|
عن حال القانون تحت ظلال الطغيان
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1796 - 2007 / 1 / 15 - 11:37
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نال صدام حسين العدالة ذاتها التي منحها لمواطنيه: عدالة مشوهة الشكل، مبتورة الإجراءات، لا تنضبط بقانون يقبل الاطراد، ولا ترسي قاعدة عامة؛ عدالة متصلة بشخصه وأصله وبأشخاص من حاكموه وأصولهم، وليس بجرائمه كما قد تقررها مؤسسة قضائية منضبطة بقوانين مطردة، أو تحاول إرساء سوابق قانونية قابلة للتعميم والاطراد. وإذا كانت محاكمته ثم إعدامه جديرين بالإدانة، فليس بالقطع على أرضية العدالة التي أرساها هو واستند نظامه إليها، وقد كانت أقرب إلى انعدام الشكل والإجراءات والقواعد. لقد شرب صدام من كأس لطالما سقاه لأخصامه، أو لمن اشتبه في كونهم أخصاما له، وغالبا ما توسع إلى أقاربهم وأصدقائهم ومعارفهم. وبهذا المعنى انتقمت المقادير منه، وتحققت "عدالة" قدرية أو "إلهية"، حسب السيد رفسنجاني. لكن لم تتحقق عدالة بشرية، مدنية، بصيرة، هي التي يعول عليها من أجل قطع سلسلة الثأر وضمان حق العراقيين في دولة قابلة للحياة وجديرة بأن يعاش فيها. في السياق السياسي والثقافي العربي، يتعين القول إن العدالة شكل وإجراءات وقواعد وقوانين عامة، وليست مضامين ثقافية، أو امتيازات (أو حرمانات) شخصية أو فئوية، أو "حقوقا" عرفية، أو قرارات ثورية. والجوهري في العدالة القضائية هو تجرد عملية التقاضي عن ذاتية المتقاضين وسلامة إجراءاتها واتفاق سيرها مع قواعد عامة، أي أن الشكل هو الجوهر. وليس للحكم الذي قد يتمخض عن ممارسة قضائية من قيمة، أي لا يكون عادلا، إن لم تسبقه إجراءات منضبطة وسليمة وثابتة. وهذا صحيح حتى لو كان جميع الناس، المؤسسة القضائية والرأي العام في هذا المقام، على يقين من أن الطرف الذي يتعرض للمحاكمة مجرم أشر. ذلك أن العدالة بوصفها سلامة الإجراءات هي حق جميع الأفراد الذين قد يجدون أنفسهم يوما في موقع المتهم، أي حق المجتمع. ثم أن المتهم لا يكون مجرما أشرا إلا في نهاية عملية قضائية سليمة تجرّمه، ويبقى حتى لحظة تجريمه متمتعا بـ"قرينة البراءة". والتهاون في الإجراءات بخصوص هذا المجرم الأفاك، صدام مثلا، يفتح الباب لانتهاك حرمة وحقوق الأفراد الآخرين. يصح في هذا المقام القول، محاكاة لآية قرآنية، إن من ظلم "نفسا" فكأنما ظلم الناس جميعا. ونتحدث عن ظلم حين لا يتم الالتزام بإجراءات التقاضي السليمة المطردة، المستقلة كل الاستقلال عن حيثيات المتقاضين. ويتأسس مطلب وحدة الإجراءات وسلامتها على مبدأ المساواة التامة بين الناس أمام القانون، بصرف النظر عن أصلهم وثروتهم ودينهم ولونهم وعرقهم وجنسهم وسنهم (ما لم يكونوا أطفالا أو مختلين عقليا). فهو مبني على فكرة سيادة القانون وعلوه فوق الجميع كائنا من كانوا، وعلى إنكار وجود مكانات أو امتيازات متأصلة لدى بعض الأشخاص أو المجموعات بحكم المنبت أو الموقع الاجتماعي أو أية تمايزات موروثة. إن ما لا يمكن أن يكون حقا لكل الأفراد لا يجوز أن يكون حقا لأي فرد. هذا مفهوم ليبرالي للحق تكفلت الديمقراطية في الغرب بتعميمه، لكن لا منافس له عالميا. نزوع شيوعية القرن العشرين إلى التقليل من شأن المساواة القانونية نظريا، ووصمها بالشكلية أو البرجوازية، أفضى عمليا إلى تحطيم فكرة الحق ذاتها وفتح الباب إلى تحطيم الشخص الإنساني كمركز حق وحصانة دون تعويض من أي نوع. وبالحركة ذاتها تكونت نخبة، بل طغمة، متمتعة بحصانة مطلقة لا تسأل عما تفعل. وعلو القانون فوق الزعماء والحكام والأثرياء، أي رفعته فوق ذوي المقام الرفيع، هو ما يضفي عليه قيمة معيارية، أي ما يجعله عادلا وعلامة على العدالة. فسيادة القانون هي سيادته على السادة، لا على المسودين وحدهم. وفضلا عن سيادة القانون، قد ينبغي الإلحاح في السياق العربي على عموميته، أي اطراده وامتناعه على الاستثناء. إن ممارسة قانونية تقرر إعدام كل موظف مرتش هي أعدل من ممارسة أخرى تقرر سجن بعض المرتشين وتغض الطرف عن بعض آخرين منهم؛ هذا رغم أن الممارسة الأولى مفرطة في قسوتها، أي رغم ما يعتور مضمونها من إجحاف وتعنت. إن اطراد قوانين تحدد عقوبات غير متناسبة أوثق نسبا بالعدالة من قوانين متناسبة، لكنها مثقبة بالاستثناءات. وعلى أية حال، قلما يؤخذ على القوانين في البلاد العربية قسوتها؛ ما يؤخذ عليها دوما هو وهنها وسهولة التلاعب بها أو الالتفاف عليها، بالخصوص من قبل أهل السلطة والمال. والتلاعب بالقانون يلغيه ويحل ملحه إرادة المتلاعبين وهواهم. وإذا اصطلحنا أن الاستبداد يضع قوانين تناسبه والطغيان لا يقر بأي قانون، فإن الأصح وصف أكثر نظم حكمنا بأنها طغيانية. وبينما قد يكون الاستبداد قسوة وصرامة، فإن الطغيان نزوة ووحشية وفوضى. والقاعدة الوحيدة التي يرسيها الطغيان هي اللاقاعدة، أي الاعتباط والاختلاط والجواز. وهو ما يقطع ارتباط النتائج بالأسباب، والنيل بالبذل، والثمرة بالجهد، والتوقع بالواقع؛ ويحيل الاستباق والتحسب إلى مجال المستحيل. وما من شأن تماديه في الزمن والشدة أن يعطل حس الموقع والتوجه والتناسب عند الناس، أي نظام الإدراك الأساسي. وبدوره يقود التعطيل هذا إلى وأد إمكانية التفكير المتماسك، بله الإبداع، والملكات العقلية العليا. فعالم الجواز أشبه برمال متحركة يتشوش فيها الحس، ولا يهتدي فيها الفكر. كذلك تتحطم "الملكة المفهومية"، أعني القدرة على صنع مفاهيم عامة من خبرات معاشة، لأن الجواز يفتت "الواقع" ويضفي على الخبرات طابعا ذرويا، ويفقد الوعي التماسك الذي يتيح لها جبل الخبرات في مفاهيم وتصورات عامة. يطل هذه الكلام على القانونية الناظمة للواقع والضامنة للإدراك، وليس على القانون بالمعنى الضيق للكلمة. لكن لا انقطاع بين المفهومين. فالطغيان ينزع من تلقاء ذاته إلى التجاوز وتعميم الفوضى، ودوامه يقود من تحطيم القانون بالمعنى المعياري للكلمة، المعني المتصل بقيمة العدل، إلى تخريب القانون بوصفه "عقلا" للواقع ومبدأ لتماسكه وحسن التوجه فيه، أي القانون كأساس للحقيقة الموضوعية. ومعهما أيضا نفقد حس الاعتدال والسداد والسواء النفسي، أي القانون كضابط للنفس وأساس للأخلاقية. فالطغيان يحصن تحطيم القانون بتحطيم العقل والضمير. وفي "عالم بلا خرائط" ولا مقاييس كهذا يندفع الناس إلى الاستكانة والتسليم بالمقدور، أو إلى التمرد القدري الأعمى الذي لا يميز في عماه ووحشيته. العدالة الوحيدة التي يمكن أو تتحقق في هذا العالم هي انتقام الأقدار، هذه الهوة التي لا تمتلئ ولا يتميز في جوفها صدام حسين عن ضحاياه وجلاديه. هنا الخراب والفوضى الشاملين. *** استدراك: لا بد من رفع الصوت ضد كتابات ومواقف تدين بحق ملابسات إعدام صدام كي تسدل ستارا من النسيان على سياساته الكارثية وجرائمه في حق شعبه وبلده، وتندد بما واكب الإعدام من فجور طائفي كي تحجب طائفيتها الخاصة، التي لا تقل فجورا!
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بيروتُ سوريٍ ملتبس!
-
إهدار المعنى القرباني لإعدام صدام
-
اللهُمَّ أعزَّ الحرية بأحد الدالَيْن: الدين أو الدولة!
-
عمقان لإسرائيل وضحالات متعددة لنا
-
المعارضة الديمقراطية السورية في أزمة!
-
معضلة حزب الله ومحنة لبنان
-
حنين إلى الوطنية القبلية في حمى الدكتاتور
-
في أصل السخط العربي وفصله
-
تعاقب أطوار ثلاث للسياسة والثقافة العربية...
-
كل التلفزيون للسلطة، ولا سلطة للتلفزيون!
-
أزمة الهيمنة وعسر التغيير السياسي العربي
-
في -نقد السياسة-: من الإصلاح والتغيير إلى العمل الاجتماعي
-
ديمقراطية أكثرية، علمانية فوقية، ديمقراطية توافقية؟
-
الخرائط العقلية والسياسية أم الخرائط الجغرافية هي التي ينبغي
...
-
الخرائط العقلية والسياسية أم الخرائط الجغرافية هي التي ينبغي
...
-
الإنترنت وحال العالم الافتراضي في سوريا
-
في أصل -الممانعة- ونظامها وإيديولوجيتها ..وازدواج وجهها
-
في أن الخيانة نتاج وظيفة تخوينية لنظام ثقافي سياسي مغلق
-
في مديح الخيانة
-
نحو حل غير نظامي للمشكلة الإسرائيلية!
المزيد.....
-
الرئيس الباكستاني لـ RT: يمكن لروسيا لعب دور مهم لإنهاء الصد
...
-
عراقجي يدعو الهند وباكستان إلى التحلي بضبط النفس
-
المالية الأوكرانية لن تسدد ديونها للغرب على مدى 30 عاما القا
...
-
طهران ترد على نية ترامب بتغيير تسمية الخليج: الحقائق لا تتغي
...
-
طرابلس..احتفالية بذكرى النصر على النازية
-
رغم التوترات.. باكستان والهند تقيمان اتصالا على مستوى وكالة
...
-
شي جين بينغ بموسكو للتباحث حول أوكرانيا والعلاقات مع واشنطن
...
-
محللون: المقاومة لا تزال متماسكة وقادرة على القتال في غزة
-
ترامب: أحترم وعود الحوثيين وقد أظهروا شجاعة كبيرة
-
روسيا وأوكرانيا.. بدء سريان -هدنة بوتين- لـ3 أيام
المزيد.....
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
المزيد.....
|