أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - تأملات في أحوال الهوية الوطنية السورية وتحولاتها















المزيد.....

تأملات في أحوال الهوية الوطنية السورية وتحولاتها


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1859 - 2007 / 3 / 19 - 11:30
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


كان لتمادي عهد الرئيس حافظ الأسد عقودا ثلاث مفعولان متعارضان على الكيانية السورية. فمن جهة ارتكزت إيديولوجية النظام المشرعة على العقيدة القومية العربية التي تنكر شرعية الكيان السوري وتعتبره كائنا مرحليا سيزول في يوم غير بعيد لمصلحة كيان عربي واسع، ومن جهة ثانية وفر الدوام ذاك استقرارا وتماسكا للكيان السوري وجعل منه ركيزة تماه مستقل نسبيا ونمّى إلفة السوريين به وبرموزه. كان يحدّ من ذلك أن الرمز الأكبر لسوريا خلال تلك العقود الثلاث هو رئيسها نفسه، أكثر حتى مما حدّ منه منافسة العقيدة القومية للولاء السوري. كان يشحب كثيرا أمام الرمز ذاك العلم والنشيد، فضلا عن الدستور وأجهزة الدولة. الرمزية الشخصية هذه توفر قاعدة للتماهي الوطني أضيق وأدنى متانة مما كان من شأن دولة أقل "شخصانية" وأكثر مؤسساتية أن تضمن.
كانت الهوية العربية في الصيغة القومية البعثية تتعرض للتآكل بفعل افتقارها إلى آليات تماه فعالة تخدمها وتغذيها وتقوي الارتباط بها. في النهاية، الهوية عملية تماه مستمرة، أي انجذاب وإعجاب وإرادة انتماء؛ وحين يضعف التماهي، الهوية ذاتها هي ما يتفكك. وكان التماهي السوري ضعيفا لأسباب تتصل بما ذكرنا من تكوين النظام وتمحوره حول الرئيس (لا مبالغة في القول إن عاصمة سورية هي نظامها وليس دمشق، وكان الرئيس حافظ الأسد هو النظام)، فضلا عن طابعه الجهازي (نقيض المؤسسي) المتفاقم. لذلك لم تتكون هوية سورية واضحة المعالم. ولأن الكيان السوري لم ينل اعترافا فعليا به، ولأن شخصية البلد تمثلت في الشخصية الوحيدة في البلد، الرئيس، فلم تغد السورية موضع استثمار فكري وسياسي ومعنوي إيجابي. يسعنا بسهولة ربط العروبة القومية بالوحدة العربية واسترجاع فلسطين ومقاومة الاستعمار والاشتراكية... لكن بم يمكن أن نربط سورية غير كونها ركيزة حكم رئيسها؟ "عرين الأسد"، حسب البلاغة الرسمية القديمة الجديدة. ليست هناك قيم واضحة في هذا المجال غير تلك التي تتصل بتفاني "قلب العروبة النابض" في دوره القومي. التوظيف الإيجابي ينصرف إما إلى العروبة المفرط التجريد أو إلى الرئيس المفرط التشخص.
بيد أن للزمن مفعوله. الرئيس توفي، ووريثه يوشك أن ينهي سبع سنوات. خلال 37 عاما من "الحقبة الأسدية" لم تجر انقلابات تمس بالعمق الرمزي لاتجاه البلاد السياسي والإيديولوجي. والعمق الرمزي أهم في سياق الكلام على الهوية الوطنية من التوجهات السياسية. كما لم يحدث ما ينال من استمرارية الكيان واستقرار عالمه "السيميائي". والاستمرارية تلك والاستقرار هذا أهم من مضمون المعلن الإيديولوجي، البعثي. بالنتيجة، تتكون "هوية سورية" وولاء سوري متمايزان إلى هذه الحد أو ذاك عن النظام ذاته. ولعله يمكن الاستناد إليهما من أجل عقلنته ونشوء وطنية سورية استيعابية وديمقراطية. فتقوية شخصية سورية في وجه أي اختزال هو ما من شأنه أن يدعم فرص الديمقراطية فيها. فكأنما دوام النظام ذاته، وقد كان الدوام أعز أمانيه دوما، يؤهل شروط تجاوزه وتغييره.
ما لا يصح إغفاله في تأمل هذه العملية التي يصعب الآن قول شيء يقيني بصددها هو أن الفكرة القومية العربية بالذات تندرج كمكون إيجابي وفعال للهوية الوطنية السورية. ومن غير المتصور في تقديرنا أن يأتي على سورية حين من الدهر تكون العروبة فيه ملومة مدحورة. قد نتذكر في هذا المقام أن مقاومة السوريين للانتداب الفرنسي جرت تحت الراية العربية لا السورية. وقد نذكر أن سوريا المستقلة أدركت ذاتها عبر عروبة كانت تزداد مذهبة وإطلاقا قبل العهد البعثي، إلى درجة أنه يسعنا القول إن سورية صارت بعثية لأنها كانت قبل ذلك بعثية بصورة ما، أي لأن لديها استعدادا بعثيا قويا. لا ينبغي لقول ذلك أن يمحو الفرق بين عروبة مطلقة كانت عربة صعود ومصدر "رسالة" وشرعية نخبة جديدة من أصول اجتماعية أدنى وأقل مدينية، وبين عروبة أقل مذهبية وإطلاقا كانت إطار تفاهم طبقة الأعيان المدينيين المتنوعي الأصول الإثنية الذين تصدروا العملية السياسية التي انتهت بالاستقلال وحكموا البلاد حتى عام 1958. التجريد المفرط للعروبة المذهبية البعثية وجد ما يوازنه في شخص مفرط التعيين: حافظ الأسد. تولت صناعة الكاريزما الناشطة طوال عهد الرجل ضخ تعيينات لا تنتهي له بينما كانت العروبة المشرّعة تزداد شحوبا وامّحاء ملامح.
ولا يصعب أن نتصور اليوم عروبة دستورية تتمايز عن العروبة المطلقة التي يحتفي بها القوميون العرب من بعثيين وغيرهم. العروبة الدستورية تقوم على إدراك ثلاثي الأبعاد. (1) إن الدول القائمة وقائع اجتماعية وسياسية ودولية صلبة؛ (2) إن العرب مكون واحد، وإن يكن أكثريا في الغالب، من مكونات هذه الدول؛ (3) إن العرب جميعا أجزاء من متعدد أكبر هو العالم، يؤمل أن يتصرفوا فيه يوما بصورة متقاربة. العروبة الدستورية يمكن أن تكون الحل لمشكلتين: عروبة مطلقة، متمذهبة ومتصلبة، توافق "القومية العربية"؛ وعداوة للعروبة ليست ضئيلة الشيوع، وتنزع نحو الإطلاق هي ذاتها.
تقوية شخصية سورية يمكن أن تكون مهمازا لقيام العروبة الدستورية الضرورية اليوم للعرب جميعا. كما يمكن لهذه العروبة المقيدة أن تساعد في تعزيز الكيانية السورية التي لا مجال لعقلنة الحياة السياسية السورية ودمقرطتها من دونها. هذه نقطة تمس الحاجة إلى إدراكها وتبينها. نخمن أن بلدا ضعيف الشخصية يصعب أن تتكون فيه دولة قوية وسيدة، ودون دولة قوية وسيدة يصعب قيام ديمقراطية مستدامة.
راهنا، النظام مبني على احتكار الحرية، وتاليا الشخصية لنفسه؛ غير أن زواله لا يؤهب لانتقال ديمقراطي ما دامت البلاد مفتقرة إلى شخصية متميزة فعلا. وفي هذا المقام، حتى لو أغفلنا تكوين النظام ونمط استقراره المضاد للتراكم، وسوية النخب السياسية والثقافية المتواضعة، فإن فرص تكوّن وطنية سورية قوية الشخصية تبدو غير واعدة في نطاق العولمة التي تأخذ في الشرق الأوسط شكل عسكريا وامبرياليا. لكننا نتحدث عن استثمار مديد يقاس بالعقود، ومتعدد الجوانب، فكري وسياسي واقتصادي وقانوني وتربوي. أما مديح البلد وقيادته ونظامه عبر وسائل إعلام محتكرة فهو أقرب إلى استثمار مضاد. ومعلوم أنه مندرج في سياسة وثقافة محو الشخصية، شخصية البلد كما شخصيات الأفراد، وليس توكيدها.
وخلافا لما قد يخطر في البال فإن الاستثمار الإيجابي في الوطنية السورية وتقوية شخصية سورية لا ينال من القوة المفترضة لما يتجاوز الكيان السوري من رابطة عربية، بل هو، بالخصوص في أيامنا هذه، الترياق الأنسب لكبح جماح ما دون الكيان السوري من هويات فرعية صاعدة، طائفية وإثنية وجهوية، تدعمها العولمة والهيمنة الأميركية والمناخات الفكرية لما بعد الحداثة.
في النهاية، يؤمل من الاستثمار الذي نتحدث عنه أن يضفي الاتساق والوعي الذاتي على عملية قلنا إنها تجري دون أن تكون مقصد أحد، كنتاج جانبي لطول عمر حكم نظام عادمٍ للشخصية.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من الاتهام بالطائفية والتبرؤ منها إلى نقدها ومقاومتها
- في أصل -اللاتناسب- الإسرائيلي و-الإرهاب- العربي
- مقام الصداقة
- أحوال الإجماع اللبناني مقياسا للسياسة السورية حيال لبنان
- بصدد تسييس ونزع تسييس قضية اللاجئين العراقيين
- بصدد السلطة السياسية والسلطة الدينية والاستقلال الاجتماعي وا ...
- صناعة الطوائف، أو الطائفية كاستراتيجية سيطرة سياسية
- في دلالة انفصال -العمل السياسي- عن السياسة العملية في بلدانن ...
- تحييد لبنان إقليميا وحياد الدولة اللبناني الطائفي
- في أصول تطييف السياسة وصناعة الطوائف
- أميركا الشرق أوسطية: هيمنة بلا هيمنة!
- رُبّ سيرة أنقذت من حيرة! -هويات متعددة وحيرة واحدة- لحسام عي ...
- في سورية، استقرارٌ يستبطن حصارا و..يستدعيه
- حول الطائفية: ورقة نقاش ومقدمة ملف
- عن حال القانون تحت ظلال الطغيان
- بيروتُ سوريٍ ملتبس!
- إهدار المعنى القرباني لإعدام صدام
- اللهُمَّ أعزَّ الحرية بأحد الدالَيْن: الدين أو الدولة!
- عمقان لإسرائيل وضحالات متعددة لنا
- المعارضة الديمقراطية السورية في أزمة!


المزيد.....




- مراهق اعتقلته الشرطة بعد مطاردة خطيرة.. كاميرا من الجو توثق ...
- فيكتوريا بيكهام في الخمسين من عمرها.. لحظات الموضة الأكثر تم ...
- مسؤول أمريكي: فيديو رهينة حماس وصل لبايدن قبل يومين من نشره ...
- السعودية.. محتوى -مسيء للذات الإلهية- يثير تفاعلا والداخلية ...
- جريح في غارة إسرائيلية استهدفت شاحنة في بعلبك شرق لبنان
- الجيش الأمريكي: إسقاط صاروخ مضاد للسفن وأربع مسيرات للحوثيين ...
- الوحدة الشعبية ينعي الرفيق المؤسس المناضل “محمد شكري عبد الر ...
- كاميرات المراقبة ترصد انهيار المباني أثناء زلازل تايوان
- الصين تعرض على مصر إنشاء مدينة ضخمة
- الأهلي المصري يرد على الهجوم عليه بسبب فلسطين


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - تأملات في أحوال الهوية الوطنية السورية وتحولاتها