أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - موريس صليبا - الإسلام وتجارة العبيد في إفريقيا من منظور باحث مسلم سنغالي (2)















المزيد.....


الإسلام وتجارة العبيد في إفريقيا من منظور باحث مسلم سنغالي (2)


موريس صليبا

الحوار المتمدن-العدد: 7162 - 2022 / 2 / 14 - 18:25
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


فقدان الذاكرة بحجّة التضامن الديني
رأينا في الحلقة الأولى أنّ الباحث السنغالي المسلم "تديان ندِيَياي" (Tidiane N’Diyaye)، نشر عام 2008 تحقيقا تاريخيّا باللغة الفرنسيّة عن تجارة الرقيق التي قام بها المسلمون العرب في إفريقيا، وصدر بحثه في كتاب بعنوان "الإبادة الملثّمة" (Le génocide voilé)، وأعيد نشره عدة مرات. ومنذ ذلك الحين، يواصل هذا الباحث شرح نتائج بحثه في محاضرات في الجامعات وعلى شاشات التلفزة في أوروبا وفي إفريقيا، وكذلك على مواقع التواصل الاجتماعي.
نتابع اليوم في هذه الحلقة تعليق هذا الباحث على محاولة أصحاب العلاقة طمس هذه القضيّة بحجّة التضامن الدينيّ.

سُئل مرّة الباحث الجزائريّ "مالك شبل" عن رأيه في تجارة الرقيق العربيّة الإسلاميّة فأجاب بأنّ الحديث عن هذه المأساة "أمر محظور في العالم العربيّ، ولكنّي أعتبره خطأ جسيما ومخزيا للغاية يستوجب الإدانة". هذا الواقع المرير يدفع إلى التساؤل: هل يحقّ لأصحاب العلاقة التغاضي عنه ونسيانه؟ هل يحقّ للمسئولين السياسيّين والأكاديميّين العرب المسلمين إماطة اللثام عن تجارة الرقيق التي مارسها أسلافهم، والتي كانت بالنسبة لإفريقيا السوداء وخلال قرون طويلة من الزمن، أكثر تخريبا ودمارا وفتكا من تجارة الرقيق عبر الأطلسيّ؟ لماذا يتجاهل عدد من الكتبة والبحّاثة تجارة الرقيق العربيّة الإسلاميّة، ويكتفون بحصر إطار بحثهم بتجارة الرقيق عبر الأطلسيّ فقط؟
علّق الباحث السنغالي المسلم "تديان ندِيَياي" في كتابه على هذه التساؤلات مجيبا: "عندما يتجرّأ بعض الباحثين الشجعان، وبالأخصّ من الأفارقة، ويثيرون موضوع تجارة الرقيق العربيّة الإسلاميّة، ينتفض العرب المسلمون ومفكّروهم ويقولون لهم بأن هذا الأمر لا يستحقّ الاهتمام، مقابل فظاعة تجارة الرقيق عبر الأطلسيّ. ولكنّنا نعرف جيّدا هذه التجارة ونعرف أيضا الأبحاث التي جرت حولها والتنديد بها منذ سنوات طويلة. فالدراسات والمنشورات الصادرة عنها لا تعدّ ولا تحصى. أمّا في العالم العربيّ الإسلاميّ، فقد سيطر الصمت الإجراميّ دائما على استشهاد الشعوب السوداء على أيديهم."
لا بدّ من الإشارة والتنويه إلى بروز أناس صادقين في العالم الغربيّ، استنكروا مصير الشعوب الإفريقيّة التي انسُلخت عن أرضها، وفُصل أولادها عن أمهاتهم اللواتي تعرّضن للهول والعذاب والحزن الأليم. وكذلك طالبت حركات سياسيّة عديدة في الغرب بوضع حدّ لتجارة الرقيق عبر الأطلسيّ، ولتجارة الرقيق عبر الصحراء ونحو الشرق. ولكن من المؤسف جدّا غياب أيّ أثر لمبادرة مشابهة في العالم العربيّ الإسلاميّ وأيّة نيّة للتأسّف والندامة حتّى اليوم.
لماذا هذا السكوت؟ يجيب الكثيرون بانّ الإسلام برّر العبوديّة وقَونَنَها، وأصبح بالتالي من الكفر عند العرب تجريمها. لذلك لم يستنكر أيّ مفكّر عربيّ مسلم هذا العمل الشائن المخزي الذي فُرض على الشعوب الإفريقيّة.
يأسف كثيرا باحثنا السنغالي المسلم ويتساءل كيف للإسلام الذي عرف "عصر أنوار" في العهود العبّاسّيّة والأندلسيّة والفاطميّة وتغاضى عن هذه المظالم، وكيف أسهم الموسوعيّون العرب في القرن العاشر في تقدّم العلوم الطبيعيّة، مثل الكيمياء والرياضيّات والفيزياء، وكيف أغنى علماء من أمثال ابن رشد و ابن طفيل، التراث العالميّ دون أن يستنكر أحد منهم تجارة الرقيق. وبالرغم من ذلك لم يعير هذا العالم العربيّ الإسلاميّ خلال تاريخه الطويل أيّ اهتمام بالتقليد النقديّ، وبالأخص بالنقد الذاتيّ، عندما يتعلّق الأمر بقضايا لم يدحضها الإسلام.
تأكيدا على ذلك، يذكّر الباحث السنغالي بابن خلدون الذي تهكّم على أعراق الشعوب الإفريقيّة في كتابه التاريخي المعروف بـ "المقدّمة"، فشدّد على تأثير المناخ مباشرة على وضع الحضارات وعلى أخلاق شعوبها. كما أبرز نوعا من التحقير نحو الشعوب السوداء مدّعيا التقلّب بأطباعها، وعدم استقرارها، وانفعاليّتها، وحاجتها إلى الرقص والطرب ما أن تعزف الموسيقى. وقد زعم أيضا، بالاستناد إلى براهين ملتوية وانتقائيّة، أنّ السود يعيشون في بلدان تسيطر فيها حرارة الطقس على طابع الإنسان وتكوينه، الأمر الذي يفسّر غباءهم ودونيّتهم.
كذلك يذكّر هذا الباحث بحديث أحد علماء المسلمين "الدمشقري" عن الشعوب السوداء الذي حقّرهم وأدانهم بقوله: "لم تنزل عليهم أيّة شريعة إلهيّة. لم يظهر بينهم أيّ نبيّ. ليسوا أهلا لنقل أيّة مفاهيم عن وصايا العمل بالمعروف والابتعاد عن المنكر، عن الرغبة والامتناع. عقليتهم قريبة من عقليّة البهائم. يعود خضوع الشعوب السوداء لأسيادهم وملوكهم فقط إلى القوانين والأنظمة التي فرضت عليهم مثلما فُرضت على الحيوانات." وبالتالي، ردّد ذلك الفقهاء والأمراء، بما فيهم أمير المغرب، مذكّرين بقول القرآن (16،71): وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي (توزيع) الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ (العبيد والإماء) فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ. أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ."
من المحزن أنّ هذه البراهين كانت ملائمة لهم ومريحة. فالقرآن لم يقل أكثر أو اقلّ مما يقوّله المفسّرون، لأنّ المهم بنظر "العلماء" العرب هو التفسير الذي يُعطى لما جاء في القرآن.
لهذا السبب عندما أبلغ حاكمُ الحجاز قرارَ الحكومة التركيّة بحظر الرقيق إلى محافظ مكّة وأمره بتطبيق ذلك، أصدر هذا الأخير، "الشيخ الجمل"، فتوى يستنكر فيها هذا القرار لاعتباره مخالفا ومناقضا لشريعة الإسلام المقدّسة. وبالتالي كفّر الأتراكَ واعتبرهم أوثانا مذكّرا بحقّ كل مسلم قتلهم واستعباد أولادهم شرعا. تقول تلك الفتوى: "الأتراك مرتدّون وعلينا محاربتهم ومحاربة من يتبعهم. فمن هم معنا هم مع السماء. ومن هم ضدّنا، مآلهم الجحيم. يحقّ لنا شرعا سفك دمائهم ومصادرة أملاكهم."
ويشير أيضا الباحث السنغالي إلى بعض الحالات الاستثنائيّة بين المسئولين الذين لم يتنكّروا لمؤسّسة العبوديّة، بل أعفوا منها الشعوب السوداء الذين اعتنقوا الإسلام. ذكر من بينهم المؤرّخ المغربيّ أحمد بن خالد النصيري (1834-1897) الذي اعترف بشرعيّة الرقيق في الشرع الإسلاميّ ولكنّه استنكر تطبيقه، كما ثار ضدّ ما وصفه بالبليّة البارزة والجارحة، ولكنّها قائمة ومنتشرة منذ زمن طويل في بلدان المغرب، أيّ استعباد الشعوب السوداء دون حدود واستيراد أفواج كاملة منهم كلّ سنة بهدف بيعهم في أسواق المدن والأرياف حيث يتاجر بهم المغاربة وكأنّهم بهائم أو أسوأ منها. اعترف هذا المؤرّخ بهذا التطرّف في المجتمع منذ زمن طويل حتّى أنّ الناس العاديّين كانوا يفكّرون بأنّ سبب استعباد الأفارقة يعود، حسب الشريعة المقدّسة، إلى بشرتهم وأصلهم من القارّة السوداء. لذلك ثار هذا المؤرّخ على ذلك، وأكّد باسم "الله الرحمن الرحيم" خطأ هذا المفهوم، واعتبره أسوأ إهانة لإله الإسلام بالذات وللدين الإسلاميّ. ولكنّه مع اعترافه غير الإنساني بإمكانيّة استعباد الوثنيّين دون تحفّظ، شدّد على حقّ الشعوب السوداء المتأسلمة بالتمتّع بنفس الحقوق والواجبات مثل باقي المسلمين.
لا شكّ أنّ العرب أنجزوا أعمالا كبيرة جميلة لخدمة الإنسانيّة في عصر "أنوارهم"، ولكنّهم اقترفوا في الوقت ذاته أشنع الجرائم بحقّ الشعوب الإفريقيّة.
وبالعودة إلى العبوديّة،لقد أُلغيت رسميّا في المملكة العربيّة السعوديّة عام 1962 وفي موريتانيا عام 1980، أي بعد زمن طويل من تونس والجزائر عام 1846، وذلك دون أيّ انتقاد ذاتيّ لهذه الصفحة السوداء من تاريخهم. ولكن في الوقت نفسه، حصل نقاش عنيف حول المعالم السلبيّة والإيجابيّة للوجود الأوروبيّ في إفريقيا، حيث جرى في ظلّ الاستعمار استغلال تلك الشعوب وفرض أنظمة قاسية عليها. ولكن ممّا لا يدع مجالا للشّك أنّ الاستعمار الأوروبيّ هو الذي وضع عام 1910 حدّا نهائيّا لتجارة الرقيق العربيّة الإسلاميّة في إفريقيا.
جرى غالبا طمس هذا الواقع الأليم، إي تجارة الرقيق العربيّة الإسلاميّة، واستخدمت أحيانا عبارة "إبادة" لوصف تجارة العبيد والعبوديّة التي مارسها الغرب. ولكنّ الباحث السنغالي استنتج بأنّ العبد في تجارة الرقيق عبر الأطلسي، حتّى وإن كانت لإنسانيّة، كان يحظى بقيمة تجاريّة من قبل صاحبه الذي أراده وجعل منه عاملا فاعلا في مؤسسته. كان من الصعب جدّا تحديد جسامة النزيف الذي تعرّضت له إفريقيا السوداء بسبب تجارة الرقيق عبر الأطلسيّ. ولكن مهما بلغ حجم هذا العدد، لا بدّ لنا اليوم من مراقبة دياسبورا الشعوب السوداء الديناميكيّة التي تكوّنت في البرازيل وجزر الكاراييب والولايات المتّحدة، لنستنتج عدم وجود أيّ عمل إباديّ ممنهج لها هناك، على غرار الإبادة الجماعيّة التي تعرّض لها الأرمن والأفارقة في العالم العربيّ الإسلاميّ أو اليهود في العهد النازيّ.
في العالم الجديد، تمكّن جميع الأفارقة الذين غادروا أوطانهم الأصليّة من تأمين سلالة لهم، فبلغ عددهم اليوم أكثر من سبعين مليونا. لذلك يفضّل الباحث السنغالي استخدام عبارة "المحرقة" (holocauste) لوصف تجارة الرقيق عبر الأطلسيّ، لأنّ هذه العبارة تعني تضحية بشر في سبيل رفاهيّة بشر آخرين، حتّى وإن وقع بينهم عدد لا بأس به من الضحايا. لذلك أقرّت معظم الدول الغربيّة التي تورّطت في هذه المأساة، بخطئها وبمسؤوليّتها. في فرنسا مثلا، أقرّ مجلس النوّاب في العاشر من أيّار/مايو عام 2001 قانونا يصف فيه تجارة الرقيق بـ "الجريمة ضدّ الإنسانيّة". ثمّ ارتفعت أصوات في بلدان أخرى واعتذرت عمّا فعلته عبر تاريخها. كذلك فعل الرئيس كلينتون وبعده البابا يوحنا بولس الثاني عام 1991 الذي طلب في جزيرة "غوريه" "الغفران عن الخطايا التي اقترفتها أوروبا المسيحيّة ضد إفريقيا".
وفي إطار الجرائم الكبرى التاريخيّة، وبالأخصّ "الشووا" La Shoah))، أيّ محرقة اليهود في زمن النازيّين، فقد اعترف ادولف هتلر نفسه بالعمل الإجراميّ المشين الذي اقترفه.
فقط، إبادة الشعوب السوداء بسبب تجارة الرقيق العربيّة الإسلاميّة لم تعترف بها البلدان العربيّة الإسلاميّة، مع العلم أنّ هذه الجريمة لا تسقط مع مرور الزمن لا تاريخيّا ولا قانونيّا ولا أخلاقيّا. فبالرغم من عدم وجود ضحايا وورثة للمجرمين، لا تستطيع الشعوب المتواطئة التهرّب من المسؤوليّة. كان أمل الكثيرين من البحّاثة الأفارقة كبيرا، بما فيهم الباحث السنغالي تديان ندِيَياي، في أن يكون هناك صدى للقرارات والتوصيّات التي اتّخذت في مؤتمر الأمم المتّحدة الذي انعقد في سبتمبر 2001 في مدينة "دربان" في جنوب إفريقيا. ولكن لم يوضّح ذلك المؤتمر بصورة شاملة وموضوعيّة المأساة التي عانت منها الشعوب السوداء في إفريقيا. وحتّى يومنا هذا، يعتبر الكثيرون من العرب والمسلمين تجارة الرقيق عبر الأطلسيّ التجارة الوحيدة التي جرى تنظيمها انطلاقا من أوروبا وأميركا وأدّت إلى وفاة أو نفي ملايين الأفارقة إلى العالم الجديد.
غير أنّ التاريخ يثبت أنّ العرب المسلمين هم السبب الأساسي لهذه المأساة المشينة والتي مارسوها على مستوى كبير وواسع جدّا. فإذا كانت التجارة عبر الأطلسي قد دامت من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، فالعرب المسلمون قد غزوا إفريقيا ومارسوا فيها تجارة الرقيق من القرن السابع وحتّى القرن العشرين. كانوا في تلك الفترة، أيّ حوالي ألف سنة، الوحيدين الذين مارسوا هذه التجارة الدنيئة، وتمكّنوا من اقتلاع أكثر من عشرة ملايين من الأفارقة من أراضيهم، قبل أن يصل الأوروبيون إلى إفريقيا. ولكنّ وصول العرب قبلهم إليها، لم يُدشِّن "مائة عام من العزلة" بالنسبة لشعوبها فحسب، بل ألف سنة من العذابات والمآسي البغيضة. وهذا ما كشف عنه الباحث السنغالي في كتابه.
في الواقع، دامت تجارة الرقيق العربيّة الإسلاميّة ثلاثة عشر قرنا دون انقطاع، واقتلعت عددا من الأفارقة يتجاوز إلى حدّ كبير ما فعلته تجارة الرقيق عبر الأطلسيّ. خلال الغزوات، قُتل عدد كبير جدّا من الأفارقة الذين حاولوا الدفاع عن أنفسهم وعن ذويهم، كما تعرّض الباقون منهم على قيد الحياة للعذاب والموت في وسط المستنقعات. وفي مناطق إفريقيّة عديدة، تعرّضت غالبيّة السكان لمآسي دون استثناء، إذ وقع الرجال الضعفاء أسرى بين أيدي تجّار الرقيق العرب. كان الأقوياء منهم يُقتلون خلال الهجوم، ويؤسر من بقي على قيد الحياة. أمّا الجرحى فكانوا يُتركون أرضاً عرضة للموت بسبب الأوبئة والمجاعة.
هذه التجارة وحدها هي المسئولة عن أكثر من 40% من أصل اثنين وأربعين مليون أسير إفريقيّ جرى اقتلاعهم من أرضهم ونفيهم إلى الخارج. هذا الرقم هو، حسب بعض المصادر، أقلّ من الواقع. لا بدّ من تطبيق نسبة 25% من الخطأ على مرحلة من الزمن امتدّت من منتصف القرن السابع وحتّى بداية القرن العشرين. فعندما نأخذ بالاعتبار وصول أسير واحد إلى المكان الذي يُباع فيه، يكون هناك ثلاثة أو أربعة أسرى قد لاقوا حتفهم مباشرة أو بشكل غير مباشر، بفعل انعكاسات "حروب التموين المقدّسة"، وحرق القرى ومستودعات الحبوب أو بسبب الجوع والأوبئة. هكذا يمكننا بسهولة تصوّر حجم تلك المأساة على مستوى القارّة الإفريقيّة.
لذلك يصعب جدّا على هذا الباحث السنغالي أن لا يصف هذه التجارة بـ "إبادة الشعوب السوداء" بالجملة، بواسطة المذابح، والغزوات الدمويّة، وخاصّة الخصاء المكثّف. وما يدهشه للغاية، هو وجود عدد كبير من الناس الذين يعملون في سبيل حجب رؤية هذه الإبادة ونسيانها باسم التضامن الدينيّ وحتّى العقائديّ. لقد أبرموا ميثاقا افتراضيّا بين أحفاد الضحايا وأحفاد الجلّادين والسفّاحين، وأدّى إلى الرفض والإنكار. نعم، هذا الميثاق هو افتراضيّ، ولكنّ الكارثة وقعت دون ريب. إنّها "متلازمة ستوكهولم على النمط الأفريقي"، تكشف عن أنّ أحفاد الضحايا وأحفاد السفّاحين يتوافقون معا لصبّ غضبهم على الغرب. حصل هذا وكأنّ أحفاد الضحايا أصبحوا مدينين لأحفاد السفّاحين وأصدقاء متضامنين معهم في السرّاء والضرّاء. فقرّروا تناسي كلّ شيء وعدم توجيه أيّ اتّهام لهم على الإطلاق.
غير أنّ مجموعة من البحّاثة الأفارقة المسلمين قاموا بمحاولة طويلة الأمد وحسّاسة من الناحيّة الفكريّة والدينيّة بهدف الفصل بين الإسلام ولون البشرة. يجري كلّ ذلك للتقريب بين الشعوب السوداء والعرب ولمحو صفحة سوداء من تاريخهم المشترك. لقد قُضي على هذه البادرة من الناحية الأدبيّة عبر الإصلاح الإسلاميّ والقوميّة العربيّة القائمين في جوهرهما، وقبل كلّ شيء، على الازدواجيّة التي يتضارب بسببها السود (أو السودان)، ذوو الدونيّة التي تجعل منهم "عبيدا" يشبهون عبدة الأوثان – وهذا تنكّر خفيّ للإسلام – أيّ عبيدا للمسلمين الآخرين من العرق البيض (أو البيضان). وهذا ما يستحقّ على الأقلّ توضيح بعض الأمور الثقيلة والمؤلمة والمسكوت عنها وقيام بعض الباحثين الأفارقة، عبر مقالات وأبحاث تنشر هنا وهناك، بمعالجة جرائم العرب المسلمين بحقّ الأفارقة، ولكن دائما بنوع من الخجل والخفر.
يتساءل تديان ندِيياي: "لماذا هذه الحساسيّة المرهفة وهذا الخبث المخادع الهادف إلى تخفيف جسامة هذه العمليّة الإجراميّة ودورها ومآسيها؟ يمكن بسهولة فهم محاولة المثقّفين والمفكّرين العرب المسلمين لإزالة هذا العار المشين وكأنّه لم يحدث. ولكن طالما لم يقرّروا مواجهة تاريخهم ومناقشة هذه الأحداث المذرية مع مواطنيهم بصدق وموضوعيّة، ستبقى هذه المرحلة من تاريخ الإنسانيّة مدفونة في الذاكرة الإجراميّة للشعوب المسئولة عنها. بالمقابل، من الصعب فهم موقف عدد من البحّاثة، بما فيهم الأفارقة الأميركيّين الذين يعتنقون الإسلام، وهو موقف ليس سليما على الإطلاق، لكونه يرزح في ظلّ المراقبة الذاتيّة، وكأن إثارة ماضي الاتّجار بالرقيق من قبل العرب المسلمين من شأنه أن يخفّف من عبء تجارة الرقيق عبر الأطلسيّ."
لم يبدأ بعدُ النقاش الموضوعي حول اندلاع النزيف التاريخي الذي سبّبه العرب في إفريقيا وانعكاساته الشديدة الغموض. فبالرغم من إغلاق آخر سوق للنخاسة رسميّا في المغرب عام 1920، تتواصل هذه المأساة حتّى زمننا الراهن، وبالأخصّ في دول الخليج وبلدان الشرق الأوسط. هناك أيضا بلد "عربيّ مسلم" ما زال يغضّ النظر عن هذا الواقع الاجتماعيّ المخزي في أشكاله المختلفة، ألا وهو الجمهوريّة الإسلاميّة الموريتانيّة. قال عنها أحد المراقبين: "العبوديّة في موريتانيا ما زالت موضوعا محظورا لا يُطرق. فلا السلطات التقليديّة ولا المسئولون الرسميّون يريدون وضع أنفسهم في قفص الاتّهام أو الإشارة إليهم بأيّ شكل من الأشكال. كي يتجنّبوا اتّهامهم بالمجاملة أو بالتواطؤ على الجرم، يحاول الجميع لفلفة هذه القضيّة والتستّر عليها وعدم طرحها أمام الرأي العام أو مناقشتها. يعتبرون السكوت عن المشاكل بشكل متناقض ومخادع، حلّا لها. ولكن وراء هذا السكوت الدفاعيّ يرتسم الخوف من انتفاضة العبيد ومطالبتهم بالمشاركة في ممارسة الحكم."
أمّا المهاجرون الأفارقة في زمننا الحاضر، فنراهم في ليبيا والمغرب وكذلك في الجزائر، يتذمّرون ويعانون الأمرّين من المعاملات السيئة التي يلاقونها ومن استغلالهم المشين والعنيف غالبا، بالرغم من مشاركتهم نفس الدين وقبولهم بـ "التضامن السياسيّ".
ويستنتج باحثنا السنغالي بالقول: "إذا كان معظم الأفارقة الذين جرى نفيهم واستعبادهم في العالم العربيّ الإسلاميّ، قد زالوا من الوجود تقريبا بسبب الخصاء، فإنّ سفّاحي الأمس معروفون وهويتهم واضحة، وأسماؤهم متوّفرة، لأنّ الوقائع يصعب طمسها. لقد سبقت تجارة الرقيق العربيّة الإسلاميّة وصول الأوروبيّين إلى القارّة السوداء. فملايين الأفارقة جرى غزوهم وقتلهم أو أسرهم، وكذلك خصاءهم قبل نفيهم في ظروف وأوضاع مشينة للغاية، نحو الشرق ومصر وبعض الدول الإسلاميّة، بواسطة القوافل أو عبر البحار، انطلاقا من المراكز التجاريّة على شواطئ إفريقيا الشرقيّة. تذرّع العرب المسلمون بحجّة أسلمة الشعوب الإفريقيّة، فاقترفوا الجرائم الأكثر خزيا والأعمال الهمجيّة الأكثر اشمئزازا. جرى مسبقا إعداد هذه الأعمال الإجراميّة، وتنظيمها واستمرارها وتبريرها خلال أجيال من قبل شعوب يدّعون بانتمائهم إلى دين توحيديّ وإنسانيّ ويتبعون تعاليم النبيّ محمّد."
لا يستهدف تديان ندِيَياي في بحثه هذا تهذيب الأخلاق، بل يتساءل: "كيف يمكن مقارنة ما حدث، نظرا إلى العقليّات والحساسيّات في العصور السابقة، مع ما هو قائم اليوم؟ لذلك تطمح محاولتنا إلى إعلام الناس وتحسيسهم بالبعد الهائل لتلك التجارة المرعبة بالرقيق عبر الصحراء ومن الشواطئ الشرقيّة في إفريقيا. لقد حان الوقت كي يقبل البحّاثة في الدول المعنيّة ويصبّون جهودهم على تلك الصفحة السوداء المخزية من تاريخهم المشترك. لا يمكن استخلاص أيّ تعليم دون الاعتراف الصريح والرسمي بهذه الأحداث التاريخيّة الثابتة. انتظرنا في مؤتمر "دربان" الجرأة والشجاعة لعرض هذه المسألة من جميع جوانبها. غير أنّ المشاركين لفلفوها ونجحوا في إخفاء أو بالأحرى في حجب دور ومسؤوليّة الأمم العربيّة المسلمة في استشهاد الشعوب السوداء الإفريقيّة واستنزافها خلال ثلاثة عشر قرنا من الزمن دون انقطاع. خلطوا الأمور خارج الموضوع، عندما قام بعض المشاركين بالحديث عن "جرائم الصهيونيّة" وعن التضامن مع الفلسطينيّين. كما اكتفوا في توجيه الاتّهام إلى تجّار الرقيق الغربيّين ومطالبتهم بالندامة والتعويض المالي. هكذا أماطوا اللثام في الوقت نفسه عن كل الجرائم الأخرى، وافسدوا جوهر ذلك اللقاء، حيث كان منتظرا الكشف عن كلّ الوقائع والحقائق والمسؤوليّات والتواطؤ بمختلف أشكاله حول كلّ أنواع الاتّجار بالرقيق. فحجاب الصمت الذي أسدلوه، أخفى جريمة العرب المسلمين في هذا المجال. استهدف الصمت التضليل بحكم الإدّعاءات الكاذبة والخداع والبراهين السلطويّة التي أخّرت لا بل عطّلت كل توضيح وكشف للوقائع عن هذا الموضوع."
في خلاصة الأمر، حّدد هذا الباحث المسلم الجريء الأهوال الشنيعة لهذه الإبادة منذ بدايتها بفضل الشهادات التي تركها عدد من المؤرّخين والرحّالة. وهناك معطيات أخرى لم يُكشف عنها بعد، من شأنها أن تنزع القناع وتوضّح أمورا كثيرة، خاصّة في الوقت الذي توصّل فيه البحّاثة لمقارنة المعطيات التاريخيّة والتقاليد الشفهيّة عبر استخدام علوم الأنتروبولوجيا والديموغرافيا، وذلك للتعويض عن نواقص الوثائق المكتوبة.
ويختم تديان ندِيَياي بحثه بالقول: "في هذه المأساة، تبقى ذاكرة الأموات أكثر هولا وإثارة من ذاكرة الأحياء. بدلا من مطالبته بالثأر، يطالب الدم بالعدالة أمام التاريخ، رغم التلعثم حول ما يحدث في دارفور. الشعار الشهير never again الذي أطلقه المجتمع الدوليّ غداة الحرب العالميّة الثانية، أيّ عدم السماح إطلاقا بعد الآن بحدوث مثل تلك المجازر، لا قيمة له إطلاقا ولا معنى له عندما يحصل حجب انتقائي في الذاكرة. لن ينجح الخداع والصمت إلى ما لانهاية في حجب وإخفاء أحداث ثابتة وأكيدة. فالذاكرة الإنسانيّة تفرض أن لا يماط اللثام أبدا عن أهوال تاريخيّة مؤلمة وكارثيّة."
لا خفيّ إلّا سيظهر ولا مكتوم إلّا سيعلن.



#موريس_صليبا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإسلام وتجارة العبيد في إفريقيا من منظور باحث مسلم سنغالي
- -الإسلام يُعرّيهِ بنو جِلدتِهِ-
- -لا دموع في سبيل الله-، كتاب السعوديّة خلود بريده
- من اختلس مليارات دول الخليج التي دفعت إلى فرنسا بعد تحرير ال ...
- – الكافر سعيد – ومهاجمة الصحافة المغربيّة له (18)
- - الكافر سعيد –ومؤسساته (17)
- - الكافر سعيد - يواجه المسلمين (16)
- - الكافر سعيد – يلتزم في خدمة المسيح (15)
- - سعيد الكافر - وأزمة المسلمين في أوروبا مع هويّتهم (14)
- -الكافر سعيد- يصارح والديه بحبّه للمسيح
- -الكافر سعيد- يتصالح مع الذات والأهل
- الكافر سعيد يقبل المعموديّة (11)
- الكافر سعيد، و صرعة حبّه في يسوع المسيح (10)
- -الكافر سعيد- يعود إلى التمرّد والتشدّد والإنحراف (9)
- الكافر سعيد يشكّك في الإسلام (8)
- - الكافر سعيد- رسول المغاربة (7)
- - الكافر سعيد- رسول المغاربة (6)
- - الكافر سعيد- رسول المغاربة (5) -شقيقتي الكبيرة تعتنق المسي ...
- - الكافر سعيد - رسول المغاربة (4)
- -الكافر سعيد- رسول المغاربة (3)


المزيد.....




- ماذا قال الجيش الأمريكي والتحالف الدولي عن -الانفجار- في قاع ...
- هل يؤيد الإسرائيليون الرد على هجوم إيران الأسبوع الماضي؟
- كوريا الشمالية تختبر -رأسا حربيا كبيرا جدا-
- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - موريس صليبا - الإسلام وتجارة العبيد في إفريقيا من منظور باحث مسلم سنغالي (2)