأفامي يامبليخوس بالرغم من كل هذا التعصب لدى الأب ثيوفيلوس لم يبدي أي عداء لمدرسة هيباتيا وسمح لها بإقامة علاقات وثيقة مع الحكام الرومانيين وغيرهم من القادة السياسيين البارزين.
ونتيجة لهذا التسامح الذي أبداه الأب ثيوفيلوس معها ، أصبحت هيباتيا ذات شعبية كبيرة لدى أهل الإسكندرية ومارست نفوذاً سياسياً مهماً .
توفي ثيوفيلوس في 15 تشرين الأول عام 412 لكنه على ما يبدو كان يعد ابن أخيه كيرلس ليكون خلفاً له لكن موته المفاجئ لم يتح له تعينه رسمياً خلفاً له مما أدى إلى صراع على البطرياركية بين كيرلس ومنافسه القوي رئيس الشمامسة تيموثاوس، فاز كيرلس وتم تعينه بطريرك الإسكندرية في 18 تشرين الأول من ذات العام وبدأ على الفور بمعاقبة كل من ساندوا تيموثاوس وصادر ممتلكاتهم هذا أدى لنشوب صراعات أهلية في الإسكندرية مما دفع هيباتيا لأخذ موقف سلبي ومحايد من البطريرك الجديد ويظهر هذا الموقف في رسالة تلميذ هيباتيا الأديب والشاعر و فيلسوف الأفلاطونية المحدثة والمؤرخ وأسقف أبرشية طلميثة سينيوس حيث طلب منها برسالته التدخل بهذا الصراع الأهلي الذي جلبه كيرلس وبين في رسالته في العام 413 م أنها علمته أن الفلاسفة الأفلاطونين الجدد يجب أن يقدموا أعلى المعايير الأخلاقية للحياة السياسية وأن يعملوا لصالح مواطنيهم.

في عام 414 م أغلق كيرلس جميع المعابد الوثنية و المسيحية المخالفة للإيمان الارثوذكسي في الإسكندرية وصادر جميع الممتلكات الخاصة باليهود ، وطرد جميع اليهود من المدينة.
كان أوريستس ، المحافظ الروماني للإسكندرية ، الذي كان أيضاً صديقاً مقرباً من هيباتيا ومعتنقاً حديثاً للمسيحية، و ناقماً على تصرفات كيرلس التي ساهمت في تصاعد وتأجيج الصراع واندلاع أعمال الشغب بمساعدة مجموعة البارابالاني parabalani وهم مجموعة من رجال الدين المسيحيين والذين ظهروا في وقت مبكر في المسيحية حيث تطوعوا للقيام بعدد من الأعمال كرعاية المرضى ودفن الموتى أثناء الأوبئة بالتالي هم كانوا كالانتحاريين بقيامهم بتلك الأعمال .
تم اختيارهم عموماً من الطبقات الدنيا في المجتمع ، كما عملوا كخدم للأساقفة المحليين وكانوا يستخدمونهم أحياناً كحراس شخصيين لهم .
كما ساندهم في أعمال الشغب هذه رهبان وادي النطرون الذين جاؤوا من الصحراء وحرضوا على أعمال شغب ضد الحاكم الروماني أوريستيس .
بشكل عام كانت هذه المجموعات خاضعة بالمطلق لسلطة كيرلس ، هاجم الرهبان الحاكم أوريستيس واتهموه بأنه وثني ، رفض الحاكم هذه الاتهامات ، وبين أنه قد تعمد من قبل رئيس أساقفة القسطنطينية.
ومع ذلك ، فإن الرهبان لم يكونوا راضين عنه ، وألقى أحدهم ، كان اسمه أمونيوس ، حجراً عليه وضربه على رأسه ، مما أدى إلى نزيف الحاكم من رأسه بالكثير من الدماء التي غطت وجهه تماماً مما دفع حراسه للفرار خوفاً من رجم الرهبان وتركوا الحاكم بينهم وحيداً بمفرده .
لكن أهل الإسكندرية هبوا لمساعدة الحاكم وخلصوه من قبضة الرهبان وعالجوا الحاكم والقوا القبض على أمونيوس ووضعوه تحت التعذيب تحت أنظار العامة تمكن البابا كيرلس من استعادة جثة أمونيوس ومنحه لقب الشهيد .

هذه الحادثة دفعت الحاكم إلى كتابة تقرير للإمبراطور ثيودوسيوس وأخبره بما جرى ويحدث حاول كيرلس الصلح مع الحاكم طويلاً لكنه فشل في ذلك مما دفع المسيحيين حسب ماذكر سقراط القسطنطينية للإعتقاد بأن تأثير هيباتيا التي كانت تقدم له المشورة قد تسبب في رفض الحاكم أوريستس جميع العروض التصالحية التي قدمها كيرلس هذه الشائعات عمل على بثها كل من كيرلس وحلفاؤه لتشويه سمعة هيباتيا بالرغم من كل شعبيتها بين الوثنين والمسيحين .
كما يمكن العثور على آثار للشائعات الأخرى التي انتشرت بين السكان المسيحيين في الإسكندرية في كتابات الأسقف القبطي المصري في القرن السابع ميلادي يوحنا النيقيوسي الذي يزعم في كتابه كرونيكل " الأحداث " أن هيباتيا انخرطت في ممارسات شيطانية وأعاقت عن قصد تأثير الكنيسة على الحاكم أوريستيس فيقول :
"وفي تلك الأيام ظهرت في الإسكندرية فيلسوفة ، وثنية تدعى هيباتيا ، وكانت مكرسة لأعمال للسحر ، وأعمال التنجيم و الموسيقى ، وخدعت الكثير من الناس من خلال حيلها الشيطانية وقد كرمها حاكم المدينة. لأنها سحرته من خلال سحرها. فتوقف عن حضور الكنيسة ... "
إذاً كل هذا التجيش ضد هيباتيا عجل من موتها واستشهادها على أيدي مجموعة المتعصبين فيقول سقراط القسطنطينية في هذه الحادثة وهو المعاصر لها : أنه خلال موسم الصوم الكبير في آذار عام 415 ، داهمت مجموعة من المسيحيين تحت قيادة أحد قارئي الكتاب المقدس و اسمه بيتر أو "بطرس" ، عربة هيباتيا أثناء عودتها إلى منزلها ، و جروها إلى مبنى يُعرف باسم سيزاريوم ، وهو معبد وثني سابق ومركز العبادة للإمبراطورية الرومانية في الإسكندرية والذي تم تحويله إلى كنيسة مسيحية، و هناك جرد الغوغاء هيباتيا من ثيابها وقتلوها وقطعوها وجروا اطرافها المقطعة عبر البلدة إلى مكان يسمى سيناريون ، حيث أشعلوا فيها النار.

ويذكر الفيلسوف الدمشقي داماسكيوس أنه تم أخراج عيونها من مكانها وأنهم قاموا بتمزيق جسدها إلى أجزاء وسحبوا أطرافها المشوهة عبر البلدة إلى مكان يسمى سيناريون ، حيث أشعلوا فيها النار.

وهذا الفعل يتماشى مع الطريقة التقليدية التي حمل بها الإسكندريون جثث "المجرمين الأشرار" خارج حدود المدينة لحرقهم كوسيلة لتنقية المدينة رمزياً .

تسبب موت هيباتيا في إحداث صدمة كبيرة في جميع انحاء الإمبراطورية الرومانية الغربية والشرقية و على الرغم من أنه لم يتم اكتشاف أي دليل ملموس على الإطلاق يربط كيرلس بقتل هيباتيا ، لكن حملته التشهيرية والإشاعات التي أطلقها ضد هيباتيا بين المسيحيين هي من ساهم كبيراً بالتحريض على قتلها لذلك بدأ مستشاروا ثيودوسيوس الثاني تحقيقاً لتحديد دور كيرلس في القتل .
حيث أسفر التحقيق عن قيام الإمبراطورين هونوريوس الغربي وثيودوسيوس الثاني الشرقي بإصدار مرسوم في خريف عام 416 م والذي حاول إزالة مجموعة البارابالاني من سلطة كيرلس ووضعهم تحت سلطة الحاكم الروماني أوريستيس.
منع المرسوم البارابالاني من حضور "أي مشهد عام أيا كان" أو الدخول "إلى مكان اجتماع المجلس البلدي أو قاعة المحكمة. كما فرض قيوداً شديدة على تجنيدهم عن طريق قصر العدد الإجمالي للبارابالاني على ما لا يزيد عن خمسمائة .
كان مقتل هيباتيا كان نقطة تحول في معركة كيرلس للسيطرة السياسية على الإسكندرية.
كانت هيباتيا هي العمود الفقري لمعارضة أوريستيس ضد كيرلس ،وبدونها انهارت هذه المعارضة بسرعة كون هذا الاغتيال السياسي قضى على مؤيد مهم وقوي قاد أوريستيس إلى التخلي عن نضاله ضد البطريرك كيرلس بعد ذلك بعامين ، ألغى كيرلس القانون الذي وضع البارابالاني تحت سيطرة الحاكم الروماني ، وبحلول أوائل العشرينيات من القرن الرابع ميلادي ، سيطر كيرلس على المجلس الاسكندري.
زعم البعض أن كيرلس نفسه نجح فقط في الهروب من العقاب من خلال رشوة أحد مسؤولي ثيودوسيوس الثاني لكن لايوجد دليل .
كما كان دماسكيوس في القرن السادس ميلادي"هو أول من القى مسؤولية اغتيالها على الأسقف كيرلس وأتباعه المسيحي و هو المصدر التاريخي الوحيد الذي ينسب المسؤولية المباشرة للأسقف كيرلس.
و نستنتج من خلال سرده حكايتها في عمله " حياة ازيدور " أن قتل هيباتيا كان بسبب حسد كيرلس بسبب "حكمتها التي تجاوزت كل الحدود وخاصة في الأمور المتعلقة بعلم الفلك".
كانت هيباتيا معروفة بتسامحها مع الطلاب المسيحيين واستعدادها للتعاون مع القادة المسيحيين ، وأملها في إقامة علاقة معهم تتيح من خلالها للأفلاطونية والمسيحية أن يتعايشا ضمنها بسلام وتعاون.
بدلاً من ذلك ، كان وفاتها والفشل اللاحق من جانب الحكومة المسيحية في فرض العدالة على قتلتها قد دمر فكرة التعايش تماماً مما دفع الفلاسفة الأفلاطونيين الحديثين ممن أتوا بعدها مثل داماسكيوس في القرن السادس ميلادي إلى اعتبار الأساقفة المسيحيين "شخصيات خطرة وحسودة وسطحية غير فلسفية"و أصبح ينظر إلى هيباتيا على أنها "شهيدة للفلسفة" .
لم تكن هيباتيا هي الفيلسوفة الأخيرة من فيلسوفات الأفلاطونية الحديثة فقد استمر تدريس الأفلاطونية في شرق المتوسط بشكل عام والإسكندرية وأثينا بشكل خاص وعرف العالم بعدها عدداً من الفيلسوفات كإيديسيا زوجة هيرمياس و أسكلبيجينيا ، وتيودورا الحمصية ، وجميعهن عاشوا حياة مماثلة لحياة هيباتيا .
بقيت الأفلاطونية الحديثة تدرس بعد هيباتيا حتى العام 529م حيث أُغلقت مدرسة أثينا الأفلاطونية المحدثة على يد الأمبراطور البيزنطي " جستنيان الأول " الذي يعتبر قديساً بالنسبة للكنيسة الأرثوذكسية والذي كان لديه قناعته استبدادية تقول " وحدة الإمبراطورية ناتجة عن وحدة الإيمان " وهذا الإيمان هو الإيمان الارثوذكسي جعله يضطهد كل من خالف هذا الإيمان إما بالقتل المتمثل بالموت حرقاً أو غرقاً والتهجير والتعذيب والسجن بالإضافة الى قمعه التصوف الشرقي المتمثل بمدرسة أثينا الفلسفية التي تتبنى الفلسفة الأفلاطونية المحدثة التي كان عمادها وقادتها شخصيات سورية و مصرية بقيادة الفيلسوف الدمشقي دماسكيوس حينها بالتالي كل من رفض التحول للمسحية عانى التهجير القمع والترهيب والتهديد بالإعدام وكان الدمشقي أخر فلاسفة الأفلاطونية الحديثة وبوفاة دماسكيوس كانت نهاية فلاسفة الأفلاطونية الحديثة و باغلاق مدرسة أثينا انتهت مدارس الفلسفة اليونانية في أوروبة وبدأت معها سنوات العصور المظلمة .