أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كامل حسن الدليمي - يوميات مريض















المزيد.....


يوميات مريض


كامل حسن الدليمي

الحوار المتمدن-العدد: 4811 - 2015 / 5 / 19 - 11:37
المحور: الادب والفن
    


اليوم الأول :
أحاذر كثيرا وأتحسب في ظل الدولة الديمقراطية المزعومة من مراجعة أية دائرة حكومية إلا مضطرا وملزما على ذلك، ومن بين الدوائر التي اضطررت لمراجعتها منذ الاحتلال الغاشم لعراقنا الجليل حتى عام 2015 هي "دائرة شؤون المحاربين ، ودائرة التقاعد العامة ، ودائرة الجوازات، والجنسية" فقط واذا مرضت أراجع أخصائي في عيادته أو أسافر خارج البلاد للعلاج ، وهكذا تخلصت من هم التوسل والتذلل الروتين القاتل السائد في دوائرنا ، لقد حكم ابني بوشاية كيدية حكما خياليا على قضية مدنية ملفقة من أحد الرفاق الذي ظهر فيما بعد انه يعمل ضمن الخلايا النائمة وشخص آخر كان مراسلا عند المقبور عزت إبراهيم ، ولم أراجع دائرة معنية لأنني لا أنتمي إلا للعراق ولا أعرف وجهاً كالحا كتلك الوجوه التي عرفها سماسرة السلطة والقوادون ،فأوكلت أمري لله وجعلته حسبي ، هكذا مرت السنوات العجاف في ظل انعدام الأنظمة وسيادة الانتماء الحزبي والمناطقي وشيوع وتفشي الرشوة والاستهتار بحقوق المواطن، وعلو كعب الانتهازيين ممن يستطيع تغيير وجهه في اليوم مرات ، ساد المتحزبون والطائفيين وتراجع نجم الشرفاء والوطنيين .
لكني وفي ظل الطوارئ أصبحت مجبرا على التعاطي مع دائرة من المفروض أنها تقدم خدمة للمواطن وخدمة إنسانية مجانية تكفلت الدولة باجراء الرواتب والامتيازات للعاملين عليها منذ تأسيس دولة العراق الحديثة ،انها الدوائر الصحية ، فتعاملت مع المستشفى لإصابة احد أفراد أسرتي بحادث وسأتحفظ على ذكر المستشفى ولن اسمي الأشخاص إنما سأبرهن على حقيقة مفادها "أن الفساد ينخر جسد الدولة ودوائرها ويقضي بشكل تام على إي نوع من أنواع التعامل الإنساني وفي هذه اليوميات سأتوخى الدقة والموضوعية في سرد الأحداث مع الأخذ بنظر الاعتبار أن هذه اليوميات القصد منها الإصلاح والتأشير على المناطق الرخوة الواهنة في دوائرنا وليس التشهير كما يفعل المأجورين وهذا أعلى درجات الحرص على سلامة تلك المؤسسات وتقويمها وإصلاحها وإشاعة روح المحبة لنفعل الجانب الإنساني من خلال ما تؤدي هذه الدوائر من خدمة للصالح العام :
"الساعة الحادية عشرة والنصف قبل منتصف الليل ، الشوارع خالية إلا من قمامة متطايرة ،وبعض الثملين وهم يجرون معهم خيباتهم إلى بيوتهم الملتهبة ، التيار الكهربائي مقطوع في معظم أحياء المدينة ، مرآب العجلات مظلم ورجل يقف في الباب مشيرا للداخلين بتحريك رأسه: افتح الصندوق وهات السنوية والجنسية و..و..و..و .. كأنه يستخرج لك بطاقة الحياة ، الحادث خطير، ركنت عجلتي في زاوية وهرعت مسرعا نحو المستشفى الذي تسمر على بابه شرطي يتثاءب، بادلني نظرة حاقدة فلم اعره اهتمام وواصلت مسيرتي نحو مكان وجود المريض فقطعت طرقات نيسمية كثيرة حتى وصلت المكان وطالما تعثرت بأكوام القمامة لأصل إلى دهليز مظلم موحش وباب خشبي كبير كأنه باب قلعة تخلفت من العصور الوسطى طرقت الباب مرة ومرتين وثلاثة حتى ظهر علي رجل مكفهر الوجه حليق الرأس والشارب يرتدي بزة حمراء كأنه سياف خليفة متجبر من العصور الخوالي وهو يردد مفردة تدل على احترام وتقدير المواطن الذي تقاتلت الكتل، والأكوام على خدمته واحترامه :
- ها شتريد كلي شتريد
- عندي مريض حالة طارئة... مروتك أريد أشوف الحالة
- ممنوع اطلع بره ...
يا الله ما هذه اللغة المهذبة استقبلت وأنا اشتعل خوفا على المصاب فهادنته وتوسلت كالمستجدي ، ووقرته فوق ما يستحق حتى سمح لي بعد أن فرض علي شروطا مهينة لكني مضطر للقبول بها ، بعد وصولي غرفة المصاب وجدته مسجى وهو يصرخ مستغيثا فقلت لأحد الممرضين الم تسعفوه قال بلى ولكن هو بحاجة لبعض الأدوية عليك الآن جلبها من الأسواق إذا أردته أن يهدأ قالها بكل برود وكأن الأمر لا يعنيه وانه متطوع لأداء هذا العمل .
ودون إي اعتراض حملت الورقة وحثثت الخطى بل ركضت رغم نحولي وعدم قدرتي على الوقوف على قدمي اثر الصدمة وجدت الصيدلية القريبة من المستشفى لم تغلق أبوابها بعد وكأن صاحبها قد أدرك خلو المستشفى من العلاجات المهمة فوفرها وظل ساهرا لاصطياد المضطرين ومضاعفة السعر مرة أو مرتين فلا رقابة ولا خشية من رب أو مربوب وعلى هذا فطرت الضمائر الميتة . جلبت الدواء وحقن المريض ثم جاءني النداء من خارج الغرفة :
- يله اطلع بره نريد أنام الساعة الواحدة .
وبهذا الأسلوب الإنساني خرجت متوجها خارج البناية مكللا بالخيبة والحزن، والألم بدأ يدب في أقدامي أريد إي مكان أستريح فيه ، فكرت بمكان جميل ونظيف أبصرته على مدخل الدهليز المؤدي لهذه البناية انها الحديقة هي الحل الأمثل هي الفندق المجاني فراشها وثير لا أحد سيصرخ بي هناك .
نقلت خطواتي تجاه الحديقة وكلي أمل من أني سأحصل على قسط من الراحة وسأطمئن عائلتي على حالة المريض وسأغط في نومة عميقة .
وصلت إلى بوابة الحديقة وكانت المفاجأة الكبرى ، الحديقة مرتبة من الداخل لكنها مقفلة بقفل سبعيني كبير كان يستخدم للحفاظ على المخازن الكبيرة للحبوب والمواد الغذائية خصوصا إبان الحصار الاقتصادي على العراق فقد كانت مثل هذه الأقفال عملة نادرة اعتاد أصحاب الممتلكات بل حتى البيوت استخدامها خشية سرقة ملابس أو قنينة غاز أو أي شيء آخر لان الجوع هو كان هو السيد "والفراريه "من الخدمة العسكرية كثر ، يا رب ما هذا التخلف لمن إذن الحدائق في المستشفيات ولماذا كل هذه الاستهانة بالإنسان لا مكان يشعره بإنسانيته ولا تعامل يحببه بالدائرة ، الكل متوتر لا أحد يبتسم بوجه الآخر ، الموت والمرض وقلة الاحترام يصدر من أي موظف وعلى المواطن ان يخنع ويستكين ، ربما نسي هؤلاء اننا خدام لبعضنا بما نؤدي من أعمال ، بل البلدان تبنى بالإخلاص وبالمحبة والتراحم ، هل تحكمنا شرعة الإسلام اشك في ذلك لان الإسلام دين سماحة ومحبة ، لا ابدا الآن أدركت ... تحكمنا المصالح الذاتية ومعيار الناجح صار بقدرته على سلب الآخرين تحت أي ظرف حتى لو كان الموت نعم حقا أهلي ابتاعوا قبورا في مقبرة السلام وجدناها قد بيعت لأكثر من جهة حقا حتى الموت تجارة ، أما المرض ورغم وجود ملائكة هناك شياطين كثر هم المتسيدون .
شكل القفل الكبير صدمة كبيرة لي ، نعم حطم آمالي العريضات في إيجاد مأوى فقضيت الليل مع الكلاب السائبة ،والقطط المتوحشة مع مجموعة من أمثالي بين الرصيف الإسفلتي وبعض الأماكن المهملة التي صارت مكبا للنفايات ... وهكذا أنهيت الليلة الأولى واستقبلت النهار عسى أن يكون الأمر أفضل .
(2)
العصافير التي اختارت أشجار الكالبتوز مأوىً لها ، استيقظت باكرة تسبح باسم الله ،والشمس هاهي تنشر على ارض الله جدائلها الذهبية ، بيد أن الأنين الذي اسمعه من وراء الجدران يبعث على الأسى والحزن يا ألهي أتمنى أن أرى المريض كيف أصبح تسللت خلسة إلى ذلك الباب الكبير أمسكت بمزلاجه فإذا هو مفتوح لا أحد الكل يغطون في نوم عميق ، فقط أصوات الموجوعين تنبعث من الغرف التي تشبه السجون الانفرادية ارتديت الواقيات وسحبت أقدامي بهدوء تام نحو غرفه رقم (...) وجدت المريض يئن لشدة الالم ،بل فقد القدرة على الصراخ وجهه تورم كثيرا ، والتزم الصمت ماذا افعل..؟ لا ادري الوقت يمر ثقيلا أنا عاجز عن أي فعل ، الحياة بدأت تدب شيئا فشيئا في أرجاء المستشفى ،استيقظ بعض العاملين ، هاهو الخافر يتخطى بين الغرف ببزته الحمراء كجلاد ، توجهت نحوه :
- أخي العزيز أنت الخافر؟... أرجو أن تأتي معي لمشاهدة مريضي انه يتألم كثيرا أتوسل إليك ساعده بما تستطيع ...
- في أي غرفة سأساعده ولكن .... وتمتم بما لا افهم .
ثم تابعت متسائلا هل تساعدني فأشار إلى سقف البناية مشيرا لي نحو الباب فسار وتبعته حتى خرجنا من البناية فقال :
- الكاميرات "خربت الشغل" لاعب أيدك لقد سلبتنا الهنديات رزقنا إنهن يتقاضين 500 دولار بينما راتبي هو 400 ألف دينار نحن نعتاش على ما يجود به أهالي المرضى أمثالك علينا ،وبدأ بكائية طويلة استثارتني واسترخصت ما بجيبي فقلت أنا سأكرمك ولكن ساعد مريضي وبعد لحظة صمت قال :
- اذهب اجلب لي هذا الدواء وستجدني انتظرك حتى وان انتهى واجبي.
فهرولت باتجاه الباب الرئيس للمستشفى حيث دكاكين الدواء المنتشرة بلا رقيب لجلب الدواء ، الباب مهمل تماما لا حراس والحارس الوحيد يتخذ ركنا من صالة الاستقبال يتحدث مع أحد من نقاله ويتأفف بادلني نظرة واجمة وأشاح بوجهه خارج المبنى .ها أنا أصل باب الصيدلية المقفل سألت صاحب المقهى متى يأتي صاحب مشيرا بسبابتي نحو لافتة كتب عليها صيدلي "..." فقال :
- "عمي هذا بحالك يوميه يشيله شليل فلوس يبسط بكيفه ويعزل مثلما يريد" ...
ومرت الدقائق ثقيلة حللت من خلالها بعض الالغاز " الأدوية في المستشفى متوفرة لكنها لا تصرف بما يرضي الله " و" الظروف التي يمر بها القطاع الصحي في البلاد مخيفة " و " الاهمال لاحدود له وتحول معظم الاطباء الى جلادين " و" المهنة الانسانية الوحيدة في هذا العالم صارت تجارة بالارواح " ...
صاحب الصيدلية لا يبدو انه تخرج من كلية رصيف حتى انه خشن في تعامله يحملق هازئا في وجوه الناس ويضع الأسعار كما يشتهي ، والله علاجي الذي تمكنت من الحصول عليه بعد مرور ساعة كاملة كان باهظا قياسا للسعر الحقيقي غير أني سأشتريه لو تضاعف عشرات المرات ،تناولت " علاكة العلاج" بعد أن دفعت بالمال المطلوب وهرولت عائدا نحو الداخل فاعترضني الشرطي متسائلا :
- إلى أين ؟
- عندي مريض دخل الليلة الماضية وهذا علاج ابتعته الآن ليعطى له هل تمانع من دخولي .
- لا ولكن كنت أتصور انك "جايبلي ريوك"
- سأوصل العلاج واجلب لك "شويه كيمر وصمون حار "
فأشار أن ادخل دون أن ينظر في وجهي، هرولت معتبرا أن التأخير ليس بصالح مريضي وعلي ايصال العلاج بأقصى سرعه ، حتى ذلك الباب وجدته مقفل تماما وبدأت ألوم نفسي لماذا لم اطلب رقم هاتف الممرض لاتصل به ، ورحت اطرق مرات حتى سمعت صوتا أجشا" منو شتريد أخي ممنوع ، ممنوع ألا تفهمون"
- اخوي إني مع المريض " فلان " ارسلتموني لجلب علاج وها أنا قد جلبته .
- انتظر الآن لحين اكتمال تنظيف البناية والله كريم.
- اخوي العزيز انه الدواء أرجوك
- فعلا هاي بلوه لن افتح روح اشتكي عليه .
وفجأة فتحت الباب فإذا الممرض الذي أرسلني قبالتي وهو يقول:
- ادخل ادخل أستاذ وهامس البواب ثم امسك بيدي حتى أوصلني إلى غرفة (...) وهو يردد الآن سترى كيف سيصبح مريضك بخير فقط انتظرني بعد ساعة في الباب لأفيدك بمعلومات تعجل من شفاءه ، اخرج الآن الطبيب سيقوم بجولة فحص المرضى الصباحية .
نعم خرجت وأنا اشعر بشيء من الراحة ، في طريق خروجي وقع نظري على لافتة مكتوب عليها " استراحة المراجعين " فرحت كثيرا على الأقل سألقي بجسدي المتعب على كرسي بدلا من الاستلقاء على التراب .
دخلت الصالة الكراسي تثير السخرية إنها" صنعت جفيان شر مله عليوي" صغيرة جدا لا يمكن أن تحوي انحف جسد إنها ولادية لونها دموي مقرف كتلك التي يستخدمها الأطفال مقاعد لتعليمهم على الجلوس في بيوت الراحة ، والله إنها تثير الضحك لانها شر البلية حقا ، جاء مراجع منهك فالقي بجسده على الكرسي فإذا به يتدحرج كحجارة سقطت من السماء وتزحلق في عرض الصالة ولولا أن أرضية الصالة مهشمة لما توقف إلا ورأسه في الجدار المقابل ، نهضت بعد ان لملمت ما سقط منه الكوفية، والعقال، والموبايل وقلت "يله فدوه للاعمار الديمقراطي" تكبر وتنسى ، فنهض الرجل وهو يضع كلتا يديه على عجيزته، ويقطر وجهه خجلا.
وبعد اقل من نصف ساعة جاء شاب يطيل شعره ويلبس بزة عمل زرقاء وفي معصمه سوار بلاستيكي ومنقوش على ذراعه " اعز الناس أمي " قال : "يله اطلعوا بره" فقلت :
- ليش بويه
- من دون ليش هو أمر لو تمر
- خرجنا وبدأت جولة التنظيف اليدوي بماسحات يدوية بالية واستمر العمل حتى العاشرة صباحا ونحن في شمس الله اللاهية ، وبين الحين والآخر يخرج احد العاملين مناديا " منهو ويه فلان او فلانه " ويتقدم نحوه شخص -فيسلمه ورقة العلاج قائلا بلهجة امرية - " روح جيب هذا الدوه بسرعه " وتعاقبنا الواحد تلو الآخر نحو الصيدلية مشكلين صفا طويلا... فتعمدت التخلف عن الطابور لأسمع الأرقام " ثلاثين ألف ، عشرين ، خمسه وعشرين ..." حتى وصل دوري فدخل الصيدلي الذي يشبه إلى حد كبير القصابين الى عدة دهاليز نادى " فلان " قلت نعم قال " خمسين الف وسبعمائه وخمسين " لم اتردد سلمت المبلغ وتوجهت الى مريضي خاوي الجيب نفذ ماعندي علي الآن الذهاب لجلب المزيد من المال .
سلمت العلاج عند الباب ثم اقفل الباب بوجهي حاولت الاطمئنان ولكن وقوعا عند التعليمات صرفت النظر وافترشت الأرض بجانب حائط المبنى وأنا أتلقى قطع الشاش المتطاير في الهواء وأعقاب السجائر والأتربة ولم أنسى موعدي مع الممرض الذي وجدت أن فيه بقية إنسانية لأعطيه ما تبقى لدي من مال مكرمة .
في الثانية عشرة منصف النهار خرج صاحبي وهو يردد " موتني من التعب مريضك حتى سيطرت عليه ، اطمئن هو بخير الآن ، ابن الاتفاق أريد الذهاب للتسوق ناولني الأحمر القاني ويقصد " خمسه وعشرين ألفا " ولم يتبقى في محفظتي سوى أجرة المرآب .
انصرفت مسابقا الوقت لجلب المزيد من المال وعدت عصرا برفقة اثنين من أبنائي لحاجتي الماسة لعداء يحضر يجلب المزيد من العلاج تلك البناية المقرفة بدأت اكرهها واكره العاملين فيها بل ويدق قلبي عدة مرات لو فتح بابها .
انتهى نهاري بين سعي وتوسل والى الآن اجهل مصير وصحة المريض . وتحدث المفاجآت في الليلة القابلة .


(3)
قبل حلول الليل عدت ومعي مبلغا محترما من المال وابدلت ملابسي" بنطال جينز وقميص متعوب لا لون له" وبين يدي احمل عشاءً للمريض عسى ان يطلب الطعام وترمز شاي اعتنت زوجتي بتحضيره على نار هادئة وتفننت في خلط محمود واحمد وحميد ليصبح الشاي بلون مستقبلنا اسود .
وصلت باب المصائب وكالعادة طرقت فإذا الباب يفتح سريعا هذه المرة ويظهر قبالتي رجل قصير افرغ كمية كبيرة من الطلاء الأسود على شاربيه ولحيته حتى بالغ في ذلك فبدا مظهره مثيرا للضحك وقبل أن أتفوه بكلمة واحدة فاجئني بالقول: " وين تريد اطلع بره ممنوع" أجبته بانفعال شديد: لكني لم ادخل ملك أبوك أنا مواطن وهذه دائرة حكومية ثم أني لا اريد الدخول فقط اردت الاستفسار عن صحة المريض وإيصال الطعام له عسى ان يطلبه وعلى اية حال شكرا لادبك "
فرد علي قائلا :
- تقصد انا غير مؤدب ؟
- لا أبدا أنت في غاية الأدب وقد أحسنوا اختيارك في هذا المكان تريد الصدك "المراجعين موخوش أوادم"
وتركت الرجل وهو يردد ألفاظا بذيئة وغادرت ماشيا في ممر طويل تتوزع القمامة على جانبيه بينما تلتقط بعض العاملات الأجنبيات الصور التذكارية وسط هذه القمامة وتأملت كثيرا في مظهر البناية من الخارج حتى وصفتها بعجوز خرفة مهترئة ترتدي الثوب الأحمر وتضع احمر الشفاه مخالفة الواقع ، نعم المستشفى من الخارج أبهة ومن الداخل خربة لا تسكن بل لا يمكن ان تنطبق عليها صفة الفندق من الدرجة الصفرية فقط بناية واقفة لا دواء لا تعامل أنساني ولا هم يحزنون فكرت إخراج المريض على مسؤوليتي والبحث عن حل لكن قلت في نفسي سأحتمل الليلة وغدا سأحزم أمري .
قصدت الكافتيريا الخاصة بالمستشفى لشراء السكائر وجدت انها منعت بامر صحي فابتعت علبة من عصير البرتقال وفي طريق العودة وجدت تجمعا كبيرا من الرجال على الرصيف المقابل يفترشون الأرضية بالسجاد ويتجاذبون أطراف الحديث سلمت فرد الجميع قال احدهم " أستريح " وجدت الفرصة مواتية ... نعم سأجلس لا تخلص من الدوران حول القمامة وجلست متسائلا:
- إنشاء الله مريضكم بخير .
- فرد احدهم لا والله ماكو إي تحسن "ننكل بالعلاج صار أسبوع وماكو نتيجه"، انه حادث مرور افقده صوابه وهو الآن في العناية المركزة لكنها لم تكن كذلك لولا كميات الدواء :
- ماذا لو فتح لكم هذا القفل الكبير لتجلسوا في الحديقة قال :
- إن الأوامر هنا لا تسمح للمواطن بالجلوس إلا إذا كان مريضه في الجناح الخاص الذي أثث من امتصاص دماء الناس وهاهم مرضى ومرافقي الخاص في أفضل حال أما العام فلا يحق لهم ما يحق لمن دفع ، واردف اين يرقد مريضك فقصصت عليه القصة فرد قائلا:
- أنت غشيم أبويه لاعب أيدك ، كلنا مرينه بهذا الظرف بالفلوس كلشي يجي .
أمضيت مع هذا الجمع الخير ساعتين حتى حان موعد العشاء فإذا بالقصع تدار على الجالسين وكأنهم في سفرة سياحية اعتذرت مبتعدا عن المكان رغم إلحاحهم علي بالبقاء وبدأت التخفي عنهم وانزويت في ركن مظلم مصطحبا مجموعة من الكارتونات جمعتها من القمامة افترشتها واستلقيت بانتظار ان يستبدل ذلك الوقح الذي يتسمر في باب البناية لا يسمح لأحد بالمرور وفعلا بعد العاشرة ليلا لم أجده فدخلت على غرفة فيها ثلاثة من الطاقم ضحكاتهم تصل إلى أقصى المكان كأنهم في برنامج تسويق آخر النكات سألت احدهم
- أخي أريد الاطمئنان على مريضي ولو دقيقة هل تسمح لي قال ولم لا وسأصنع لك الشاي حتى تخرج مريضك بخير وهو يتحسن وسيكون بعد أيام بألف خير .
اثار تعامل الرجل معي الاستغراب قلت:
- هل تعرفني؟ قال:
- بلا أعرفك انت أقرباء "فلان" أوصاني بك وبمريضك خيرا ، إن له السلطة علي وعلى بقية الموظفين وأريد منك أن تتوسط لي عنده.
ساعتها أيقنت أن الرجل انتهازي لن اطلب منه المزيد زرت لدقيقتين فقط المريض وجدته بحالة سيئة جدا ولن يتحسن اذا مابقي على هذه الحالة فقلت له فقط احتملني هذه الليلة وسأخرجك غدا صباحا مهما كلف علاجك لا طائل من البقاء هنا ...
وغادرته الى حيث فراشي الكارتوني الوثير وقضيت الليلة بنوم عميق كما لو أنني لم انم من قبل حتى شق الفجر عباب السماء فاستيقظت لأصلي لله شكرا لم يقربني كلب ولا قطة ولم الدغ من زاحفة حمقاء ... حمدا لله سنخرج اليوم ولعنة الله على المرض .
(4)
اتصلت هاتفيا بالمريض مبكرا وعرضت عليه فكرة العلاج الخاص فوافق على الفور ، شعرت بالقوة تدب في عروقي وحملت نفسي خارج المستشفى وجلست في إحدى المقاهي المتخلفة جدا لتناول شاي الصباح موقدا سيجارتي الصباحية برغبة كبيرة بعد ساعة أو ساعتين سأغادر كل هذا القرف مع مريضي ،الساعة تشير الآن إلى الثامنة والنصف صباحا وفي هذا الوقت سيجري الأطباء الفحص الصباحي على المرضى لابد لي أن التقي الطبيب المعالج ... حاورت البواب الذي اظهر في بداية الأمر وجه الجينكو ولما لاطفته وتوسلته تجاوب قليلا وسمح لي بالدخول سارعت للقاء الطبيب اسمه " فلان " انه قمة في الخلق والإنسانية أصغى إلي بمحبة وتواضع جم انه الوحيد الذي توجه ألي بكل هذا التقدير والاحترام بل انه خجل حينما قلت له دكتور تعبت هنا من شراء العلاج هل يمكن لي إخراج المريض وعلاجه في البيت أجابني بلغة تدل على حسن تربية ورفعة خلق نعم تستطيع بشرط السير على ارشاداتي ... يا إلهي نعم الطب بخير العراق بخير فقط المشكلة في القضاء على المفسدين والرفاق الذين اعتادوا التجهم بوجوه الناس أمثال الرفيق " لا أصرح باسمه حفاظا على باب رزق عياله " ومن اعتاش على السحت الحرام أمثال" لا هم معرفين لكن لا أحد سينال منهم والسبب واضح " جعلوا من بنايات المستشفيات هياكل عظمية خاوية جوفاء ...
كتب الطبيب المؤدب البهي الطلعة والحريص على تقديم كل ما يستطيع للمريض ... ليس لي أن أغادر دون أن اعرف شيئا عن هذا الذي تعامل معي بمنتهى اللياقة ... انه طبيب حصل على شهادته من الولايات المتحدة الأمريكية متعفف يسكن بالإجارة إلى الآن يكتفي براتبه الشهري لم يفتح عيادة خشية أن يتهم بالجشع انه مثال للخلق اللهم احمه وأحفظه ولن اسميه أبدا كي لا يضيع أجره بالتأكيد لست الوحيد من يدعو له بالخير .
قبل إخراج مريضي حاولت الحصول على بعض العلاجات المتوفرة في صيدلية المستشفى والتي أشار الطبيب بصرفها اليوم قبل إخراج المريض لكن المقيمة الدورية حفظها الله امتنعت عن صرفها بحجة وجود الطبلة في إدارة المستشفى وليس لها صرف العلاج على ورقة خشية اتهامها بالسرقة ... يا رب كم نحن حريصون على المال العام لا باس سأشتري العلاج من خارج المستشفى .
خرجنا مكرهين من دار هي الأولى أن تكون ملاذا آمنا من المرض ... ألهذا الحد وصلت المشافي الم يحن البناء الصحيح بعد ؟متى تبنى النفس القائمة على هذا الأمر لتصلح المؤسسة الحيوية في حياتنا؟ ... متى تحترم الإنسانية في دوائر الدولة ومن المسؤول عن الإهمال وقلة أدب بعض صغار الموظفين ؟متى يعامل بعضنا بعضا بمحبة وتقدير ؟ وما هي الأسس التي يتم التوظيف بها في مثل هذه الدوائر ؟



#كامل_حسن_الدليمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عين على داغستان وقلب في بغداد
- رحلة مع شاعر
- الدين بين الشعبوية والنخبوية
- معلم النزاهه
- دريد الوسخ
- سكينه أم الكيمر
- بغدادية بلا زيف
- قراءة في كتابالهيرمينوطيقيا ...
- مواسم المطر
- معارك اللسان
- ذياب شاهين بين المرأة والوطن
- إمارة البنفسج
- قراءة في مجموعة صادق الطريحي
- مصائد المغفلين
- قتل أباه وكبّر
- مياسة الحفافة والثقافة
- كوثر وحقوق الانسان
- كوثر والحلاقة
- خبّازة من حيّينا
- يتقاطع وسياسة صحيفتنا


المزيد.....




- السحر والإغراء..أجمل الأزياء في مهرجان كان السينمائي
- موسكو تشهد العرض الأول للنسخة السينمائية من أوبرا -عايدة- لج ...
- المخرج الأمريكي كوبولا على البساط الأحمر في مهرجان كان
- تحديات المسرح العربي في زمن الذكاء الصناعي
- بورتريه دموي لـ تشارلز الثالث يثير جدلا عاما
- -الحرب أولها الكلام-.. اللغة السودانية في ظلامية الخطاب الشع ...
- الجائزة الكبرى في مهرجان كان السينمائي.. ما حكايتها؟
- -موسكو الشرقية-.. كيف أصبحت هاربن الروسية صينية؟
- -جَنين جِنين- يفتتح فعاليات -النكبة سرديةٌ سينمائية-
- السفارة الروسية في بكين تشهد إزاحة الستار عن تمثالي الكاتبين ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كامل حسن الدليمي - يوميات مريض