|
الكافر سعيد يشكّك في الإسلام (8)
موريس صليبا
الحوار المتمدن-العدد: 5231 - 2016 / 7 / 22 - 22:08
المحور:
مقابلات و حوارات
مرحلة التشكيك في الإسلام
بعد تفسيره لنا في الحلقة السابقة للصراع الذي عاشه بألم شديد "سعيد الكافر" في مرحلة المراهقة، نرى معه الآن كيف بدأ فعلا مرحلة جديدة مفصليّة عندما بدأ يشكّك بالإسلام وتعاليمه والتداعيات التي يعاني منها معتنقو هذا الدين.
س – مرحبا بك من جديد، أخ سعيد! هل بالإمكان أن تشرح لنا كيف ومتى برزت لديك عمليّة الشكّ والتشكيك وطرح التساؤلات حول الإسلام؟
ج – كانت هذه العمليّة حاضرة في ذهني منذ فترة طويلة. ولكنّي وصلت إلى وقت قررت فيه التوجّه مباشرة وفي نفس الوقت إلى يسوع المسيح وإلى محمّد، وأردت الحصول على أجوبة واضحة منهما من شأنها أن تكشف لي الحقيقة وتنوّرني. أخذت في نفس الوقت تلاوة الصلوات المسيحيّة والصلوات الإسلاميّة. كما كنت أقرأ الكتاب المقدّس أوّلا ثم والقرآن، حتى وصلت إلى مرحلة لم أعد أعرف فيها إن كنت مسيحيّا أو مسلما، فرنسيّا أو عربيّا، أوروبيّا أو إفريقيّا، ملحدا أم مؤمنا. أذكر عندما قُدِّم لي كتاب الإنجيل لأوّل مرّة، بادرت حاى إلى تخبئته وراء شجرة كرز قريبة من بيتنا. والسبب يعود إلى توجّس والدتي التي كانت تفتّش كلّ أغراضي التي كنت آتي بها كلّ مرّة بعد عودتي من زيارة شقيقتي. قبل ذلك الوقت كنت أقرأ كلّ مساء في هذا الكتاب.
س – في تلك المرحلة، ألم يتنبّه أبوك أو أمّك أبدا إلى قراءتك في كتاب الإنجيل؟
ج – أذكر في تلك الفترة أنّ أمّي لاحظت تغييرا في سلوكي. فدخلت مرّة فجأة إلى غرفتي ورأتني اقرأ في الإنجيل. حينها اشتعلت الدني، واندلعت الكارثة وصاحت أمّي بأعلى صوتها متغضّبة عليّ وعلى الكتاب الذي أقرأ فيه وعلى من أعطاني إيّاه وعلى شقيقتي التي تتردّد على كنائس المسيحيّين "الكفرة". فهمَت حالا، بالرغم من أميّتها، أنّ ذلك الكتاب الذي كنت أقرأ فيه هو الإنجيل. انتزعته بغضب من يدي ومزّقته، وأقته في سلّة المهملات، ولم أستطع فعل شيء لمقاومتها. وهكذا حرمتني آنذاك من قراءة حياة السيّد المسيح وفق إنجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا والرؤيا. في الوقت نفسه، شعرت بالخزي والخيانة والخوف من أن يعرف أبي بذلك، فيصبّ جام غضبه عليّ. يومها كنت في سنّ الرابعة عشر. في تلك المرحلة كنت ألعب مع رفاقي بـ"البابي فوت" ،وفي نفس الوقت كنت أعيش حالة صراع داخليّ رهيب.
س – هل تعتقد أنّ هذا الصراع الداخلي الذي توقّفنا عنده في الحلقة السابقة، وتتحدّث عنه اليوم، له علاقة مباشرة أو غير مباشرة باجواء العائلة المسلمة المحافظة التي أبصرت النور في حضنها وترعرت داخلها؟
ج – لا بدّ من التوقّف قليلا عند هذه النقطة. أنا ولدت في عائلة مسلمة، لم نعرف فيها إلاّ القليل جدّا من الحوار والنقاش. عشنا في صمت رهيب شبه تام داخلها، إذ كانت تسود عائلتنا أجواء من القساوة والخوف والرهبة وحتّى القلق والاضطراب. لم نعرف بين الإخوة والأخوات الكثير من الحوارات البنّاءة والتبادل الهادئ والتفاهم المنطقيّ والتناغم الأخويّ. عشنا وترعرعنا معا وكأنّنا ضحايا لعنة وراثية حلّت بنا ونزلت علينا من السماء ولا مجال للهرب أو التخلّص منها. وكأن هذا الأمر كان "مكتوبا" لا محالة. قضاء أو قدر يلاحقنا، وعلينا بالاستسلام له. في الحقيقة، أستطيع اليوم القول بعد اختبار طويل إن كان في عائلتنا، أو مع عائلات مسلمة عديدة، هناك جوّ من الكراهية وروح الإنتقام يخيّم فيها، إذ لا نعرف ولم نعش إطلاقا أهميّة التسامح وقيمة الغفران التي يعلّمنا إيّاها الإنجيل. لهذا السبب لا أستغرب أبدا ولا أستبعد إطلاقا وجود علاقة مباشرة محتّمة قائمة بين الأجواء العائليّة المضطربة والصراع الداخلي الذي عانيت منه طويلا. وهناك الكثيرون من أمثالي ما زالوا يعانون منه ويتألمون من زيوله.
س – تقول إنّ نزعة الأنتقام كانت سائدة. كيف لاحظتها وكيف تفسّر ذلك؟
ج – نعم، أنت تعلم، في الإسلام كما في اليهوديّة، الانتقام يعني شريعة السنّ بالسنّ والعين يالعين، ولكن بالنسبة لنا تطوّرت هذه الشريعة عمليّا واصبحت السنّ مقابل الفكّ والعين مقابل الراس. وأحيانا كان من المحتمل جدّا الذهاب والإنحراف إلى أبعد من ذلك بكثير. وهذا ما عانينا منه مرارا داخل الأسرة.
س- هل تجاوزت بسهولة هذه الحالة وتحرّرت من روح الإنتقام؟
ج – عشنا خلال سنوات طويلة في حالة من الكراهيّة. أبي وأمّي ما كانا يتكلّمان معا كثيرا ولا يتحاوران ولا يتناقشان. كانت خطوط الدبلوماسيّة ولغة الحبّ واللطف مقطوعة. والمؤسف أنّهما النموذج الوحيد لنا والمرجع البارز أمامنا. كانا دائما يردّدان على مسامعنا: "لا تعارضوا أقوال الإمام وتعاليم القرآن، عليكم أن تستمعوا لأوامر السلطة الدينيّة وتخضعوا لها وتعملوا بموجبها!" وبدوره كان الإمام يردّد علينا باستمرار: "عليكم بإطاعة الوالدين، رضى الله عليكم من رضى الوالدين، عليكم بالإستماع إلى كلامهم، إيّاكم معاكستهم...وإلاّ سيحلّ عليكم وإلى الأبد غضب الله وجبروته، وستكون نهايتكم في نار أبديّة". نعم، كان جوّ العائلة قاسيّا والخوف سائدا ومسيطرا على قلوبنا وعقولنا وكلّ جوارحنا. كيف تستطيع العيش بهدوء وسكينة وكرامة ومحبة في مثل هكذا أجواء. نعم، الصمت كان لعنة منزلة علينا، ومحكوم علينا توريثها لأولادنا، وخنقها في أحشائنا. خارج البيت، كنّا نتكلّم، أو بكلام آخر، كنّا نستغلّ الظروف لنفسّح عن أشجاننا وحسراتنا وعقدنا النفسيّة، ونثرثر كثيرا للتعويض عن صمتنا المنزليّ، ونقوم بتسلية الناس وحثّهم على اللهو والضحك. ولكن الغريب المؤلم، ما أن ندخل عتبة البيت حتّى نعود إلى طبيعتنا، ونتحجّب بقناع الصمت والخوف، ونتقوقع وراءه.
س – هل هذا دليل على أنّك كنت آنذاك تعيش كإنسان ذي وجهين، أي حياة ازدواجيّة رهيبة؟
ج – نعم، أعتقد أنّني عشت فترة مؤلمة من طفولتي ومرحلة المراهقة في هذه الإزدواجيّة الرهيبة الكارثيّة. خارج البيت كنت أتكلّم مع كلّ الناس. جمّعت حولي الكثير من الرفاق والأصحاب. كنّا نلهو ونلعب ونملأ الحيّ بضجيجنا وزعيقنا وصراخنا. غير أنّ لساني كان ينقطع في البيت وأتحوّل إلى ولد مصاب بمرض الخرس أو البكم، وكانّي في قبر لا هواء ولا منفس فيه. كانت تمرّ أحيانا سنة كاملة دون أن أخاطب أبي. خلال سنوات المدرسة كانت العلاقة معه شبه مقطوعة، ما كان يوجّه لي الكلام إلاّ عند حاجته إلى ملء الوثائق الإداريّة أو كتابة رسالة أو تقديم طلب للحصول على مساعدات من الدولة. كانت أوامره دائما قاطعة: "يا صبيّ، إملأ هذه الورقة، أو هذه الإستمارة! أجب على هذا الطلب أو على هذه الرسالة الإداريّة!" أسمح لي هنا أن أكون أكثر وضوحا وصراحة وتفهما لواقع أليم. لا بدّ لي من الإعتراف والقول بمرارة بأنّ أبي حُرم هو أيضا بدوره، عندما كان طفلا، من الحبّ الذي ننشده ونتوق إليه. لم يعرف أبدا ما هو الحبّ الحقيقي بين رجل وإمراة وما معن الحبّ وقيمته بين أب وابنه. لذلك يؤلمني اليوم القول: لم يكن بوسعه في عذه الحال أن يحبّ أو أن يعبّر عن حبّه وحنانه تجاه أولاده. لم يعرف أبي وأمّي ما هو التسامح ولم يعيشاه أمامنا ومعنا، كي نرثه عنهما بشكل طبيعيّ. هذه الأمور لا تُقال ولا يُعبّر عنها، ولكن معظم المسلمين يعيشونها بصمت وإحباط، ويعانون منها ومن عواقبها طيلة حياتهم. خلال تربيتنا العائلية لم تتوفّر لنا الفرصة للتعبير عن مشاعرنا وعواطفنا وميولنا، بل تركناها تنمو بالفطرة ودون أيّ توجيه وتنمية وتكامل وانفتاح وصراحة. كنّا نقول "نحنا عايشين، اتركها على الها"، دون أي تعبير أو كشف عن الأعراض النفسيّة التي أصابتنا وما زالت. كل ذلك كان من التابوهات أو المحرّمات. إسمع ما أخبرتني أمّي ماذا قيل لها عندما زُفّت لأبي: "الآن تتزوّجين وتصمتين، وإذا ضربك بعلُك، تصمتين أيضا، وتتحمّلين كلّ شيء، ولا تفكّري بالعودة أبدا إلى بيت أهلك." هكذا عاش أبي وأمّي في المغرب. وعند وصولنا إلى فرنسا، دخلا في عالم آخر مختلف وغريب عن عالمهما الأصلي، عن بيئتهما العائليّة وعن تقاليدهما القبليّة. لم يتمكّنا أبدا من التعبير عن هذه المحن التي قبلوها طوعا أو كرها، لربّما لم تخطر على بالهما. أما نحن الأولاد فما كان علينا، بحكم الطبيعة، إلاّ أن نرث كلّ ذلك عنهما كما ورثاه هما بدورهما عن بيئتهما العائليّة التقليديّة. وهذا أمر نفهمه ونحاول تحليله وتبريره اليوم كراشدين بعد اختبارنا في الحياة وانفتاحنا على العالم. لذلك بدأنا الآن بالتعبير عنها، وهذا دليل على نضجنا ودخولنا، أو بالأحرى على دخول بعضنا في طور الشفاء من هذه المأساة العائلية الوراثيّة القبليّة التقليديّة. أقول ذلك بتحفّظ وبألم شديد.
س – هل تعتقد أن معظم أولاد المهاجرين ما زالوا يمرّون بنفس المرحلة والمعاناة التي تتحدّث عنها وتصفها بكثير من المرارة؟
ج – نعم، نعم، وللإسف الشديد، معظمهم ما زال يعاني من هذه المأساة، مع العلم أنّ الجيل الثالث من المهاجرين يعبّر اليوم عن هذه المعاناة بشكل رهيب ومدمّر للشخصيّة الإنسانية أكثر من أي وقت مضى. فنراهم يلجأون إلى كلّ الإنحرافات السلبيّة، مثل الإعتداءات على الناس الأبرياء وحرق السيّارات في الشوارع وفي المناسبات، وأعمال الشغب وعمليّات الإرهاب في الأعياد الكبيرة، كعيد الميلاد وعيد رأس السنة، وذلك لعدم توفّر وسائل أخرى لديهم للتعبير عن كبتهم ومأساتهم خارج العنف. أعتقد أنّ الذين يقومون بذلك، بشكل عفويّ أو مقصود، لربّما يقدمون عل مثل هذه الأعمال بهدف الإستئصال من قلوبهم لكل هذه الألام والكراهية والكلمات المرعبة الهدّامة التي كانوا يسمعونها مرارا وتكرارا مثل: "أنت حمار! ولا أمل فيك! ولن تنجح أبدا!" في الحقيقة، نحن بحاجة ماسّة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى العديد من علماء النفس والإجتماع والمربّين لمواكبة أجيال وأجيال من أولاد المهاجرين وتحليل المشكلات في بيئتهم العائليّة والعناية بهم وبصحّتهم العقليّة. هيهات أن يتحقّق يوما هذا الحلم! هل ستتوفّر يوما في البلدان المضيفة لهذا العدد الضخم من المهاجرين وأولاد المهاجرين وأحفادهم، الإمكانيّات والقدرات والطّاقات الإنسانيّة والمادّيّة الكافية والمؤهلة لمواجهة هذا الكمّ الهائل من المآسي! هذا هو السؤال الذي يراودني باستمرار.
نتابع حوارنا مع "الكافر سعيد" في حلقة قادمة.
#موريس_صليبا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
- الكافر سعيد- رسول المغاربة (7)
-
- الكافر سعيد- رسول المغاربة (6)
-
- الكافر سعيد- رسول المغاربة (5) -شقيقتي الكبيرة تعتنق المسي
...
-
- الكافر سعيد - رسول المغاربة (4)
-
-الكافر سعيد- رسول المغاربة (3)
-
-الكافر سعيد- رسول المغاربة (2)
-
سعيد الكافر، رسول المغاربة
-
هوبار لومار : -المسلمون يكذبون علينا وعلى أنفسهم-
-
القرآن في مشرحة -اللوغاريتم-
-
حول كتاب حامد عبد الصمد - انهيار العالم الإسلامي -
-
ألإسلام بحاجة إلى ثورة جنسية - الحلقة الثالثة والأخيرة
-
ألإسلام بحاجة إلى ثورة جنسية - الحلقة الثانية
-
ألإسلام بحاجة إلى ثورة جنسية
المزيد.....
-
وفاة المغنية سيسي هيوستن والدة الراحلة ويتني هيوستن
-
أطعمتها مرارًا لتتفاجأ بانتشارها.. شاهد حيوانات الراكون تغزو
...
-
تقرير: أوستن غضب من غالانت بسبب نصرالله
-
بوتين يستقبل باشينيان ويدعوه إلى قمة -بريكس- في قازان
-
الدفاع الروسية: الخسائر الأوكرانية على محور كورسك فاقت 200
...
-
أكثر من مليون نازح.. بوريل: الوضع في لبنان -يزداد سوءا-
-
الجيش الإسرائيلي يعلن السيطرة على مجمع قتالي لحزب الله في ما
...
-
الاتحاد الأوروبي يعد أوكرانيا لبحث السلام -بشروط مواتية-
-
مراسل RT: استمرار العملية البرية الإسرائيلية في جباليا لليوم
...
-
مصدر حكومي ألماني يعلن استعداد شولتس للتحدث مع بوتين
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|