أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - صناعة الطوائف، أو الطائفية كاستراتيجية سيطرة سياسية















المزيد.....



صناعة الطوائف، أو الطائفية كاستراتيجية سيطرة سياسية


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1828 - 2007 / 2 / 16 - 09:02
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يفترض هذا المقال أن الطوائف، وليس الطائفية وحدها، نتاجات صنعية؛ أو أن الطائفية لا تصنع من الطوائف بل الطوائف هي التي تصنع من الطائفية؛ وهما معا تصنعان في سياقات سياسية واجتماعية وإيديولوجية محددة بغرض ضمان السيطرة السياسية لنخب طائفية وغير طائفية. ويصنع المركب الطائفي (الطوائف والطائفية) في حقل سياسي مستقطب، تتشكل فيه ويعاد تشكلها، وتتواجه فيه وتتنازع وتتصارع، قوى اجتماعية وفاعلون سياسيين على رهانات متصلة بحيازة أفضل المواقع للنفاذ إلى السلطة والثروة والهيبة والنفوذ. ونعرف الطائفية، مبدئيا، بأنها مركب عمليات صراعية متعددة الجوانب تتكون فيها الطوائف كفاعلين سياسيين متنازعين بدرجات متفاوتة.
وليس التسليم بانبثاق الطائفية من الطوائف موقفا منعزلا عن حقل الصراعات السياسية، ولا غير ذي أثر على رهانات الفاعلين ضمنه. فإذا كنا نميل إلى اعتبار الطائفية مصنوعة من طوائف، "طبيعية" هي ذاتها، فإن من المرجح أن نجنح إلى نسبة التطييف إلى فعل نخب سياسية عليا، في السلطة أو في المعارضة، وأن نعتبر أن تغيير النظام (أو المعارضة) هو العلاج الأمثل للطائفية، أو لتحرير الطوائف الأسيرة من الطائفية المعتدية. أما الميل إلى اعتبار الطائفية والطوائف عمليات وعلاقات صنعية فيدفع نحو تصور أن قاعدة الصناعة الطائفية أوسع أو، إن شئنا، "أكثر ديمقراطية"، وأنها عملية تفاعلية يشارك فيها الجمهور مشاركة نشطة، وهي تاليا تقتضي معالجة أشد تعقيدا وتنوعا.
إضفاء الطبيعية على الطوائف، واعتبارها كيانات معطاة، تحمل تماثلها الذاتي واختلافها مع الغير معها أنى ذهبت وفي كل وقت، هو موقف الحس السليم الشائع. وديدن الحس السليم أن يفكر شيئيا لا علائقيا، وصوريا لا تفاعليا. والموقف هذا، ما يمكن أن نسميه النظرية الجوهرانية في الطائفية، هو الحرز الحريز للطائفية. ففيه تظهر الطوائف كأشياء أو كيانات أو هويات لا كعلاقات أو عمليات اجتماعية، وتظهر الطائفية تعبيرا عن طوائف مكونة للمجتمع، أو عن المجتمع بوصفه متعدد طوائف1.
لكن الطائفية مركب عمليات مجانسة وتثبيت وتصليب وبناء وحدة مقصد لما هي في الواقع تكوينات اجتماعية غير واضحة الحدود، لا تحوز إرادة مشتركة، ومعرضة دوما للانفراط والدخول في تفاعلات متنوعة. وحصيلة العمليات تلك هي الطوائف. فالطوائف هي شكل محتمل لوجود التكوينات الأهلية، وليست الشكل الدائم والوحيد. ولا يوجد السنيون والعلويون والمسيحيون والشيعة.. في شكل طوائف سنية وعلوية ومسيحية وشيعية.. إلا في شروط محددة (سنشير إليها). كذلك لا تصنع الطوائف أولا ثم تصنع الطائفية، بل إن صنع الطائفية هو صنع الطوائف كفاعلين عامين، أو لنقل كأحزاب سياسية2. ثم إن الطوائف لا تصنع ثم تتصارع، بل إن صنعها بالذات عملية صراعية، وضمن حقل سياسي صراعي، وبرسم مطالب ومخاوف ومواقع سياسية متنافسة بعنف متفاوت. ولا توجد الطوائف إلا كنتاج لعملية تطييف، تسير على محورين: محور أول يتصل بتقليص وحذف الفوارق والتنافرات المحتملة ضمن كل جماعة مذهبية، وردم الفجوات الاجتماعية والطبقية والجهوية داخلها من أجل إنتاج ذات طائفية واعية لذاتها؛ ومحور ثاني يتمثل في محو التماثلات والتشابكات المحتملة، الجهوية والاقتصادية والاجتماعية، بينها وبين الجماعات الأخرى، مع رفع الفوارق والتنافرات المحتملة مع تلك الجماعات إلى مرتبة مطلقة، ومع احتمال اختراع تاريخ عريق أو أصيل لها. وتتوسل العمليتان كلتهما وسائل إدراكية كالإشاعة والمبالغة والاختلاق والتهويل والأسطرة، بهدف صنع جماعة متخيلة كلية التماثل الذاتي وكلية الاختلاف عن غيرها. والجماعة متخيلة لأنه لا الفوارق داخل كل طائفة تزول، ولا التماثل مع غيرها يرتفع كليا. لكن الهوية الطائفية ووعي الهوية الطائفية لا يتحقق دون تخيل ذلك.
وثمة في الواقع صناعة كاملة للطائفية تتكفل بتغليب الصور الطائفية لـ"المادة الأهلية الخام" على الصور الأخرى غير الطائفية. ويتولى التغليب "صناعيون"، يجدون في صنع الطوائف مصدرا سهلا نسبيا لنفوذهم وسلطتهم. هؤلاء الصناعيون هم الطائفيون. لكن ينخرط في الصناعة أيضا عمال متفاعلون ومشاركون و"جماهير"، لا تثمر دون مساهماتهم كما سنرى.
ومن لوازم صناعة الطائفية صنع ذاكرة جمعية عن طريق تنشيط واستبقاء وإبراز الذكريات التي تستذكر سوابق الصراع والاضطهاد والتمييز، وإهمال أو التقليل في الوقت نفسه من ذكريات التعاون والوئام. ومنها أيضا نسبة وحدة روحية للجماعة المطيفة يعوض مفعول فقد التواصل المكاني المحتمل أو يكمله إن كان موجودا. ولعل الممارسة التي تعكس أكثر من غيرها نجاح التطييف وفاعليته هي تراجع نسبة الزيجات البينية، بوصفها تهديدا للوحدة الطائفية أو نوعا من الخيانة تستفيد منه الطوائف الأخرى وحدها 3. فميل النخبة الطائفية إلى فرض التجانس لا يترك مجالا لاستقلال القلب. الجسد كله، جسد المرأة بخاصة، يخضع للمطالب العليا للهوية الطائفية. والمرأة التي تتزوج من غير طائفتها تنبذ أو حتى تقتل، فيما ينال رجلا تزوج امرأة من طائفة أخرى نصيبا أقل من اللوم4.
ومن العدد التي تتوسلها صناعة الطائفية العنف المباشر أو غير المباشر من أجل رص الطائفة وانتزاع قيادتها. لقد مورس العنف في الوسط الماروني إبان الحرب اللبنانية من أجل توحيدها خلف قيادة كتائب آل الجميل أو مردة آل فرنجية..، وجرى مثل ذلك بين الشيعة في ثمانينات القرن العشرين، وكذلك في الوسطين الشيعي والسني العراقيين اليوم. ولطالما سعت منظمات عنفية إسلامية في أكثر من بلد عربي إلى احتكار تمثيل المسلمين السنيين. وأشد ما يثير سخط الزعماء الطائفيين هو عدم نجاحهم في توحيد جمهورهم المفترض خلفهم. بعبارة أخرى، ثمة حرب داخل كل جماعة أهلية توازي الحرب الأهلية العامة. وبنتيجتهما معا تتكون الطوائف والطائفية5.
وبموازاة العنف الفيزيائي يمارس عنف خطابي غرضه بلورة نموذج الطائفي الصحيح، المدافع الأمين عن الطائفة. من ذلك التكفير الديني، وهو فعل إقصاء خطابي، يستمد فعاليته الفتاكة من إباحة الدم التي قد تترتب عليه، أي من رصيده المحتمل من العنف الجسدي. وفي عراق اليوم يسير العنفان الخطابي والفيزيائي معا من أجل إعادة صنع طائفة المسلمين السنيين في الحقل السياسي العراقي الجديد.
كما يمكن لخطابات علمية منحولة أن تسخر في خدمة الطائفية، الإحصاءات والنسب الديموغرافية بخاصة6. المعرفة هنا مفرطة التسييس والتلاعب بالنسب هو وجه معرفي للمعركة السياسية الطائفية.
**
لا تنبع الطائفية، إذن، من جوهر طائفي، معروض دوما. بالعكس، إن النظام الطائفي، نظام الصناعة الطائفية، هو الذي ينتج الطوائف. أما التقاط مفهوم الطائفة من الحس السليم، واستهلاكه دون إعداد وشغل فهو مجازفة بتسمم طائفي أكيد. وأقر أن في هذا الكلام عناصر نقد ذاتي. فلم أكن أطرح سؤالا عن "طبيعية" الطوائف أو كنت أفترض أنها معطى طبيعي، وأن الصناعة الطائفية هي عملية إنتاج الطائفية الخبيثة من الطوائف الحميدة. أتبين اليوم أن الطوائف ذاتها أشياء صنعية، وأن صناعة الطائفية هي، أولا وأساسا، صناعة الطوائف ذاتها كفاعلين سياسيين موحدين. وبينما كنت أتوهم أن الخلط بين وجود الطوائف والطائفية هو حجر الزاوية في الإيديولوجية الطائفية7، فإني أعتقد اليوم أن حجر الزاوية هذا هو المفهوم الجوهراني للطوائف، أعني اعتبار الطوائف ماهيات موجودة دوما، ومتماثلة مع ذاتها دوما، ومكتفية بذاتها دوما، وتاليا لا يمكن للعلاقة بينها إلا أن تكون علاقة تناف وإقصاء، قد تصل إلى درجة الذبح على الهوية.
ونقد جوهرانية الطوائف أمر مهم عمليا. فنصب الحواجز ضد الطائفية لا يكون مثمرا إن لم يبدأ بنصبها في وجه الطوائف، أعني في الحيلولة دون تحول روابط أهلية وجماعات مذهبية إلى فاعلين سياسيين. وسنرى أن الأساس في ذلك هو نزع الشرط الطائفي، أعني انغلاق المنظومة السياسية.
فصناعة الطوائف والتنازع الطائفي شيء واحد. والطوائف تصنع لتتصارع. ورفض الطائفية متهافت حين نحن نعتبر الطوائف معطيات طبيعية، دع عنك أن ندرجها في تواريخ ذاتية وننسب لها أرواحا وأخلاقيات وطبائع كما يفعل كثيرون. كما أن بناء الثقة الوطنية غير ممكن على أرضية طائفية. فالعلاقة "الطبيعية" بين الطوائف هي علاقة عدم الثقة. إن مفهوم الوحدة الوطنية كثقة طائفية أو كمحض غياب للتنازع الطائفي الصريح (وكالتفاف حول نظم استبدادية) هو مفهوم متناقض داخليا، يخفي وراء الالتفاف القسري واقع التنافر وانعدام الثقة العام.
والخلاصة أنه ليست الطائفية هي التي لا توجد أبدا في "الطبيعة"، بل إن الطوائف ذاتها لا توجد في الطبيعة8؛ لا شيء يوجد في الطبيعة، ولا حتى التكوينات الأهلية9.


لكن في أية شروط تزدهر صناعة الطائفية؟ وما الذي تخدمه؟
الملاحظة المطردة لحالة بلدان عربية مشرقية عديدة تدفع إلى الاعتقاد بأن الطائفية من خطط نظم السلطة المغلقة التي تعمل على الاستئثار بالسلطة والثروة والنفوذ والامتياز. وهي في الوقت نفسه نتاج لصنف النظم هذا. فالتجميد المصطنع لتداول السلطة ودوران النخب السياسية من شأنه أن يدفع إلى تشقق المجتمع أو انفزاره وفق خطوط التمايزات الثقافية، بالخصوص إن ترافق التجميد الفوقي مع مصادرة شاملة للحياة السياسية ومنع تكون انتظامات وتضامنات اجتماعية طوعية ومستقلة. في مثل هذه الشروط تظهر أشكال استحواذ على المجال العام "طبيعية"، و"بريئة"، لا تهدد سلطة ولا تطالب بها، كالطوائف والعشائر. ويخدم هذان التكوينان "الطبيعيان" كإطارين لتأهيل نخب فرعية قابلة للترقية، تشارك في سلطات جزئية قابلة للتوسع ضمن نظام السلطة الكلي. ويشكل احتواء النخب الفرعية هذه بعدا جوهريا لـ"الوحدة الوطنية" في سورية.
وبينما يدفع احتكار السلطة العمومية ومنع تداولها إلى التوسع في القمع واستناد النخب المستولية إلى أهل ثقتها، ويولد ما ندعوه أزمة الثقة الوطنية، فإن من شأن تقاسم السلطة السياسية أو التشارك فيها أن يكون الحل الأنسب لأزمة الثقة والانقسام الوطني، الذي يحمل على الدوام مخاطر تقسيم البلاد ذاتها كما أظهر المثال اللبناني، ويظهر اليوم المثال العراقي. والشرط الأساسي لإمكان أزمة الثقة الوطنية هو بروز الدولة الوطنية (دولة الحرية والمساواة بين المواطنين بصرف النظر عن قراباتهم وانتماءاتهم) كمثال لا منافس له في التنظيم السياسي، وفشل تحقق هذا المثال واقعيا عبر تحطيم المجتمع السياسي10. فالطائفية هي البنت غير الشرعية للحداثة السياسية 11في مجتمعاتنا، وبالتحديد للدولة الوطنية (المجهضة) كإطار أعلى لتنظيم الجماعات ودمجها. ويمكن، تاليا، أن نتصور واحدا من مخرجين من الطائفية 12: إما الخروج الكامل والنهائي من الحداثة، وهو أمر مستحيل؛ أو بالعكس استكمال مقومات الدولة الحديثة، بما في ذلك ضمانة حقوق الأقليات13 .
ونعطي اهتماما خاصا للنظم المغلقة، التي لا توفر آليات للتغيير وتداول النخب، لأنها النخب المستولية فيها تميل، هي ذاتها، إلى تكوين ما يشبه طائفة مميزة أو ناديا حصريا، حتى حين تكون النخبة هذه متعددة الأصول المذهبية والدينية. ولا يمنع ذلك، بل يقتضي على الأغلب، حيازة متحدرين من أصل أو أصول أهلية بعينها موقعا امتيازيا يمنحهم نفاذا غير متكافئ مع غيرهم إلى السلطة العمومية. لكن الحيازة هذه تجد تفسيرها في مقتضيات حماية الطابع المغلق للسلطة، أي ضمان أمنها بالمعنى الواسع للكلمة، بما في ذلك السيطرة على شروط إعادة إنتاجها. وإنما هنا تتحول رابطة أهلية إلى طائفة. أي أن التكوين المغلق (اقرأ: الطائفي) لنظام السلطة هو الذي يدفع إلى إنتاج الطائفية والطوائف ذاتها. هنا تكون الطائفية استراتيجية للسيطرة السياسية، كما سنقول لاحقا. وبدورها تجد الحيازة الامتيازية تلك تفسيرها في حقيقة أن نادي السلطة الحصري قلما يكون متجانسا تماما، وأن مراتب التقرير والنفوذ تتفاوت فيه، وأنه يندر أن يبرأ هو ذاته من التجاذبات الطائفية.
على أن التمييز الطائفي لن يلبث أن يثير تطييفا عاما، يفيد كذلك في تمويهه وحجبه. إذ لا يمكن لأية طائفة أن تنال موقعا امتيازيا دون أن يمتد التطييف إلى المجتمع كله. وفي التنافس الطائفي من المفهوم أن يحوز بعض المتنافسين مواقع متقدمة على غيرهم. فالمساواة الطائفية، مثل المساواة الطبقية، أمر ممتنع. ومثل الطبقات أيضا، الطوائف المتساوية هي فقط الطوائف غير الموجودة.
يبقى صحيحا رغم ما يتسبب به التمييز الطائفي من عدوى طائفية أن مفتاح فهم الطائفية ليس الطوائف بل نظام السلطة. أما الاعتقاد المعاكس، الذي قد ينص على أن مفتاح فهم السلطة يقع في الطائفية، وهذه في الطائفة الفلانية أو العلانية، فهو موقف في حقل التنازع الطائفي يمت بصلة قربى إلى الموقف الذي يعتبر الطائفية جوهرا لصيقا بطوائف وليست عملية اجتماعية شاملة. ما تقوله هذه الممارسة تقريبا هو: قل لي ما هي طائفة الحاكم أو نخبة السلطة المغلقة، أقول لك كيف يدار الحكم ويعمل نظام السلطة. ما نعتقده بالطبع هو العكس: ليس مهما من أو ممن ذاك الذي يحكم؛ المهم هو كيف يحكم، وكيف يعاد إنتاج نظامه بالخصوص. فالطائفية ممكنة مهما تكن طائفة الحاكم حين يكون النظام السياسي مغلقا، وحتى حين تكون نخبة السلطة متعددة الطوائف. وهي بنت انغلاق المنظومة السياسية والحد الاصطناعي والقسري من تداول النخب، وليست بنت التعدد الديني والمذهبي14 .


الطائفية كاستراتيجية سياسية
لا تتوالد الطائفية ويعاد إنتاجها من ذاتها. تحتاج إلى "عمال" وصناعيين وأجهزة محركة. هذا يحيل إلى الطائفية كحساب وتخطيط لفاعلين وقوى منظمة. الطائفية على هذا المستوى استراتيجية تعبئة تهدف إلى تشكيل أطراف أو لاعبين سياسيين في سياق الصراع على السلطة والثروة. وهي تنشط التكوينات الأهلية، الخاملة سياسيا (نسبيا)، بهدف تصنيع الطوائف والطائفية السياسية منها15 . فلا نتحدث عن طائفية إلا حيث تجنح "الطوائف" إلى التشكل كفاعلين سياسيين برسم مقتضيات الصراع السياسي والاجتماعي. وتكوّن الفاعلين أو اللاعبين السياسيين هو نتاج عملية حشد وتفعيل، تمارسها نخب، وتشارك فيها "جماهير"، وتثبتها عقائد، ورهانها هو الامتياز والسلطة والثروة.
وعلى مستوى الدولة يندرج تعميم الطائفية ضمن استراتيجية سيطرة سياسية تستهدف تعطيل قدرة المجتمع على إنتاج إرادة عامة وإبقائه أسير النظام الطائفي. وشرط نجاح الاستراتيجية هذه هو إبقاء الطوائف ذاتها أسيرة نظام ما يسمى "الوحدة الوطنية" (أي غياب التنازع الطائفي المفتوح، لكن أيضا صيانة الانقسام الطائفي). فالطوائف أدوات في الصراع أكثر مما هي ذواته أو فاعليه. ولا يطلب القادة السياسيون تعبئة الطوائف وتحويلها إلى فاعلين عامين إلا بقدر ما تصلح مطايا لسلطتهم ومنافستهم مع فرسان آخرين لحيوانات أخرى. ولو كان محتملا للتعبئة الطائفية أن تنتج أفرادا أحرارا لما بذل أحد جهدا من أجلها.
والقول إن الطائفية استراتيجية يعني أنها أيضا ابتكار حر متجدد، يقوم به أفراد ونخب، منظمون ومحرضون ومنتجو عقائد. والوظيفة الجوهرية لهذا الكادر المبدع تحويل التناثر الأهلي إلى تماسك طائفي، وهذه عملية معقدة أباحت لنا القول إن الطائفية بنت السلطة والسياسة وليست بنت المجتمع والطبيعة. ومن وظائف الكادر الطائفي أيضا إثارة المخاوف من الغير وتغليف ولاءاتهم الطائفية بقيم سامية، وطنية وإنسانية وعامة. فكما لا توجد الطائفية في الطبيعة، فإنها لا توجد عارية أبداً أبدا، وشريعتها أن لا تخاطبنا إلا من وراء حجاب مثل امرأة محافظة. ولا أحد البتة يقول إنه طائفي. الطائفي هو الآخر، أما "أنا" فوطني أو علماني أو ليبرالي أو شيوعي...
ومن وظائف النخبة تلك أيضا، وأهمها، وظيفة إضفاء الشرعية، أعني إظهار أن النظم الطائفية تعبير "طبيعي" عن طائفية مجتمعاتنا. وينتج القائمون على الوظيفة التشريعية "معرفة" خاصة، تنسب الطائفية لخصوصية جوهرية لمجتمعنا، محفورة في ثقافته أو دينه أو "عقله": "المجتمع" طائفي و"الشعب" متعصب، و"الناس" متعادون من تلقاء أنفسهم، متأهبون للانقضاض على أعناق بعضهم. الحل هو الدكتاتورية (مع إغراء دائم بنوع من السياسة الأتاتوركية، أو الثورة الثقافية الصينية). وفي سورية بالذات نحتاج إلى وضع السياق السياسي العياني نصب أعيننا لفهم مزيج نصادفه بوفرة، مكون من هجاء الطائفية ومن اعتبارها طبيعة اجتماعية قارة.
ورغم أن النخب الثقافية قد تنتج معرفة معاكسة تماما: الطائفية مؤامرة خارجية أو لعبة سلطوية، إلا أن هذه تشارك المعرفة السابقة في عدم صلاحيتها لفهم الطائفية كصناعة وكعلاقة اجتماعية عامة وكاستراتيجية تفاعلية، يسهم فيها المجتمع ككل رغم أنها لا تنبع منه تلقائيا، وقد يندرج فيها مثقفون رغم أنهم ليسوا طائفيين، وتلعبها نخبة السلطة لكنها ليست حرة تماما في لعبها. مرة أخرى نقول إن الطائفية والطوائف ذاتها نتاج تطييف، نتاج سياسي؛ إنها استراتيجية سيطرة سياسية لتأبيد الاستئثار بالسلطة داخل الطوائف، أو فوق الطوائف وعلى المستوى الوطني.
وباختصار، لا طائفية بلا طائفيين.
على أن هذا لا يعني، كما نأمل أن يكون قد صار واضحا، أن الطائفية إنتاج ذاتي للطائفيين خارج أية أوضاع صراعية قائمة. إن الطائفية والطائفيين معا هما حصائل مرجحة لنظام سياسي مغلق في مجتمع متعدد أهليا.
ما يحصل واقعيا هو أن نخبا هشة التكوين الاجتماعي في بلدان تكوينها الوطني ضعيف (بسبب حداثة سنها وافتقارها إلى تقاليد سياسية راسخة وتواضع مستوى تحضرها وتطورها الاقتصادي..) تنساق إلى استخدام الطائفية في سياق الصراع على السلطة والنفوذ، داخل الطوائف أو على المستوى الوطني. غرضها تقوية مواقعها في الصراع الاجتماعي السياسي، أو حسم صراع على السلطة، أو ضمان رسوخ نظام حكمها؛ وليس تسييد طائفتها على غيرها، ولا اضطهاد مواطنيها المنحدرين من منابت أهلية أخرى. لكن النتائج الواقعية للممارسة الطائفية متعارضة تماما مع النيات الذاتية. فتقوية مواقع تقود إلى إضعاف مواقع، وضمان الحفاظ على السلطة يقتضي الاستناد إلى الأقارب لا إلى الأباعد. وهذا شيء لا يمكن إخفاؤه لا بعقيدة وطنية جامعة ولا بمذهب اشتراكي ولا بدعوة علمانية.
نخلص إلى القول إن المرء لا يكون طائفيا فيمارس ممارسات طائفية أو ينخرط في عمليات طائفية. إنه يمارس ممارسات طائفية فيغدو طائفيا. وقد نقرر إذن أن من خصائص الطائفية أن المرء يبدأ باستخدامها، لكنه لا يلبث أن ينزلق إلى خدمتها رغم أحسن نياته الوطنية.

النزعة الجمهورية الطائفية
وماذا عن الجمهور العام الذي يشكل "المادة" البشرية للطوائف، والذي يخشى الجميع عنفه واستعداده للقتل على الهوية؟ هل هو كتل سديمية خاملة يشكلها ويتلاعب بها زعماء طائفيون؟ الواقع أننا لن نقترب من فهم الطائفية إن لم نتبين العنصر "الجمهوري" في عملية صنع الطوائف. ففي هذه العملية يجري تنشيط وتفعيل وتوحيد جمهور مشتت عادة على قاعدة مبدئية من المساواة، وأكيدة من الأخوة. ويتم كذلك اجتذابه إلى حقل السياسة، وتُقترَح عليه "رسالة" يخرج بها من سلبيته، أي أن لها بعدا تحريريا. وإذا كانت التعبئة الطائفية تنجح فلأنها تستجيب لحاجة جمهور غفل، مهمل عادة، إلى تنظيم نفسه وتنسيق طاقاته، وتمنحه قضية أو مبدأ حيا يكافح من أجله. إن تكوين فاعل سياسي منظم نسبيا من طيف أهلي غير واضح الملامح والحدود من الأفراد والأسر هو عملية أشد جذبا وأرفع قيمة من بقائه مشتتا متناثرا. وستبقى النزعات الجمهورية الطائفية تمارس إغراء قويا، بوصفها ساحة أخوة وحرية ومساواة، طالما هي لم تستوعب في هياكل جمهورية أكثر حيوية وتقدما، تفتح آفاقا أوسع للتحرر والمساواة والأخوة 16. إن وطنيات قامعة ليست أعجز من أن تقف عائقا أمام نداءات التضامن والأخوة الطائفية فحسب، بل هي لن تكف عن التراجع أمامها وربما الانهيار مرة تلو أخرى.
ليس الجمهور، إذن، سلبيا يتلاعب به محرضون طائفيون، إنه يبحث عن فسح حرية ونشاط يجدها في الطوائف التي تغذي مشاعر أخوة ومساواة وحرية حقيقية. ولا تنتشر الطائفية في بلداننا لأن الجمهور غير عقلاني فيها، بل بالضبط لأنه عقلاني، يجد في الطوائف (في مراحل صعودها بخاصة) ما يشبع تطلعاته الجمهورية المثالية التي لا تجد إشباعا على أي مستوى آخر. ولا يمكن لعقلانية الجمهور أن تكون وطنية إلا إذا كانت الوطنية عقلانية، تخلو من الاستثناءات والتمييز، وتكفل المساواة في الغنم والغرم.
بكلام آخر، الطائفية موجودة ومرشحة للانتشار لأنها حل لا رغم كونها مشكلة. وفي غياب حلول أرقى فإنها لن تبدو مشكلة لأحد. الوطنية المجردة والقمعية، مرة أخرى، هي مشكلة أكثر مما هي حل.
على أن مخاطر "الجمهوريات" الطائفية على جمهورها ذاته كبيرة، حتى لو لم نأخذ بالحسبان أية اعتبارات وطنية وإنسانية: إن إغراء الهوية المتماسكة الذي تستجيب له يحرمها من القدرة على مقاومة الاستبداد داخل كل منها. ثم إن الصراعات والتسويات الطائفية غالبا ما تكون على حساب الجمهور الذي يستخدم فيها وقودا، ما يناسب أيضا تغذية الاستبداد في داخلها، ولحساب القيادات الطائفية كما يظهر المثال اللبناني. إن الأفراد في "الجمهوريات" الطائفية محاسيب لا مواطنون. بعبارة أخرى، لا يمكن للجمهوريات الطائفية أن تكون ديمقراطية ودستورية، وهي تخذل بصورة نسقية النوازع الجمهورانية للجمهور. هذا العطب متأصل فيها: فسقف أمانيها هو تحويل الجمهورية/ الطائفة إلى كيان عضوي، ولا حرية بالطبع في الكيانات العضوية، ولا مساواة، وإن تكن الأخوة مضمونة. هذه، على أي حال، مشكلة الوطنيات القمعية التي تقترح على رعاياها فائضا من أخوة شكلية لا قيمة سياسية لها مقابل نزع حريتهم وحرمانهم من المساواة.
بالنتيجة الطائفية حل قصير العمر، وهي لا تدوم إلا بقدر ما يكون البديل عنها بلا أخوة حقيقية، فضلا عن كونه بلا حرية ولا مساواة.
إلى ذلك كله، فإن النوازع الجمهورانية الطائفية هي الدافع الأقوى وراء المذابح الطائفية وعمليات القتل على الهوية. فالأشخاص الذين خرجوا من خمول الروابط الأهلية وبلادتها، وحازوا الشعور بأهميتهم ودورهم في الجمهوريات الطائفية، أي الذين تحرروا بفضلها من الهامشية والبؤس، هم ذاتهم الذين سيقتلون دون أن يرف لهم جفن متحدرين من الطوائف الأخرى التي تبدو قيدا على التحرر الجمهوري لطائفتـ"نا" أو تهديدا لها (وكذلك "خونة" من طائفتـ"نا"...).
من هنا الخاصية الأشد شؤما للصناعة الطائفية: إن الطائفي الجيد أو البطل الطائفي هو الطائفي المتطرف، فيما يبدو الطائفي المعتدل خائرا، أو حتى خائنا. ولو فكرنا في من هم أبطال الطوائف في كل من لبنان وسوريا والعراق، لاستبان لنا بسهولة أنهم من يستحقون أن يوصفوا، من وجهة نظر وطنية أو إنسانية، بالسفاحين.
وأصل الخاصية هذه أن صناعة الطائفية في الجوهر عملية استقطابية، يتم إنتاج الخصم أو العدو الطائفي كشرط لا مناص منه لصناعة الصديق ذاته، أي من أجل تماسك الطائفة وقيادتها. ويمارس الاستقطاب فاعليته في الدفع نحو المواقف العدائية القصوى كشرط لاستحقاق القيادة. ويغدو خلق مناخ من عدم الثقة والريبة حيال الطوائف الأخرى، وترويج الأساطير حولها، وتكفيرها أو تخوينها أو تسفيهها، شرطا لا غنى عنه من أجل بناء الثقة داخل كل طائفة، ولضمان الفوز بقيادتها (لا تشتغل المشاعر الوطنية بطريقة مختلفة، في أوقات الحرب بخاصة). ويتعين النظر إلى توحيد الطائفة والانفراد بقيادتها بوصفهما وجهان لعملية واحدة، هي صناعة الطائفة ذاتها. فوحدة الطائفة لا توجد إلا في شكل خضوعها لقيادة واحدة، أو في عملية الصراع من أجل احتكار تمثيلها، ضد الأعداء الداخليين (داخل الطائفة)، وفي سياق الحرب ضد الأعداء في الطوائف الأخرى. ومن المفهوم أن تجد القيادات الطائفية في تعزيز الوحدة الطائفية شرطا وجوديا لدوام سلطتها، فيما يعني تراخي الاستقطاب الطائفي بالضرورة بروز قيادات منافسة، واحتمال قيام تحالفات عابرة للطوائف أو تآكل القاعدة البشرية للسلطة الطائفية.
وهكذا نلمس مفارقة الطائفية: إن تفعيل النوازع التحررية والمساواتية يلبي حاجات "الثوار الطائفيين"، إن صح التعبير، إلى السيطرة في طوائفهم ذاتها وإلى تحسين فرصهم ومواقعهم من أجل السلطة والسيطرة على السلطة في مجتمعات متعددة أهليا.
وفي شروط الاستقطاب والاحتقان الطائفي الحاد، يخسر الطائفيون المعتدلون بسهولة أمام المتطرفين، الأمر الذي يزكي، من وجهة نظر السياسة الوطنية العملية، عدم مجاملة الطائفية، ومحاولة اجتذاب المعتدلين إلى محاربة الطائفية بدلا من التهدئة والتسوية معها.
بقي أن نقول إن الكلام على صناعة طائفية ونزعات جمهورية طائفية .. يضعنا في جو الحداثة. ولا نريد من هذه الإشارة إثبات ما سبق أن أثبته كثيرون من أن الطائفية مرتبطة بالحداثة أو هي "تعبير مركب ومتعدد الطبقات عن التحديث" بلغة أسامة مقدسي. ما نريد قوله هو أن الطائفية الحديثة، سرنا ذلك أم لا، أكثر تقدما من التناثر الأهلي (ومن نظام الملل)، وأن التحرر من الطائفية يوجب أطرا أعلى للمشاركة والإيجابية للجمهور العام الذي لا يجد في حوزته ما يعلو على الجمهوريات الطائفية.
*****
لنلخص إذن: تقوم الصناعة الطائفية على تزويد تكوينات دينية أو مذهبية بآليات تماه فعالة، تنشطها وتسيسها وتبث فيها الذاتية والإرادة، أو زجها ضمن ديناميات تطييف وتذويت: نقل الوعي على غرار الحزب اللينيني، خلق العدو، وتعبئة إرادة مشتركة. الهويات الطائفية هي ثمرة هذا التماهي أو التطييف وليس العكس. من يقوم بذلك؟ نخب وطلائع حديثة. لماذا؟ لأنهم من ذلك يجنون سلطة ومواقع قيادية في طوائفهم. وهو ما يمكنهم من النضال من أجل السلطة على مستوى المجتمع الأوسع. إن التطييف عملية سياسة في جوهرها، أي أنها عملية صراعية أيضا. وإن نزع التطييف هو عملية سياسية وصراعية في جوهرها كذلك.
وللجمهور دور فاعل في الصناعة الطائفية. فهي توفر له إطارا تفاعليا تتوفر ضمنه مشاعر الأخوة والمساواة (في مرحلة التعبئة العامة الطائفية على الأقل)، فضلا عن تنشيطه وتفعيله وشحذ همته وإرادته، ما يشكل مبدأ حرية.
في المجمل، الطائفية نتاج نضال سياسي تقوده نخب تسعى للسيطرة على السلطة والثروة. وهي أيضا حصيلة تفاعل بين جمهور أهلي يتطلع إلى تغيير وضعه ونخب تتطلع إلى السيطرة السياسية. بنتيجة هذا التفاعل تتكون الطوائف ذاتها.
*********************
هوامش
(1) يقول المرحوم مهدي عامل إن الطوائف علاقات سياسية وليست جواهر، لكنه يهدر حدسا سياسيا ونظريا ثاقبا في ماركسية مذهبية، جوهرانية هي ذاتها، وفي كتابة متكلفة، ونزوع سجالي يكاد يكون "طائفيا": كل ماركسي أحسن من كل لا ماركسي! انظر كتابه "في الدولة الطائفية"، الطبعة الثالثة، دار الفارابي، 2003، ص20، ص 123..
(2)على أن طموح هذه "الأحزاب" قد يتعدى الوصول إلى السلطة نحو إقامة دول خاصة بها.
(3) أهملت تثبيت بعض الإحالات المصدرية لاعتبارات تتعلق بحجم المادة. هذا المقال جزء من تناول أوسع أعمل عليه وستظهر فيه جميع الإحالات.
(4) هذا لا ينطبق على زواج مسيحي من مسلمة لأنه سيضطر، وفقا لقوانين الأحوال الشخصية القائمة، إلى تغيير دينه. هذا مصدر مرارات وشعور بالمهانة في الوسط المسيحي. وهو يتعارض بلا ريب معه مبدأ المساواة بين المواطنين بصرف النظر عن أديانهم.
(5) يبدو أنه ثمة عنصر متعلق بالحجم في صناعة الطائفية. من السهل تحويل رابطة أهلية صغيرة نسبيا على طائفة، أي إلى فاعل سياسي، فيما يتعذر فعل ذلك بخصوص روابط كبيرة مثل المسلمين السنيين في سوريا ومصر مثلا، والشيعة في إيران، وربما العراق. لم ينجح الإخوان المسلمون السوريون في تعبئة المسلمين السنيين في سوريا رغم الدعاية واستنفار المشاعر الطائفية في فترة الصراع الدموي بينهم وبين النظام بين 1979 و1982.
(6) انظر مثلا د. محمد الموصللّي: إحصاء للطوائف في سوريا، كلنا شركاء، 8/2/2006. يقدم الكاتب، وهو شخص غير معروف وغير ذي صفة، نسبا غير مألوفة عما وصفه بأنه "إحصاء دقيق" للطوائف في البلاد، ليخلص أنه ما من طائفة تشكل أكثرية مطلقة في سوريا. المضمر في الإحصاء هو اعتبار التطابق بين المذهبي والسياسي بديهيا، أي أن "الطوائف" هي طوائف، فاعلون سياسيون طبيعيون.
(7) انظر لكاتب هذه السطور: الصراع حول مستقبل سورية: سياسات التغيير في بنية مأزومة. في كتاب معركة الإصلاح في سوريا. تحرير رضوان زيادة، الطبعة الأولى، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، القاهرة، 2006، ص ص 89-123.
(8) من أجل عينة عن تناول يرى الطوائف بالعين المجردة، ويقطفها خالصة من الزي والمشرب ونمط الحياة.
A comparison Between The Christians of Syria and Lebanon
By EHSANI2 : syria comment June 14, 2006 . والكثير من مقالات الموقع الذي يحرره باحث أميركي، جوشوا لانديس، متزوج من امرأة سورية. كذلك كتاب نيكولاس فاندام: الصراع على السلطة في سوريا، الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة، 1961-1965. الطبعة الثانية، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1995. ويصعب مغالبة الانطباع بأن كتابا غربيين عديدين يقطفون الطوائف من شجرة الطبيعة، لأن هذا يناسب انحيازاتهم السياسية غير الواعية. ليس ثمة ما يدعوهم، حتى حين لا يكونون منحازين ضد المجتمعات المدروسة، إلى البحث عما وراء المعطى الطائفي من صناعة وسياسة و..لعب.
(9) كما لا تصنع الطائفية من طوائف طبيعية، فإن الطوائف ذاتها لا تصنع من تكوينات أهلية "بريئة" و"طبيعية". إنها تكوينات ذَكورة، تستعيد وقائع اضطهاد وقهر حقيقية جرت في سياق تاريخ المشرق العربي الطويل. وهذه الوقائع منقوشة في السجل الوراثي للتكوينات هذه إن صح التعبير. لكن كان من شان تلك الذكريات القديمة أن تزول أو تبقى مرتبطة بزمن آفل لو ارتفعت النخبة البعثية ومن قبلها النخبة الاستقلالية إلى مستوى وعي مشكلة التنافرات الأهلية، وأدركت أن الشعب "مشروع" ينبغي إنجازه وليس معطى وراثيا قائما في كل حال.
(10) يحيل عطب الدولة الوطنية الحديثة هذا إلى التناقض المكون للتنظيمات العثمانية، كما عبر عنه د. جورج قرم في كتاب مبكر له: تعدد الأديان وأنظمة الحكم، الطبعة الثالثة، دار النهار، بيروت، 1998. يحدد قرم التناقض هذا بالشكل التالي: كانت "التنظيمات التركية تنشد التوفيق بين أضداد لا تقبل توفيقا: من جهة أولى تحديث الدولة العثمانية وتأمين المساواة للجميع أمام قانون واحد، ومن الجهة الثانية تدعيم الامتيازات الطائفية على صعيد معاملة الأقليات". ص 276. وفي خلفية هذا التناقض ثمة تناقض أكبر بعد: جنوح السلطنة العثمانية إلى الإصلاح، بينما كانت سيادتها تتدهور ومجالها الامبراطوري يتعرض لقضم مطرد من قبل القوى الأوربية ذاتها الضاغطة من اجل الإصلاح. بعد اقل من قرن على تنظيمات السلطان عبد المجيد أمكن لمصطفى كمال أتاتورك أن يحقق انقلابا كبيرا في تكوين تركيا ووجهتها بالضبط لأنه نجح في الحفاظ على كيان تركيا وحقق انتصارات مهمة على فرنسا واليونان وصان وحدة بلاده التي كانت معرضة لتقسيم لا يقل عما عانى منه المجال العربي ما بعد العثماني. لو اخفق أتاتورك لما أمكن أن يحقق أية إصلاحات.
على أية حال تناقض اليوم في البلاد المشرقية العربية تحل فيه السلطات المحلية العربية بدل الامتيازات الأوربية، فالسلطات هذه هي التي تتكفل بجعل المساواة والمواطنة خالية من أي مضمون. لكن لا ريب في أن تراجع سيطرة المجتمعات العربية على مصيرها بتأثير إخفاقها في الرد على تحديات المحور الإسرائيلي الغربي يضعف قدرة السلطات على مباشرة إصلاحات تحتاج قرارات شجاعة وحاسمة ويغذي نزوعها نحو التعويض عن تراجع سيادتها بتشديد قبضتها على المجتمعات المحكومة، ويخلق مناخا ثقافيا ومعنويا مناسبا من اجل استئثار النخب الحاكمة بالسلطة وما يقترن بها من امتيازات ونفوذ.
(11) في كتيبه الصغير "تأملات في شقاء العرب" يقدم الشهيد سمير قصير تحليلا عاما عن توتر الحداثة العربية وتناقضاتها، وعنوان فصله الخامس: "في أن شقاء العرب ليس وليد الحداثة بل طرحها" يصح تماما على الطائفية في المجتمعات المشرقية. قدم للكتاب إلياس خوري وترجمه جان هاشم، الطبعة الأولى، دار النهار، بيروت، 2005.
(12) في سياق مختلف يتحدث مهدي عامل عن مخرجين: "إما الإبقاء على القائم، بتأبيد النظام وتأبيد أزمته، وإما الذهاب في منطق نظام القائم حتى نهايته. ونهايته تفجير النظام في مجتمعات طائفية متعددة". كتابه: في الدولة الطائفية، ص 154. ينحاز عامل إلى "إلغاء الطائفية السياسية".
(13) المضمر في مبدأ ضمانة حقوق الأقليات أن الأغلبية الثقافية في الحكم، أو وجود تطابق نسبي بين الأغلبية السياسية الديمقراطية والأغلبية الثقافية، أي العربية الإسلامية في مجتمعاتنا، وهي أغلبية سنية في معظمها، عدا العراق والبحرين. لبنان له وضع خاص لأساب تاريخية، ولأنه ليس ثمة أكثرية مطلقة من أية طائفة. حين لا يكون الحال كذلك يتعين مقاربة قضية الأكثريات والأقليات بطريقة مختلفة. هذه نقطة دقيقة في مجتمعات عربية تحكمها نظم استبدادية وتنحدر نخبة القرار من أقلية مذهبية. الملاحظة المطردة تشير إلى أن النظم هذه تفسد وعي الأقليات، بأن تجعل نخبها محافظة سياسيا ومعادية للديمقراطية.

(14) يلح برهان غليون على هذه الفكرة في مجمل كتاباته: المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، الطبعة الأولى، دار الطليعة، بيروت، 1979؛ ونظام الطائفية: من الدولة إلى القبيلة، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، 1990. عاد إلى توكيدها في مقال نشر مؤخرا: "الطائفية وتقويض المشاريع الوطنية العربية"، الإتحاد الإماراتية، 21/6/2006.
(15) تعبير "الطائفية" السياسية الشائع في لبنان حشو: ليس هناك طائفية غير سياسية.
(16) في كتاب ممتاز يبين أسامة مقدسي بكيفية مقنعة كيف أن الطائفية في لبنان تكونت مع الحداثة، وكيف أن الطائفتين المارونية والدرزية "صنعتا" في ذلك الوقت، ويتجلى في عامية طانيوس شاهين البعد الجمهوري في تكون الطوائف. مقدسي: ثقافة الطائفية: الطائفية والتاريخ والعنف في لبنان القرن التاسع عشر تحت الحكم العثماني. ت: ثائر ديب، الطبعة الأولى، دار الآداب، بيروت، 2005.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في دلالة انفصال -العمل السياسي- عن السياسة العملية في بلدانن ...
- تحييد لبنان إقليميا وحياد الدولة اللبناني الطائفي
- في أصول تطييف السياسة وصناعة الطوائف
- أميركا الشرق أوسطية: هيمنة بلا هيمنة!
- رُبّ سيرة أنقذت من حيرة! -هويات متعددة وحيرة واحدة- لحسام عي ...
- في سورية، استقرارٌ يستبطن حصارا و..يستدعيه
- حول الطائفية: ورقة نقاش ومقدمة ملف
- عن حال القانون تحت ظلال الطغيان
- بيروتُ سوريٍ ملتبس!
- إهدار المعنى القرباني لإعدام صدام
- اللهُمَّ أعزَّ الحرية بأحد الدالَيْن: الدين أو الدولة!
- عمقان لإسرائيل وضحالات متعددة لنا
- المعارضة الديمقراطية السورية في أزمة!
- معضلة حزب الله ومحنة لبنان
- حنين إلى الوطنية القبلية في حمى الدكتاتور
- في أصل السخط العربي وفصله
- تعاقب أطوار ثلاث للسياسة والثقافة العربية...
- كل التلفزيون للسلطة، ولا سلطة للتلفزيون!
- أزمة الهيمنة وعسر التغيير السياسي العربي
- في -نقد السياسة-: من الإصلاح والتغيير إلى العمل الاجتماعي


المزيد.....




- أثار مخاوف من استخدامه -سلاح حرب-.. كلب آلي ينفث اللهب حوالي ...
- كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير ...
- جهاز التلقين وما قرأه بايدن خلال خطاب يثير تفاعلا
- الأثر الليبي في نشيد مشاة البحرية الأمريكية!
- الفاشر، مدينة محاصرة وتحذيرات من كارثة وشيكة
- احتجاجات حرب غزة: ماذا تعني الانتفاضة؟
- شاهد: دمار في إحدى محطات الطاقة الأوكرانية بسبب القصف الروسي ...
- نفوق 26 حوتا على الساحل الغربي لأستراليا
- تركيا .. ثاني أكبر جيش في الناتو ولا يمكن التنبؤ بها
- الجيش الأمريكي يختبر مسيّرة على هيئة طائرة تزود برشاشات سريع ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - صناعة الطوائف، أو الطائفية كاستراتيجية سيطرة سياسية