أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - أقليات وأكثريات: هويات ثقافية، علاقات اجتماعية، أم عمليات اجتماعية -تاريخية؟















المزيد.....


أقليات وأكثريات: هويات ثقافية، علاقات اجتماعية، أم عمليات اجتماعية -تاريخية؟


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1909 - 2007 / 5 / 8 - 11:29
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تبدو قضايا الأقليات مرشحة لحضور متزايد في النقاش العام في العالم ككل، وأكثر في المشرق العربي. ويتنامي الشعور بعوز نظري وعملي وقيمي لمقاربة هذه القضايا وبلورة سياسات مناسبة حيالها. ودونما عناء يتبين المهتم اليوم حالة مريعة من الفوضى الفكرية والأخلاقية في هذا المجال، تطغى فيها المشاعر الفائرة على الأفكار المنظمة، وتعلو الضغائن والأحقاد فيما تنحدر قيم الوئام والتفاهم الجامعة، وتسود السطحية والخفة في التناول على حساب الاتزان والجدية. عبر مقاربة أولية، تصنيفية أساسا، تحاول هذه المقالة تنظيم التفكير في هذا الشأن المختلط والمقلق.

ثلاثة مفاهيم للأقلية
قد نميز بين ثلاثة مفاهيم للأقلية في التداول الفكري والسياسي والإعلامي العربي الراهن.
ثمة، أولاً، مفهوم الأقلية كجماعة دينية أو إثنية أو مذهبية متميزة، تشكل أقل من نصف السكان في مجتمع فيه أكثرية مطلقة من جماعة أخرى (أي تزيد نسبتها على النصف). أو هي جماعة صغيرة نسبيا في مجتمع لا أكثرية مطلقة فيه. يمكن أن نصف الدروز في لبنان بأنهم أقلية. ويصح مثل ذلك على المسيحيين في سورية. لكن يصعب وصف الشيعة والموارنة والسنيين اللبنانيين بأنهم أقليات. ففيما عدا أنه ليس ثمة أكثرية مطلقة في لبنان، فإن نسبة هذه الجماعات من السكان كبيرة نسبيا، قد تتجاوز ربع السكان لكل منها.
على أن هناك عنصرين غير كميين في مفهوم الأقلية (والأكثرية) قلما يلحظان. العنصر الأول يتصل بما إذا كانت نسبة الجماعة المعنية تزيد أم تنقص. يعتقد على نطاق واسع أن نسبة المسيحيين في لبنان تتراجع. هذا وجه مما قد نسميه "دينامية تقليل"، وجهها الآخر قلق كياني وسياسي متصاعد في أوساط المسيحيين اللبنانيين من تراجع تأثيرهم على النظام اللبناني وتدني سيطرتهم على مصيرهم. ودينامية التقليل والانحدار هذه قد تكون أهم من الأرقام والنسب العددية الصماء. بالمقابل يعتقد أن الشيعة يزدادون نسبة ووزنا في الاجتماع السياسي اللبناني. هذا ينعكس لديهم ثقة بالنفس وميلا إلى الاعتراض على النظام القائم. ونميل إلى أن وراء الأزمة اللبنانية الراهنة واقع أن الإطار السياسي اللبناني لا يؤمن للشيعة المكانة التي يشعرون بأنهم جديرون بها. أما حرب تموز 2006 والعلاقات الإقليمية للقوى الشيعية اللبنانية فهي عناصر عارضة، فجرت الأزمة أكثر مما أحدثتها. وإذا صح ذلك كما نقدر فإنه يقترح مقاربة للأزمة اللبنانية تعطي اهتماما أكبر لإصلاح النظام السياسي اللبناني.
على أية حال، ثمة "دينامية تكثير" أو "تغليب" هنا (نصطلح "التكثير" للجانب العددي، و"التغليب" للحضور والنفوذ..)، تنعكس ثقة بالنفس ورغبة في حيازة دور أكبر في تشكيل لبنان. الدينامية هذه أهم من النسبة العددية للشيعة، وإن تأسست عليها.
العنصر الثاني يتصل بموقع الجماعة المعنية في النظام السياسي للدولة، أي للكل الوطني. في العراق كان المسلمون السنيون العرب أقلية قد لا تتجاوز خمس السكان، لكن موقعهم في الحكم من جهة، والعمق التاريخي للسلطة السنية منذ العهود الإسلامية الباكرة ممن جهة ثانية، والعمق الثقافي اللغوي العربي السني من جهة ثالثة، جعل السنيين يشعرون ويتصرفون كأكثرية. وقد تكون العروبة محاولة غير واعية من قبلهم لتعويض القلة العددية بعمق ثقافي وإقليمي. الشيعة، بالمقابل، قد يبلغون 60% من سكان العراق، لكن لطالما بدوا كأقلية بسبب إقصائهم العريق عن السلطة وافتقارهم إلى عميق ثقافي وإقليمي. فهم عرب اللغة والإثنية في أغلبيتهم، ولا يشعرون بأن إيران عمقا لهم. ولولا رعونة وطغيان وطائفية نظام صدام لكان النفوذ الإيراني في العراق الراهن أضعف بالتأكيد. نريد القول إن الأقلية والأكثرية ليستا مسألة عددية فقط. ثمة عناصر نفسية وتاريخية وسياسية تسهم في بناء المفهومين.
وعلى مستو آخر، قد نلاحظ أن المسلمين في العالم يتصرفون كأقلية، أي بقلق وخوف من التبدد، وبنزوع إلى معارضة القوى النافذة في النظام الدولي دوما. هذا لا يعود إلى أن المسلمين أقلية، فهم يكادون يشكلون ربع سكان عالم لا أكثرية مطلقة فيه، لكن لكونهم أقلية بالمعنى الحضاري. الواقع أن المسلمين يزدادون عددا، لكن وزنهم الحضاري ورسوخهم في العالم يقل على الأرجح. ورغم تحكم سيكولوجيا الأقلية بالمسلمين في العالم، إلا أنهم ليسوا متقاربي الإرادة بسبب افتقارهم لمحركات الدمج والتوحيد السياسية والثقافية، وإلى نموذج تماه فعال وجاذب لهم. وفي الحصيلة، يبدو أن دينامية الإضعاف تتغلب على دينامية التكثير فيما يخص المسلمين في العالم.
هذا المفهوم الثقافي هو، على أية حال، ما يتبادر إلى الذهن قبل غيره حين نتحدث عن أقليات. وهو ما يقصد عند الكلام على حقوق الأقليات أو حماية الأقليات أو ضمان المساواة للأقليات. وقد يكون من الأنسب أن نتحدث بالتحديد عن أقليات دينية أو مذهبية أو إثنية أو لغوية في هذا المقام.

المفهوم الثاني مرتبط حصرا بالنظم السياسية الديمقراطية التنافسية التي تسمى أيضا ديمقراطيات أكثرية، وهو يُعرِّف الأحزاب أو التحالفات السياسية التي خسرت الانتخابات بأن نالت أقل من نصف أصوات الناخبين. ويفترض من حيث المبدأ هنا أن الأقلية الانتخابية هذه شيء متميز عن الأقليات الثقافية أو العمودية. ومثلها في ذلك الأكثرية أيضا. وهذه سمة مجتمعات مندمجة قوميا، تتمايز وتنقسم على أسس عقلانية ومصلحية لا على أسس هوياتية وثقافية غير عقلانية. ويتنضد في "الهرم الاجتماعي" فيها طبقات يتحدر أفرادها بنسب متكافئة أو متقاربة من المكونات الثقافية المختلفة. وهنا أيضا يفترض أن الانقسامات الأفقية، الطبقية، تحدد سلوك الأفراد والجماعات أكثر من الانقسامات العمودية، الثقافية (على أنه يبدو أن الطائفية تتقدم في كل مكان من العالم في العقدين الأخيرين، والعقلانية والكونية تتراجع. وبفعل تضافر العولمة وما بعد الحداثة يتوقع أن يستمر هذا الاتجاه ويشتد).
"يصادف" أن المجتمعات الديمقراطية الغربية التي تعرض التجارب الأنضج لديمقراطيات مستقرة ومستدامة هي المجتمعات الأكثر اندماجا، وتاليا التي تتمايز الأكثريات والأقليات الانتخابية فيها عن الأكثريات والأقليات الثقافية. والواقع أن مجتمعات الغرب لم تكن في الأصل أقل تعددا ثقافيا من مجتمعاتنا، لكنها تختلف عنا بأنها تمكنت من تأهيل وطنية حديثة أرقى وأكثر استيعابية من التمايزات الثقافية والدينية والموروثة. تمكنها من التأهيل هذا امتزج فيه عنف سياسي وقسر لغوي وثقافي وصهر ومجانسة عبر التعليم وطمس وعزل لهوية جماعات ثقافية وجهوية ولغوية، ودينامية اقتصادية متوسعة تفيد وتوحد أوسع قطاعات المجتمع، بما يعزز الرابطة الوطنية. حين صارت ديمقراطية كانت فرنسا مثلا صارت أمة متدامجة منذ زمن طويل، فلم يكن لديمقراطيتها تأثير مفكك للأمة أو محوّل للتعدد الثقافي إلى انقسام سياسي.
في بلادنا لم تمنح الوطنية الحديثة السكان مختلفي الأصول هوية أرقى يتمسكون بها ضد روابطهم الدينية والمذهبية والإثنية. والدولة الضعيفة الموارد المادية والمعنوية لم تجسر على المضي في عملية الدمج إلى أبعد مدى، بحيث يمكن أن تتمايز أكثريات وأقليات انتخابية عن أكثريات وأقليات ثقافية. وقد تكون المشكلة في بلادنا اليوم أن الأمة غير موجودة، والمطلب الديمقراطي راهن. فلا مجال للانتظار حتى تتكون الأمة، علما أن نظم السلطة التي نعرفها لا تبدو معنية من قريب أو بعيد بتكوينها، إن لم نقل إنها عامل فرط وبعثرة مستمرين لها. هذا بينما يخشى أن تؤدي الديمقراطية إلى تفكك الدول وانفراط نهائي للمجتمعات المحكومة وانتشار الفوضى. وينبغي أن يكون واضحا أن المقصود بالأمة الشعب المندمج، الذي يعرف نفسه بمؤسساته ودستوره والعملة الوطنية وجواز السفر.
هل المخرج من هذا المأزق "ديمقراطيات توافقية"، على شاكلة لبنان، وربما العراق؟ المناخات السياسية والفكرية الدولية تشجع هذا الاتجاه. لكن في ظل هذا النموذج تجنح الجماعات الدينية والإثنية لأن تكون وحدات سياسية للنظام الديمقراطي التوافقي. وبالطبع يفقد مفهوما الأقلية والأكثرية الانتخابيان صلاحيتهما هنا. كما تتراجع المقاربة الكمية للوحدات الاجتماعية، التي تفترض أمما ومجتمعات متجانسة، لمصلحة مقاربة نوعية تنظر إليها كما في تاريخنا الوسيط، كملل ونحل وفرق. والخشية المواكبة لهذا النموذج أن تغدو المكونات الثقافية "أنواعا اجتماعية"، لا تجمع إلى غيرها ولا تجتمع معها، ما يحمل في طياته مخاطر تحول كل صراع سياسي إلى انقسام وطني، وتهديد بتقسيم البلاد.
يتعين أن نذكر هنا أن مفهومي الأقلية والأكثرية منسوبان إلى مفاهيم الحداثة السياسية كالأمة والشعب والحرية والمساواة القانونية والسياسية، فضلا عن ذهنية العصر الكمية. وقبل الجميع مفهوم الدولة. فلا أقلية ولا أكثرية إلا بالدولة، أي إلا حيث المساواة ضرورية وتحقيقها مطلوب وغيابها ممكن. إنهما مفهومان سياسيان أولا وأخيرا. (للسياسة هنا معنى أكثر أساسية، "أرسطي"، مستوعب للاجتماعي والثقافي، ولا يحيل إلى تقابل السياسي معهما).

المفهوم الثالث الذي قد يلزم إحياؤه والتركيز عليه هو الأقلية كطبقة أو شريحة اجتماعية، بالخصوص إن كانت ممتازة على صعيد السلطة أو الثروة. ومقابلها الأكثرية التي توصف بأنها محرومة أو مستغلة أو مقهورة. وقد يبدو أن الأقليات بالمعنى الديني والمذهبي والإثني تنتمي تلقائيا إلى الأكثرية بالمعنى الاجتماعي. هذا صحيح فقط حين تكون الأكثرية الدينية أو المذهبية... هي في الوقت نفسه حائزة الثروة والسلطة معا. بتعريفها كأكثرية اجتماعية يبدو هذا محالا. فقد كانت السلطة في كل مكان شأنا يخص شريحة بالغة الضيق في قمة المجتمع. على أن هذا لا يمس حقيقة أن فرص متحدرين من أقليات ثقافية في الارتقاء الاجتماعي كانت محدودة على العموم.
يبقى صحيحا من حيث المبدأ أن الأكثرية الاجتماعية التي تشغل المواقع الدنيا من الهرم الاجتماعي موزعة على منابت ثقافية متنوعة. ومثل ذلك يصح على الأقلية الاجتماعية. هل يصح قول ذلك على الأكثرية السياسية والأقلية السياسية في سوريا مثلا؟ ليست سورية بلدا ديمقراطيا ليكون ذلك صحيحا. من في الحكم ليسوا ممثلي الأكثرية السياسية الفائزة في آخر انتخابات عامة. هل هم أقلية سياسية؟ ليسوا كذلك بالتعريف (فهم في الحكم). وهم بعد ليسوا طبقة – طائفة. إنهم أقلية اجتماعية، أوليغارشية، يمكّنها استئثارها بالسلطة من حيازة موقع تفضيلي في سلم الثروة والموارد الوطنية. بعبارة أخرى، ليس ثمة تطابق طائفي طبقي، لكن ثمة ميل كامن في النظام إلى التطابق بين السلطة والثروة.
كان مفهوم الأكثرية الاجتماعية المحرومة قاعدة نظرية لسياسات وصفت أنها ثورية أو شتراكية. تعمل هذه السياسات على قلب "النظام الاجتماعي" القائم الذي تسيطر فيه "أقلية مستغلة"، وتسخر "سلطة الدولة" لخدمة مصالح الفقراء والضعفاء. لكن كل الأمثلة التي نعرفها عن إلغاء الأقلية المستغِلة بالقوة، بما فيها سورية، آلت بعد قليل إلى قيام نظم أقلية تجمع بين احتكار السلطة واحتلال موقع ممتاز للإثراء والاستغلال. أي أنها تعيد التطابق بين السلطة والثروة. والعلاج المجرب في عصرنا لكسر التطابق هذا، وكذلك التطابق بين السلطة والعصبية، هو الديمقراطية التي تضمن الحريات السياسية للأكثرية الاجتماعية. بعبارة أخرى، لا مجال لضمان مصالح الأكثرية الاجتماعية عبر إلغاء الأقلية الاجتماعية، وإلا أنتجنا أقلية جديدة تنزع بحكم حداثة عهدها لأن تكون أشد شراسة وجشعا. لكن في شروطنا الراهنة يخشى أن الديمقراطية لا تقود إلى فصل السلطة عن الثروة، بل إلى محاصصة السلطة بين العصبيات. ما المخرج من هذه المعضلة: "اشتراكية" تولد أوليغارشية تركز السلطة والثروة بين يديها و"تطيف المجتمع" خفية، وديمقراطية قد تطيفه صراحة؟ لعله ليس لنا غير الاستمرار في تقليب النظر بشأنها.
يبقى أن التمييز بين أكثريات وأقليات اجتماعية وأكثريات أو أقليات ثقافية واضح ومشروع وضروري. ويؤمل من إبراز مفهومي الأقلية والأكثرية بالمعنى الاجتماعي أن يسهم في إضعاف تداول مفهومي الأقلية والأكثرية بالمعنى الثقافي. بيد أن هذا يقتضي دينامية اندماج اجتماعي فعالة ومتوسعة وديمقراطية سياسية. دون اندماج الديمقراطية تفكك، ودون ديمقراطية يتحول الاندماج إلى إيديولوجية تغطي الاستبداد وإعادة التطابق بين السلطة والثروة.
وعلى نطاق عالمي، قد يمكننا القول إن الغرب يشكل أكثرية حضارية عالمية، بمعنى أنه يستفيد من دينامية تغليب، بينما هو أقلية اجتماعية عالمية. ودينامية التغليب، بالخصوص بعد نهاية الحرب الباردة، تكاد تهمش بالكامل واقعة أن الغرب هو "الطبقة المحبوة" عالميا. قبل بضعة عقود، في خمسينات القرن العشرين وستيناته، بدا أن الدينامية السياسية والحضارية والاجتماعية العالمية تنزع نحو الثورة على الغرب، وأنه سيحال إلى أقلية تحمي نفسها بالقوة العسكرية. في الغرب ذاته نمت روحية التنديد بـ"الطبقة" هذه والانحياز إلى "الطبقة الثالثة" العالمية ضدها. كان هذا زمن نوع الاستعمار والعالم ثالثية وصعود حركة عدم الانحياز. تجمدت هذه الدينامية العالمية منذ مطالع السبعينات، ثم أخذت تنعكس منذ مطالع ثمانينات القرن العشرين. اليوم "الأقلية الغربية" صاعدة حضاريا ونافذة سياسيا في المؤسسات الدولية، وإن كان من الصعب وصف هذه بأنها مؤسسات ديمقراطية.

لدينا إذن ثلاثة مفاهيم للأقلية: مفهوم ثقافي، مفهوم سياسي، ومفهوم اجتماعي. يستخدم الأول في سياق الكلام على سياسات الاضطهاد الديني والتمييز الطائفي أو حقوق الأقليات وضمانتها. والثاني مقترن مع الديمقراطية في مجتمعات مندمجة قوميا، وفي نطاق دول عقلانية تشرف على صيانة الاندماج هذا وإعادة إنتاجه. والثالث مرتبط مع سياسات اجتماعية يسارية منحازة للأكثريات المحرومة، وقد تتراوح من سياسات كينزية إلى سياسات شعبوية إلى سياسات شيوعية.

الأقليات كعمليات اجتماعية
ثمة جانب من واقع الأقليات والأكثريات "غير واقعي"، لكنه قد يكون الأهم. أعني كون مفهومي الأقلية والأكثرية علاقتان اجتماعيتان، وليسا جوهرين أو شيئين واقعيين قائمين برأسيهما، يمكن أن يشار لهما بالبنان. ينبغي أن يكون هذا واضحا إذا استذكرنا ما قلناه فوق عن دينامية التقليل/ التكثير، وعن العناصر التاريخية والسياسية والحضارية والنفسية في صنع الأقليات والأكثريات، وعن الصفة السياسية الجوهرية لمفهومي الأقلية والأكثرية في عصرنا. من باب التوضيح، نتساءل: ترى أيهما أقلية وأيهما أكثرية: المسيحيون في لبنان الذين منهم رئيس الجمهورية ويمثلهم نصف أعضاء البرلمان اللبناني ووزنهم الثقافي والاجتماعي لا يزال الأكبر في لبنان، أم الشيعة الذين يزدادون عددا والذين يحوز أحد أحزابهم قوة عسكرية مجربة ومنظمة، لكن لا يمثلهم في "ترويكا السلطة" غير من يعتبر ثالث شخصية في النظام السياسي اللبناني؟ وفي محيط عربي يبدو أن شعوره بإسلاميته يتصاعد، ألن تشعر أقليات مسيحية بأنها أقل وأشد هشاشة مما هي في الواقع (ما يدفع كثيرين من أوساطها للهجرة، ويفاقم فعل دينامية التقليل فيها)؟ ولو تخيلنا مجتمعاتنا تزداد علمنة وحداثة، ألن يشعر غير المسلمين فيها بأن وزنهم في مجتمعاتهم يعادل أو ربما يفوق نسبتهم العددية؟
كذلك نلاحظ اليوم أننا نتحدث عن "مسيحيين" في كل من سوريا ولبنان، لا عن أرثوذكس وبروتستانت وموارنة... قبل عقود لم نكن نجمل "المسيحيين" هكذا كما نفعل اليوم. وقبل قرن أو أكثر كانت الفوارق بين هذه المجموعات مشحونة بحساسيات سياسية وعقيدية أكثر مما بين المسلمين، وأدعى إلى الاهتمام بها. اليوم، لم تعد الانقسامات المذهبية المسيحية ذات قيمة سياسية أو عامة. لذلك لم تعد تثير اهتماما فكريا وإعلاميا. ومعلوم أن المسيحيين خرجوا من الحرب اللبنانية أقل تفرقا مما كانوا قبلها، بقدر ما جنحت هذه بسرعة لأن تغدو حربا طائفية. وقد يكون صعود الإسلامية في المشرق العربي عنصرا في تقليص الفوارق في "الصف المسيحي"، أي بالتوازي مع تنامي الشعور بالفوارق عن المسلمين.
نذكر هذه التقديرات بهدف إبراز العنصر التاريخي والنسبي في مفهوم الأقلية. أي لنقول مرة أخرى إن الأقلية علاقة اجتماعية وعملية تاريخية وليست جوهرا أو كيانا ثابتا.
والمقصد العام أن هناك عناصر نوعية ودينامية في مفهومي الأقلية والأكثرية، يجعلان من النسب العددية مجرد ركيزتين واقعيتين لمفهومين يغلب المكون "اللاواقعي" في تحديدهما. والحال، إن المكون هذا لا يرتد إلى عنصر علائقي. إن الأهم من العلاقات هو ما يسمى في اللغة الماركسية إعادة إنتاج العلاقات هذه، أي العمليات الاجتماعية التاريخية التي تسند العلاقات التي بدورها تسند "الجوهر"، أي العدد والنسبة. والعمليات هذه سياسية وثقافية، ومحلية وعالمية، ومادية ومعنوية، تشكل بمجملها ما ندعوه "صناعة" الأقلية أو الأكثرية. فهذه لا توجد إلا إذا أنتجت، ولا تنتج إلا إذا أعيد إنتاجها، أي إلا بتوفر أفعال وفاعلين وأدوات تتيح صنع واستمرار هذه التكوينات الاجتماعية.
وخلاصة هذه الفقرة تقترح علينا أن نتحول في مقاربة الظواهر الاجتماعية من النظر إليها كأشياء أو جواهر أو هويات، أو حتى كعلاقات، إلى النظر إليها كديناميات وعمليات.

هل من المشروع الكلام على أقليات وأكثريات؟
نفترض أن هذه المقالة تثبت الشرعية العقلية لمفهومي الأقلية والأكثرية. فهما يضيئان جوانب من الواقع كان يمكن أن تبقى محجوبة لولاهما.
رفض شرعية مفهوم الأقلية الدينية أو المذهبية يخطئ هدفه حين يتصور أن إنكار المفهوم يغير من الواقع شيئا. الأقلية والأكثرية أداتان تحليليتان لا تحملان من تلقائهما أية ضمانة لحسن استخدامهما. لكن سوء استخدامهما ليس مكتوبا على جبينيهما أيضا. ما يمكن أن يضمن حسن الاستخدام هو ممارسة معرفية متحررة من وثنية المفاهيم، أي إضفاء القداسة على بعضها والشيطانية على بعض آخر.
ويبدو أن هذا الصنف من "ذهنية التحريم" يصدر عن خشية من أن مفهوم الأقلية يحمل في ذاته تهوينا من شأن الجماعة المعنية واستعلاء عليها وإباحة للتمييز ضدها. الواقع أن العكس هو الصحيح. فالاهتمام بهذا الجانب من الواقع، نظريا وأخلاقيا وسياسيا، هو ما من شأنه تسليط الأضواء على وقائع التمييز المحتملة، وتأهيل المقاربات والسياسات المناسبة للحد منها، ورعاية نشوء ضمير اجتماعي مستقل يتنبه إلى الممارسات التمييزية ويقاومها. إلى ذلك فإننا لا نرى كيف يمكن لإنكار شرعية مفهوم الأقلية نظريا أن يتوافق مع الرغبة في حمايتها وضمان حقوقها ومساواتها بغيرها عمليا. الإنكار هذا أكثر توافقا مع سياسات استبدادية، تجد في السكوت على مطالب الأقليات المحتملة استراتيجية للسكوت على حقوق السكان جميعا. في مثل هذه الحالة ينبغي أن تنصب المساءلة على مفاهيمنا عن الشرعية لا على شرعية المفاهيم.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أطوار متعددة في حرب لبنانية واحدة
- نمذجة تاريخية مقترحة للنظم السياسية المشرقية
- -ميدل- إيستولوجية-: في شأن المعرفة والسلطة و.. العدالة!
- انتخابات نيابية في سورية أم موسم لصناعة العصبيات؟
- شاذ، استثنائي، وغير شرعي: المعرفة والمعارضة في سورية
- ديمقراطية، علمانية، أم عقلنة الدولة؟
- في أصول التطرف معرفيا وسياسيا، عربيا وكرديا
- اعتزال الحرب الباردة الجديدة
- عوالم المعتقلين السياسيين السابقين في سوريا
- الثقافة الوطنية والدستور كوجهين للشرعية السياسية
- عناصر أولية لمقاربة أزمة الدولة الوطنية في سوريا
- تأملات في أحوال الهوية الوطنية السورية وتحولاتها
- من الاتهام بالطائفية والتبرؤ منها إلى نقدها ومقاومتها
- في أصل -اللاتناسب- الإسرائيلي و-الإرهاب- العربي
- مقام الصداقة
- أحوال الإجماع اللبناني مقياسا للسياسة السورية حيال لبنان
- بصدد تسييس ونزع تسييس قضية اللاجئين العراقيين
- بصدد السلطة السياسية والسلطة الدينية والاستقلال الاجتماعي وا ...
- صناعة الطوائف، أو الطائفية كاستراتيجية سيطرة سياسية
- في دلالة انفصال -العمل السياسي- عن السياسة العملية في بلدانن ...


المزيد.....




- شاهد ما حدث على الهواء لحظة تفريق مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين ف ...
- احتجاجات الجامعات المؤيدة للفلسطينيين تمتد لجميع أنحاء الولا ...
- تشافي هيرنانديز يتراجع عن استقالته وسيبقى مدربًا لبرشلونة لم ...
- الفلسطينيون يواصلون البحث في المقابر الجماعية في خان يونس وا ...
- حملة تطالب نادي الأهلي المصري لمقاطعة رعاية كوكا كولا
- 3.5 مليار دولار.. ما تفاصيل الاستثمارات القطرية بالحليب الجز ...
- جموح خيول ملكية وسط لندن يؤدي لإصابة 4 أشخاص وحالة هلع بين ا ...
- الكاف يعتبر اتحاد العاصمة الجزائري خاسرا أمام نهضة بركان الم ...
- الكويت توقف منح المصريين تأشيرات العمل إلى إشعار آخر.. ما ال ...
- مهمة بلينكن في الصين ليست سهلة


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - أقليات وأكثريات: هويات ثقافية، علاقات اجتماعية، أم عمليات اجتماعية -تاريخية؟