أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - ياسين الحاج صالح - في أصل -اللاتناسب- الإسرائيلي و-الإرهاب- العربي















المزيد.....

في أصل -اللاتناسب- الإسرائيلي و-الإرهاب- العربي


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1853 - 2007 / 3 / 13 - 13:08
المحور: الارهاب, الحرب والسلام
    


حيثما انتقدت أطراف غربية العدوان الإسرائيلي على لبنان، الذي أعقب عملية حزب الله في 12 تموز الفائت، فقد اقتصر نقدها على إفراط الرد الإسرائيلي، أو افتقاره إلى التناسب مع "الاعتداء" الذي تعرضت إسرائيل له. ولطالما سمعنا نقدا مشابها للسلوك الإسرائيلي حيال الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة في سنوات الانتفاضة الثانية. يكاد لسان الحال يقول: بدل قتل عشرة فلسطينيين مقابل كل إسرائيلي، لا بأس بخمسة!
بالمقابل يتواتر اتهام غربي لأطراف فلسطينية وعربية وإسلامية بممارسة الإرهاب، أي استهداف المدنيين وعدم تمييزهم عن العسكريين في إسرائيل أو غيرها. المضمر هنا: حاربوا العسكريين الإسرائيليين فقط، ولا تقربوا المدنيين!
ثمة أسئلة مربكة وابتدائية قد يثيرها النقد الأخير: كيف نحارب طائرات إف 16؟ أو دبابات ميركافا؟ وكيف ستكون نسبة قتلى الفلسطينيين والإسرائيليين، إن التزم الأولون بمحاربة العسكريين وحدهم؟ ما سيكون مصير مبدأ التناسب حالئذ؟
ما يخفى غالبا على النقاد العرب المنشغلين بإثبات عدم توازن النقد الغربي لطرفي الصراع، أو "لاتناسبه"، هو أنه يصدر عن أصل نظري واحد: نظرية الحرب العادلة التي أنضجت في الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إبان حرب فيتنام بالخصوص، بالتوازي مع ازدهار الفاعلية الحربية الأميركية. فمبدأ التناسب والتمييز بين العسكريين والمدنيين ركنان أساسيان في النظرية هذه.
ويتعين ألا يكون مفاجئا تمركز النظرية هذه حول خبرات الغرب الحديث. ليس فقط لأن حضارة الغرب الحديث محاربة فقط، وإنما لأن النظرية والحرب والحضارة سارت يدت بيد منذ مطلع العصر الحديث، أو منذ اقترح ديكارت "فلسفة طبيعية" تجعل مـ"نا" "سادة الطبيعة وملاكها".
تفترض نظرية الحرب العادلة حروبا تجري بين دول قومية مستقلة، جيوشها محترفة ومتميزة عن مدنييها، و"الحرب فيها استمرار بوسائل مختلفة للسياسة" (كلاوسفيتز)، و"أهم من أن تترك للعسكريين" (كلمينصو)، وفوارق القوة بينها معتدلة نسبيا، ويؤوِّل صناع القرار فيها الوقائع بطريقة متقاربة بما يقلل من احتمال نشوء إساءات فهم خطرة، أي أن ثمة عقلانية مرجعية يشتركون فيها. ومن المفهوم، تاليا، أن نظرية هذه أصولها لا تصلح كثيرا للحكم على حروب بعض أطرافها بلا جيوش بالمرة، أو إن جيوشها غير قادرة على النهوض بوظيفتها الدفاعية التي تشرط احتكار الدولة للمقاومة؛ ولا تشترك في عقلانية واحدة (لا ترتدع، خلافا لدول قومية حديثة لديها الكثير مما تخسره إن لم ترتدع، ولن تخسر كل شيء إن ارتدعت)؛ ولا تهيمن السياسة فيها على النشاط العسكري، وقد لا يتميز سياسيوها عن العسكريين. هذا أمر ينطبق على أكثر حروب البلدان الأقل تطورا، بالخصوص حين يكون طرفها الآخر غربي متفوق.
نريد القول إن تطبيق نظرية الحرب العادلة على أطراف غير متناسبة القوة إلى درجة كبيرة يعكس التمركز الغربي حول الذات وخبراتها ومعاييرها، دون أن تساعد في فهم الحروب التي تجري وتنظيرها، فضلا عن التوصل إلى تسويات منصفة لها. وهو ما ينطبق على النقد الغربي للأطراف العربية عادة: عدم التمييز بين المدنيين والعسكريين، أو توسل الإرهاب، قدر انطباقه على نقد إسرائيل بمعيار التناسب.
في أصل منظمات ما دون الدولة
بين أية دولة عربية وإسرائيل، بل بين الدول العربية مجتمعة وبين إسرائيل، فارق قوة نوعي، مضمون بكفالة أميركية معلنة ومعروفة، ترتفع إلى مستوى شرعة دولية راسخة. وسنقول إن الفارق المجرب هذا في أعوام 1948 و1967 و1973 هو السبب في تولي منظمات ما دون الدولة مواجهة إسرائيل منذ انتهت حروب الدول في 1982، أو بعبارة أدق منذ نهاية الحرب الباردة.
تمادي فارق القوة ذاته على مستوى القوى المنظمة وحروب الدول هو السبب أيضا وراء تقدم "الحرب غير المتوازية"، بما تتسم به هذه من "لاعقلانية"، تتبدى في "لا ارتداعية" المحاربين غير المتوازيين، ومن نزوع نحو الحرب المطلقة، ورفض التسويات السياسية، ومن استناد إلى منطق الجهاد والاستشهاد، ومن توسل محتمل للإرهاب، أي الامتناع عن التمييز بين العسكريين والمدنيين الذي تقتضيه حروب الدول.
الجذر العقلاني للاعقلانية هذه (اللاعقلانية من وجهة نظر منطق الدولة) هو عجز الدول عن ممارسة سيادتها الخارجية عبر الرد الفعال على ما قد تتعرض له من اعتداءات، أي إخفاق الدولة في القيام بوظيفتها الدفاعية بطريقة يقتضيها مفهوم السيادة ذاته. فلا يحتاج التحليل إلى عقلانية مختلفة من أجل فهم سلوك تنظيمات ما دون الدولة التي تصدر بالفعل عن عقلانية مختلفة. بعبارة أخرى إن العقلانية السياسية التي تفكر بلغة الدولة السيدة وموازين القوى تكفي لفهم نشوء منظمات ما دون الدولة المحاربة. والإرهاب بهذا المعنى هو البديل الممكن عن دفاع عقلاني مستحيل. وما يبدو غير عقلاني بخصوص المنظمات المحاربة تلك إنما هو متولد عن تثبت التحليل على منطق الدولة، في شروط جيوسياسية وجيواستراتيجية دولية وإقليمية تمنع الدولة من تحقيق سيادتها. بعبارة أخرى تتهم مفاهيم نشأت في سياقات تاريخية بعينها تجارب نشأت في سياقات مختلفة بالعجمة واللاعقلانية لأنها غير قادرة على فهمها. فإذا وسعنا التحليل خارج نطاقه الدولتي الأصلي، وأخذنا بالاعتبار عسر تحقق سيادة الدولة في منطقتنا بسبب الفارق النوعي في موازين القوى مع المحور الإسرائيلي الغربي، تبدى لنا مستوى من العقلانية غير النظامية أو "غير المتوازية" لا غنى عن استكشافه من اجل تطوير تفكيرنا السياسي. مستوى مختلف من العقلانية وليس صنفا آخر منها. ويتعين ألا تردعنا عن استكشاف المستوى هذا اتهامات محتملة بتفهم الإرهاب أو تسويغه، أو الإقرار بالشرعية الواقعية لمنظمات ما دون الدولة.
يمكن النظر إذن إلى انتقال الصراع العربي الإسرائيلي من أيدي الدول إلى أيدي منظمات دون الدولة، وحلول الحرب غير المتوازية محل الحرب النظامية، بأنهما حصيلتان للاختلال غير القابل للإصلاح لموازين القوى العسكرية بين الدول العربية المشرقية وإسرائيل. أصل الاختلال هذا هو كما أشرنا كفالة الولايات المتحدة تفوقا عسكريا نوعيا لإسرائيل على العرب مجتمعين. ويلتقي في الكفالة الأميركية هذه: (1) إرادة ضمان بقاء إسرائيل وأمنها وسط محيط لا يتقبلها، و(2) شل مبادرة العرب إلى حرب بضمان أن تنتهي بهزيمة محتومة لهم، وكذلك (3) إغراء إسرائيل بأن تقبل بالتفاوض وتقديم "تنازلات" للعرب، لا يتوقع أن تقدمها إن لم تكن مطمئنة إلى قوتها. هذه عقيدة أميركية مستقرة، كان بلورها هنري كيسنجر بعد حرب تشرين 1973 (وتمد جذورها هي ذاتها في كفالة غربية ذات أصول ثقافية وأخلاقية لإسرائيل، وجودا ورخاء وأمنا). وهي مؤسسة على مذهب توازن القوى الذي يدين به السياسي الواقعي ورجل الدولة الأميركي الشهير، الخبير كذلك في تاريخ الدبلوماسية والعلاقات الدولية. وبحكم مؤهلاته والمرحلة التاريخية التي برز فيها، ظل كيسنجر وفيا للنظر إلى العالم بوصفه مكونا من دول، وربما من حركات تحرر وطني تطمح إلى تكوين دول، وتستبطن سلفا عقلانية الدولة.
ما لم يره كيسنجر، وما لم يكن ممكنا أن يراه في الواقع، هو بروز قوى مما دون الدولة تُحيِّد أو تحد من تأثير التفوق العسكري الكاسح لإسرائيل مثل حماس وحزب الله. فبعدم حيازتها لمرافق وقواعد وتسهيلات ثابتة، وباعتمادها تكتيك حرب العصابات وسهولة تفرقها واختفائها وتخبئة سلاحها، وبسهولة ذوبانها بين المدنيين، وبتعذر إلحاق هزيمة نهائية بها (كيسنجر نفسه يقول إن رجال حرب العصابات ينتصرون إن لم يهزموا، فيما الجيوش النظامية تهزم إن لم تنتصر)، بهذا كله تحد تنظيمات ما دون الدولة من ميزة التفوق العسكري الكاسح الذي يحوزه العدو، إسرائيل في حالتنا. هنا النقطة الجوهرية. لا نستطيع مجاراة عدو في مضمار القوة العسكرية، إذن لن نلتزم بقواعد اللعب معه، وسنلعب بقواعد تناسبنا. هذا عقلاني جدا.
والخلاصة العملية التي يمكن ترتيبها على ذلك قد تنص على أن استعادة الصراع إلى الدول، وإلى العقلانية، يقتضي تمكن أو تمكين الدول هذه من تدارك عاهاتها السيادية، ومواجهة أعدائها بصورة فعالة. دون ذلك سيكون المشهد العربي مزيجا من دول خانعة، لا تندرج خيارتها السلمية المعلنة في استراتيجية متكاملة لحل المشكلة الإسرائيلية، وبين منظمات ثائرة تبقى موضع استياء من قطاعات من الرأي العام في البلدان المعنية. الطرف الذي يفترض أن يجسد الإجماع الوطني (الدولة) عاجز، بالمقابل الطرف القادر نسبيا (منظمات ما دون الدولة) لا يمكن أن يكون موضع إجماع.
على أن هذا مألوف في تاريخ حركات التحرر الوطني جميعا. وأن يكون زمن التحرر الوطني قد تخطى في منطقتنا الموسم الذي عرفه العالم ككل فالفضل في ذلك للكائن الإسرائيلي الفريد من نوعه. الفضل أيضا لأنظمة تجد في "تنظيمات" التحرر الوطني، السياسية والفكرية والقانونية، ما يناسب حيازتها لسلطة مطلقة لم تحظ بها أية حركة تحرر وطني حقيقية، دون حرب ودون تضحيات.
بيد أن مقاربة مسألة تنظيمات دون الدولة من زاوية التحرر الوطني أو تكتيك حرب العصابات تخفق في إضاءة تميز تلك التنظيمات وجديدها. فحركات التحرر الوطني كانت تطمح إلى إقامة دولة مستقلة، فيما تنظيمات ما دون الدولة الحالية نتجت عن إخفاق الدولة المستقلة في تحقيق سيادتها، وتبدو معادية لفكرة الدولة ذاتها. وبينما كانت حركات التحرر الوطني تشبه في تركيبها البشري من حيث المبدأ شعوبها (منظمة التحرير الفلسطينية ليست المثال الوحيد)، فإن تنظيمات ما دون الدولة قائمة على أساس ديني حصرا، مع نزوع أصولي قوي. هل الصفة الأخيرة عارضة؟ بل هي محتومة وجوهرية فيما نرى.
فتعطل منطق الدولة وعقلانيتها السياسية وقابليتها للردع يفسح المجال أمام اشتغال منطق الدين اللاسياسي الذي يقوم على الجهاد والاستشهاد والمقاومة المطلقة. وإخفاق المعالجة العلمانية، القومية العربية، للمشكلة الإسرائيلية هو ما يدفع نحو نزع علمانية الصراع. وما سهل تديين مواجهة إسرائيل الطابع المطلق والوجودي للمواجهة معها في الزمن القومي العربي ذاته. "صراعنا مع إسرائيل صراع وجود لا صراع حدود"، كما ألف القوميون أن يقولوا. والإسلام يوفر أساسا أصلب وأكثر اتساقا لمواجهة مطلقة أو وجودية من أية عقيدة أخرى غير دينية.
على أن المشكلة الخطيرة في مقاومات ما دون الدولة أنها دينية في مجتمعات المشرق المتعددة الأديان، والمتعددة الإسلام أيضا، ما يجعل منها، من حيث المبدأ ومهما أبدت من حرص، ضد المجتمع وليس ضد الدولة العاجزة فحسب.
نريد أن الإرهاب العربي نتيجة لإخفاق الدول في القيام بوظائفها السيادية. وأن السياسات الأميركية التي تمعن في إضعاف سيادة الدول تجازف بأن تجعل منها دولا فاشلة، معدومة الشرعية وطليقة الإرهاب. وإنما في مواجهة التفوق المطلق الإسرائيلي، وتعذر الحرب (والسياسة)، طور العرب سلاحا مطلقا لم يسبق أن عرفوه في تاريخهم: الاستشهادي. ومثل السلاح المطلق الآخر، النووي، لا يميز سلاحنا هذا بين مدني وعسكري.
لا تناسب اللا تناسب
من جهتها تمارس إسرائيل عنفا متناسبا مع قوتها ومع مفهومها لأمنها (الأمن المطلق)، وإن يكن غير متناسب مع الاستفزاز الذي واجهها. هذا ما يخفق النقد الغربي الخاص باللاتناسب في تبينه، وبالخصوص في إدراك المسؤولية عنه. وفي الواقع قد لا يكون عنف إسرائيل متناسبا تماما مع القوة الإسرائيلية. فمستوى قوتها يتناسب مع محق الأعداء وليس مع تحطيمهم فحسب. وهي لا تراكم القوة بكل أنواعها وبأحدث صرخاتها، بما فيها أسلحة الدمار الشامل، وبما في هذه السلاح النووي (السلاح المطلق)، إلا لكي لا تستخدمها كلها، أي من أجل أن تستغني عن محق العدو العربي بتحطيمه. السلاح النووي ضروري، يمكن القول، من اجل أن تكون الأسلحة التقليدية كافية لحسم أية مواجهة مع الأطراف العربية التي لا تملك أسلحة غير تقليدية. هذا ما يمنح إسرائيل هامشا واسعا من الحرية في إدارة الحرب، واحتياطيا واسعا من الأمان ايضا.
إذا صح ذلك، وهو صحيح فيما نرجح، فإن تسييس إسرائيل أو دفعها نحو تسوية تعاقدية مع محيطها يقتضي إضعافها وتقوية الدول العربية. فلن تفاوض إسرائيل العرب، ولن يكون ممكنا الوصول إلى تسوية حقيقية، إن لم يكون ثمة توازن قوى جديد، يتيح للعرب ردع إسرائيل إن فكرت بالاعتداء عليهم. هذا شيء يتعين قوله مرارا وتكرارا. وهو نقيض العقيدة الأميركية المستقرة منذ حرب تشرين 1973، ودبلوماسية كيسنجر التي أعقبتها. أما الدفع نحو "سلام" على أرضية موازين القوى الحالية فلا يعدو كونه فرضا للسلم الإسرائيلي على العرب، أي لهيمنة لا تجد قطاعات واسعة داخل المجتمعات العربية أية مصلحة لها في استمرارها. وسيقتضي ذلك من الغرب دعم أنظمة دكتاتورية في البلاد العربية، أي أقليات حاكمة تتولى تأديب الأكثرية المتمردة التي ستعتبر غير عقلانية ومتمردة وإرهابية.
وبحكم تكوينها و"فلسفتها" ("حل نهائي" للمسألة اليهودية، نقيض الحل النازي وطباقه) وذاكرتها المعاد بناؤها لخدمة مطلب الهوية المغلقة من تواريخ يهودية مفتوحة في الأصل، فإن إسرائيل دولة لا كالدول، دولة عليا: تبحث عن أمن مطلق، تنزع غريزيا نحو الحرب المطلقة (فارق القوة لصالحها ضروري لاجتناب الحرب هذه، التي هدفها إبادة العدو أو محقه)، عقيدتها مقدسة (مزيج من ديانة الهولوكوست واليهودية)، لا تقبل المساواة مع غيرها، وتحتكر لنفسها موقع التفوق الأخلاقي: تعتبر أن ألم اليهود كما تمثل في الهولوكوست مقياس كل ألم إنساني، الألم المطلق. واحتكار التفوق الأخلاقي هو ما يمنح إسرائيل شرعية فائقة، شرعية غير قابلة للتعميم أو شرعية مضادة للشرعية. ومن غير المفاجئ أن تكون عنصرية المعاناة تلك أشد العنصريات تعصبا، ولعلها ستكون أشدها إيلاما وتسببا في المعاناة. فالسجل لم يغلق بعد، ولا يبدو انه وشيك الإغلاق.
هل تشبه "الدولة العليا" منظمة إرهابية؟ لن نقول إلا أنهما تختلفان عن الدولة العادية بطريقتين متقاربتين جدا: لا تميزان بين المدنيين والعسكريين، لا ترتدعان، تؤسسان شرعيتهما على العقيدة، لا تعترفان بأصول للحرب، خارجتان على القانون، أو "مارقتان" باللغة الأميركية.. إن إسرائيل التي تأسست على إنكار وجود للشعب الفلسطيني ("أرض بلا شعب لشعب بلا ارض"، نفي غولدا مائير وجود شعب فلسطيني..) هي الدولة التي تعتبر جميع حروبها وجودية، ولا تميز عمليا بين عسكريين ومدنيين. "الحرب ضد الإرهاب" هي فرصتها الممتازة لتمويه إرهابها.
زبدة القول إن إسرائيل تجمع بين تفوقين: تفوق عسكري وتفوق أخلاقي. الأول تكفله لها القوة الحاكمة عالميا، وهذه لا يستنفدها التعريف بلغة المصلحة وموازين القوى، ولا تعريف نظامها السياسي ودستورها ونمط حياتها (لعله من مجال الدين، ينبغي البحث عما يتيح لنا وصف هذه القوة)؛ وتفوق أخلاقي "الفضل" فيه لألمانيا النازية. والحال، إن في كلا التفوقين نقطة ضعف خطيرة: إسرائيل لا تتحكم بأي منهما، وهما معرضان للتآكل مع الزمن. فأصل تفوق إسرائيل الأخلاقي ليس ما تفعله بل ما فُعل باليهود، ومنبع تفوقها المادي هو إرادة قوة عالمية يعتقد كثيرون، بكثير من الحق، أنها تسخر إسرائيل لمصلحتها.
وما يشعر أمثالنا بالقلق هو أن عليهم مبارحة المنطق العلماني العادي، المنطق الذي يفصل الوقائع عن الهالات والأساطير، عند محاولة فهم هذه الدول وعلاقاتها. فثمة شيء يتعدى العقلانية ويتحدى المدركات والمفاهيم التي نستخدمها لمقاربة الدول الفانية الأخرى، ربما يناسب وصفه بالعقلانية غير المتوازية أو العقلانية العليا.
وحيال فرط تعقيد أوضاع "الشرق الأوسط"، وبالأخص حيال كون المركز القيادي العالمي جزءا من المشكلة أكثر مما هو جزء من الحل هنا، فإن المرء يغرى بأن أفق تطور المنطقة سيبقى عنيفا وانحلاليا وغير قابل للتشكل والاستقرار، وأنه ربما ينبغي التفكير فعلا في آفاق "دينية" جديدة لإعادة السلم إلى موطن الأديان القديم هذا.
الخلاصة
الأصل الواقعي "اللاتناسب" الإسرائيلي هو لا تناسب قوة إسرائيل مع محيطها، أو ما تحوزه إسرائيل من فائض مقارنة بالدول العربية. وأصل "الإرهاب" العربي فائض الضعف أو عجز الدول عن القيام بوظيفة سيادية أساسية، وظيفة الدفاع. وثمة أصل واحد لـ"الدولة العليا" الإسرائيلية ولمنظمات ما دون الدولة العربية، ولا نحتاج إلا إلى قواعد التفكير السياسي العادي لفهمهما معا. على أن للاتناسب وللإرهاب أصل عقلي واحد هو نظرية الحرب العادلة.
استطراد
تبدو إسرائيل اليوم أسيرة عقدة تفوق تعضّت بمرور الزمن، فأمست عنصرية عادية. إذ ما العنصرية إن لم تكن تفوقا حاسما، دام وقتا كافيا كي "يتبلر"، ويغدو "فارقا نوعيا" في عين المستفيدين منه. ولم يتبدّ الأسر الإسرائيلي في شيء أكثر من انسياقها، في الأيام الأخيرة للحرب في لبنان، إلى توسيع الحرب، لأن أحدا لم يكن يستطيع اتخاذ قرار بوقفها. أي "حرمان الجيش من أن ينتصر"، حسب لغة إسرائيلية سائدة ترجع أصولها إلى نجاحات إسرائيل العسكرية في حروبها السابقة مع العرب. في النهاية الأميركيون هم من عملوا على إنقاذ إسرائيل من نفسها أو من غرورها.
ترى أيهما أسوأ: أسر في الهزيمة كحالنا، شال ومقعد؟ أم أسر في النصر، قد يتسبب يوما في تدمير ذاتي كحالة إسرائيل؟



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقام الصداقة
- أحوال الإجماع اللبناني مقياسا للسياسة السورية حيال لبنان
- بصدد تسييس ونزع تسييس قضية اللاجئين العراقيين
- بصدد السلطة السياسية والسلطة الدينية والاستقلال الاجتماعي وا ...
- صناعة الطوائف، أو الطائفية كاستراتيجية سيطرة سياسية
- في دلالة انفصال -العمل السياسي- عن السياسة العملية في بلدانن ...
- تحييد لبنان إقليميا وحياد الدولة اللبناني الطائفي
- في أصول تطييف السياسة وصناعة الطوائف
- أميركا الشرق أوسطية: هيمنة بلا هيمنة!
- رُبّ سيرة أنقذت من حيرة! -هويات متعددة وحيرة واحدة- لحسام عي ...
- في سورية، استقرارٌ يستبطن حصارا و..يستدعيه
- حول الطائفية: ورقة نقاش ومقدمة ملف
- عن حال القانون تحت ظلال الطغيان
- بيروتُ سوريٍ ملتبس!
- إهدار المعنى القرباني لإعدام صدام
- اللهُمَّ أعزَّ الحرية بأحد الدالَيْن: الدين أو الدولة!
- عمقان لإسرائيل وضحالات متعددة لنا
- المعارضة الديمقراطية السورية في أزمة!
- معضلة حزب الله ومحنة لبنان
- حنين إلى الوطنية القبلية في حمى الدكتاتور


المزيد.....




- وزير دفاع أمريكا يوجه - تحذيرا- لإيران بعد الهجوم على إسرائي ...
- الجيش الإسرائيلي ينشر لقطات لعملية إزالة حطام صاروخ إيراني - ...
- -لا أستطيع التنفس-.. كاميرا شرطية تظهر وفاة أمريكي خلال اعتق ...
- أنقرة تؤكد تأجيل زيارة أردوغان إلى الولايات المتحدة
- شرطة برلين تزيل بالقوة مخيم اعتصام مؤيد للفلسطينيين قرب البر ...
- قيادي حوثي ردا على واشنطن: فلتوجه أمريكا سفنها وسفن إسرائيل ...
- وكالة أمن بحري: تضرر سفينة بعد تعرضها لهجومين قبالة سواحل ال ...
- أوروبا.. مشهدًا للتصعيد النووي؟
- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة بريطانية في البحر الأحمر وإسقا ...
- آلهة الحرب


المزيد.....

- كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين) ... / عبدالرؤوف بطيخ
- علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل / رشيد غويلب
- الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه ... / عباس عبود سالم
- البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت ... / عبد الحسين شعبان
- المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية / خالد الخالدي
- إشكالية العلاقة بين الدين والعنف / محمد عمارة تقي الدين
- سيناء حيث أنا . سنوات التيه / أشرف العناني
- الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل ... / محمد عبد الشفيع عيسى
- الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير ... / محمد الحنفي
- عالم داعش خفايا واسرار / ياسر جاسم قاسم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - ياسين الحاج صالح - في أصل -اللاتناسب- الإسرائيلي و-الإرهاب- العربي