أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الخميسي - ورقة أخيرة - قصة قصيرة














المزيد.....

ورقة أخيرة - قصة قصيرة


أحمد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 7288 - 2022 / 6 / 23 - 19:01
المحور: الادب والفن
    


لم أكن قد رأيته منذ زمن، لكنني فوجئت به مساء اليوم وأنا أشق عتمة الشارع إلى منزلي، كان واقفا يترنح مستندا بكفه إلى جدار عمارة، وهو يتنفس بصعوبة وقد بدا الانهاك واضحا عليه. لبثت صامتا أنظر إليه. انقضى زمن طويل منذ أن صادفته أول مرة في مولد السيدة زينب، حين كنا صغارا نقصد المولد لركوب المراجيح أو للتفرج بألعاب سيرك داخل خيمة مهلل قماشها. رأيته حينذاك قرب جدار المسجد. جذبني إليه وجه أسمر وسيم، وشارب صغير، وبسمة مخاتلة ماكرة. كان واقفا تحت بصره صندوق خشبي على ثلاثة قوائم، يجري بين أنامله ثلاث أوراق لعب بصور الولد والبنت والشايب. اقتربت منه ووقفت بين العيال الآخرين أتابعه وهو يرفع عاليا أمام وجوهنا صورة البنت ثم يخلطها بسرعة مع الصورتين الأخريين، مرة وأخرى ثم يضع الأوراق الثلاث مقلوبة على سطح الصندوق، وينبهنا بقوله: " البنت هي الإجابة التي تفوز. أين البنت؟". مددت إصبعي عدة مرات إلى ما تخيلته صورة البنت، لكني خسرت مرات عديدة ودفعت في كل مرة قرش صاغ وأنا مذهول من ثقتي السابقة المطلقة في موضع الصورة. كانت الأوراق الثلاث ملقاة تحت بصري ثابتة، أحدق بها، لكنني اخطيء مرة بعد الأخرى كأن القدر يسخر بي.
بعد ذلك بنحو عام قصدت مولد السيدة، ورحت أفتش عن الرجل لكني لم أجده، وخاب أملي أن أراه وأربح ولو مرة. درت بين خيام الألعاب وحلقات الذكر ولم أره، ثم انقضت نحو عشر سنوات، وتعلق قلبي بفتاة من سني، وكنت قد نسيته تقريبا إلى أن فوجئت به يمشي بجواري وأنا خارج من الجامعة أتجه إلى محطة الأتوبيس. دققت في هيئته. هو. لم تتبدل ملامحه تقريبا. نفس البسمة المخاتلة الجذابة. بسط صندوقه الخشبي على الرصيف، وأبرز صورة البنت بجدائلها الطويلة، وخلطها بالصورتين الأخريين بسرعة البرق، ثم فرد الثلاث على سطح الصندوق وقال لي بنظرة تشع مكرا:" أين الصورة الرابحة؟". تذكرت خيباتي السابقة في الفوز فتردت في الإشارة إلى الصور، فبادرني بالقول: " ثلاث ورقات. الحب هو التفاهم. الحب هو الرغبة. الحب هو الألفة". رفع الأوراق وعاد يخلطها بسرعة ووضعها تحت بصري. مددت إصبعي أشير إلى الورقة، فرفعها إلى أعلى. لم تكن البنت. خسرت. رآني واجما فربت على كتفي قائلا: " لا تبتأس. هي اللعبة. المهم الاستمرار". حمل صندوقه وترك المكان، ولوح لي بكفه من بعيد وهو يختفي وسط الزحام.
قبل أن أنهي تعليمي الجامعي كان لي صديق أكثر من أخ، أكل في بيتي، وارتدى قمصاني، وما إن احتجت إليه مرة حتى أظهر أنه غير ما تخيلت فقطعت علاقتي به، وكنت أحكي ما جرى لزميل لي في العمل ونحن جالسين في مقهى، وحين غادرت المقهى رأيت الرجل قرب كشك السجائر الملاصق لمحطة الأتوبيس. أبرز لي الورقات الثلاث وقال لي:" اختر. الانسانية أن تغفر. الانسانية أن ترد الصاع صاعين لكي لا يطمع فيك الآخرون. الانسانية أن تحب البشر كما هم وليس كما تريد لهم أن يكونوا". خلط الأوراق بسرعة ووضعها تحت بصري ولم أستطع الوصول إلى الصورة المنشودة.
بانقضاء عشرة أعوام سنحت لي فرصة السفر إلى الخارج، فوجدته إلى جواري وأنا لم أحسم أمري بعد، رأيته بنفس البسمة الماكرة الجذابة، لكنه كان قد كبر قليلا. أبرز الأوراق الثلاثة وتركها معلقة أمامي في الهواء لحظات، ثم قال: " في السفر سبعة فوائد. الوطن لا يتكرر ولا يستبدل. الوطن ليس فندقا نهجره إذا ساءت فيه الخدمة". خلط الأوراق وبسطها وقال: " اختر". لكني لم أستطع الوصول إلى صورة البنت.
عدت من السفر بعد أكثر من عشرة أعوام ، ولم يصادفني الرجل، ولا عاد يطرأ على بالي حتى مساء اليوم حين رأيته واقفا يترنح لصق جدار عمارة مستندا بكفه اليسرى إلى الجدار، خامدا، وقد انطفأت في عينيه النظرة المازحة المخاتلة كأنه ظل على التراب تحت ضوء القمر. لبثت أتطلع إليه أترقب أن يقول شيئا بعد كل تلك السنوات لكنه لم ينطق بحرف. قطعت الصمت الكثيف الذي اكتنف الشارع والأشجار وسألته:" أين الأوراق؟". مال رأسه متعبا يمينا ويسارا. تلامست ركبتاه ترتجفان، ثم انهار على الرصيف. فرد ساقيه أمامه يلهث ثم مد ذراعه إلى جيب الجاكتة، لكن يده انزلقت خارج الجيب عدة مرات فأعاد الكرة بعصبية إلى أن استل ورقة واحدة ورفعها إلي. رأيت الورقة من ظهرها المنقوش بمثلثات حمراء دقيقة، أما الصورة فكانت مخفية في الناحية الأخرى. لمح أنني مشوش فتمتم بمشقة: " لم تعد أمامك فرصة للخطأ. هي ورقة واحدة أخيرة". قالها وتراخت ذراعه إلى جواره مغمضا عينيه فانفكت أصابعه عن الورقة وارتفعت ترفرف قرب هامات الشجرة وأنا أتبعها ببصري، ثم توقفت في الجو لحظة، فهرولت متقدما صوبها وقد فردت ذراعيي لأمسك بها، لكنها رفرفرت ثانية وارتفعت متقدمة إلى الأمام. توقفت أراقبها حتى سكنت في الجو لحظة، وقبل أن أندفع صوبها حلقت عاليا بعيدا في العتمة والسكون فظللت واقفا مكاني تحت ضوء القمر في غمرة الصمت المطبق غير قادر على الحركة.

***
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري



#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية الرغيف .. الأدب والحرب
- ذكرى رحيل الشيخ إمام
- الـفـراعـنـة مـن أوكـرانــيــا .. ظـهـرت الــحـقـيـقـة !
- مظفر النواب .. الكلمة التي يبقى فيها
- إلى متى تستمر الحرب الروسية ؟ وبم تنتهي؟
- بأي رصاصة تطالب إسرائيل ؟
- تــمــوت الـــقــضــايــا مــن غــيــر الــفــن
- الــبــشــر .. أجــمــل هــدايـــا الــعــيــد
- المترجم السوفيتي العجوز يكشف أسرار الزعماء
- جدتي الطيبة .. أجاثا كريستي
- عـبـد الـحـلــيــم حــافــظ .. حــكــأيــة مــصــريــــة
- الكاهن أرسانيوس .. مساء الخميس 7 أبريل
- الـعـنـصـريــة بــيــن الــمــعــرفــة والـــتــكـــويــ،ن
- روسيا أوكرانيا .. حرب صغيرة أم كبيرة ؟
- المفكر التنويري
- ريـــان والــمــغــرب .. الــطـفــولــة تــخــطــف الــقــلـ ...
- أمل جديد في غرف قديمة
- شـبـح الـحـرب بــيــن روســيــا وأكــرانــيــا
- محمود السعدني .. الساخر الحزين
- طه حسين .. صور متجددة


المزيد.....




- تابع الحلقة 162 قيامة عثمان.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 162 ...
- شاهد.. الرئيس الايراني الشهيد بريشة فنان فلسطيني
- أقوى أفلام الكرتون.. تردد قناة توم وجيري عبر أقمار العرب سات ...
- بخطىً ثابتة.. -جائزة سليماني- تكرّس حضورها في قلب المشهد الأ ...
- 300 صالة سينما فرنسية تعيد عرض -إنقاذ الجندي رايان- في ذكرى ...
- تفاعل كبير مع ظهور الشيف بوراك في مهرجان -كان-: ماعلاقة الكب ...
- فيلم -بوب مارلي: حب واحد-.. محاولة متواضعة لتجسيد أيقونة موس ...
- -دانشمند- لأحمد فال الدين.. في حضرة وجوه أخرى للإمام الغزالي ...
- الجامعة العربية: دور محوري للجنة الفنية لمجلس وزراء الإعلام ...
- تَابع Salah Addin 26 مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 26 مترج ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الخميسي - ورقة أخيرة - قصة قصيرة