|
بصدد السلطة السياسية والسلطة الدينية والاستقلال الاجتماعي والثقافي في الراهن السوري
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1832 - 2007 / 2 / 20 - 13:28
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حلت السلطات السورية مؤخرا "جمعية المبادرة الاجتماعية"، المهتمة بقضايا المرأة من منظور متحرر ومساواتي وعلماني. الواقعة هذه حلقة في سلسلة من عمليات حظر أو حجب ترخيص أو تدخل في عمل جمعيات وجهات مدنية متنوعة، معنية بشؤون النساء والأحوال الشخصية والجندر والمساواة بين الجنسين. من هذه الوقائع مثلا تعميم أصدره رئيس الوزراء في الشهر الأخير من عام 2005 ينهى الجهات الرسمية عن التعامل مع داري النشر "إيتانا" و"بترا"، لأن الأولى وزعت (ضمن مؤتمر "المرأة والتقاليد" الذي سنأتي تواً على ذكره) والثانية نشرت كتيبا عدائيا حيال الإسلام، ووضع المرأة فيه بالخصوص، من تأليف ناشطة إيرانية فرت من بلدها إلى فرنسا. ومنها أيضا تضييقات أمنية تعرض لها ناشط نظم في خريف 2005 مؤتمرا في جامعة دمشق وبالتعاون مع وزارة التعليم العالي بالذات عن "المرأة والتقاليد". جميع المعنيين بالواقعات المذكورة هم أطراف وجهات ليست معارضة للنظام. الواقع أنهم نساء ورجال حديثو التعليم، منحازون للعلمانية سياسيا وتشريعيا واجتماعيا، ويعيشون نمط حيات الطبقة الوسطى ماديا وسلوكيا وفكريا. وهم مهتمون بقضايا مجتمعية وقانونية وثقافية، تحاذر الارتطام بـ"السياسة". على أن المشترك النوعي بين الواقعات تلك (ونظائر لها لا تبلغ مسامع الإعلام) هو ضلوع رجال دين إسلاميين في حث الجهات السياسية والأمنية على اتخاذ إجراءات تقييدية بحق المعنيين، إجراءات كان يمكن ألا تتخذ لولا تدخلهم. إننا حيال أمثلة على مشاركة جهات دينية السلطة السياسية في ردع حرية التفكير والنشر والعمل المجتمعي لمواطنين مسالمين، يرومون التأثير على الرأي العام في بلدهم في الاتجاه الذي يؤمنون به. هذا أمر مختلف عن النسق المألوف لانتهاك الحريات العامة في البلاد، حيث تتولى جهات أمنية قمع معارضين سياسيين أو مطالبين بالديمقراطية أو ناشطين في مجال حقوق الإنسان. للقمع الجديد، السياسي الديني، طابع ثقافي مجتمعي (وليس سياسيا مجتمعيا)، وهو موجه ضد أنشطة "علمانية" (لا ضد أنشطة "ديمقراطية")، وبالخصوص تلك المهتمة بقضايا المرأة التي يمثل جسدها وحركتها وزيها ميدان السلطة النوعي للصنف المهيمن من رجال الدين الإسلامي في سورية. كان شيخ أحد المساجد الدمشقية قد ندد في خطبة جمعة بكتيب "فلينزع الحجاب" للإيرانية شاهدروت جافان (كتيب رث في الواقع، ويصح القول في مؤلفته إنها أصولية بالمقلوب)، مطلقا سلسلة التفاعلات التي ستفضي إلى مضايقة ناشري "بترا" و"إيتانا" أمنيا، ومقاطعة الدارين رسميا. وكان رجل دين آخر، ذائع الصيت، قد قاد الحملة ضد مؤتمر "المرأة والتقاليد"، دافعا "القيادة القومية" لحزب البعث الحاكم إلى دفع الجهات الأمنية إلى التحقيق مع منظم المؤتمر، الذي سيوصف من قبل نجل رجل الدين هذا بأنه "وصمة عار على جبين جامعة دمشق". ******** سلسلة الوقائع هذه فرصة للنظر في العلاقة بين النظام السياسي و"السلطة الدينية" في سورية. لم يعترف الحكم البعثي السوري في أي يوم باستقلال الأجهزة الدينية، أو يترك لها مجالا للتدخل في الشأن السياسي. لكن لعل ذلك بالذات اقتضى منه أن يترك للأجهزة تلك استقلالا ذاتيا واسعا في مجال إدارة المعرفة والسلوك الديني، أي احتلال الموقع الأمثل لتحديد التدين الصحيح والإشراف على سلامة إيمان السوريين. لقد فضلت السلطات تدينا محافظا، لكن مواليا، على تدين مستقل قد يكون منفتحا. ومن جهتها فضلت الأجهزة الدينية التحكم بالإيمان، تعريفا وتفسيرا وهيكلة..، بدرجة قد تتناسب مع افتقارها لسلطة ذاتية مستقلة. الكلمة العليا في هذه العلاقة للسلطة السياسية بلا ريب، لكن القائمين على الأجهزة الدينية يحوزون سلطة حقيقية في المجال الديني، أساسها إدارتهم المباشرة لأجهزة الدين ومعانيه في ظل الولاء للسلطة السياسية. غير أن العلاقة بين "السلطتين" ظلت في منأى عن أي شكل من أشكال التقنين، أو الانضباط بقواعد عامة مطردة، أو الانحكام بمبدأ فكري معلن أو يمكن الاستدلال عليه. ليس الجهاز الديني منظمة من منظمات الحكم، لكنه أيضا ليس سلطة مستقلة. يتحرك بين الوضعين حسب الظروف. يستطيع النظام سحق أي طرف مستقل يتحرك سياسيا تحت راية دينية (أو غير دينية)؛ وقد فعل. لكنه في الوقت نفسه لا يستغني عن عنصر ديني لشرعيته، يتمثل بالضبط في "حراسة الدين"، أي رعايته ومراقبته في آن معا. وتزداد أهمية هذا العنصر في ظل عدم انتظام شرعية الحكم تحت عنوان واضح يمكن الاهتداء إليه من عناوين الشرعية المعروفة. وكما في مصر، قد يتبين المراقب الخارجي تناقضا بين عنف العلاقة السياسية مع الإسلاميين، فيما يسيطر هؤلاء على مساحات أوسع وأوسع من الأرض الثقافية للمجتمع. بيد أنه لا تناقض في الواقع. فلأن النظام مهاجم سياسيا، وغير مستعد لتقديم أي تنازل في مسألة السلطة، يلزمه شيء من المهاودة في المجال الاجتماعي الثقافي الديني. بل إن تمام إقصاء الإسلاميين السياسيين السوريين هو ما يقتضي المزيد من إرضاء الإسلاميين الثقافيين والاجتماعيين، الموالين على أية حال. وفي سورية، حيث ثمة قاعدة اجتماعية أوسع وأكثر تنوعا للعلمانية، قلما تمضي السلطات إلى حد المزايدة على الإسلاميين كما يتكرر حدوثه في مصر (حادثة وزير الثقافة والحجاب قبل أشهر مثلا)، لكنها ترضي بعض مطالبهم المنعية في المجال الاجتماعي الثقافي الذي لا يحتل غير مرتبة هامشية في لائحة اهتماماتها. نقطة ضعف النظام أنه ليس له قضية أو مبدأ في هذا المجال، يتخطى ما قد يقتضيه الإمساك الآمن بالسلطة. فهو لا يدافع عن مبدأ علماني، وإن كان حريصا على كسب العلمانيين إلى صفه في مواجهة ما يوصف في الكواليس بأنه الشارع الإسلامي. ثم إنه ثمة موانع تكوينية وتاريخية تحول دون أن ينتحل لنفسه شرعية دينية. وهو كذلك يتعامل مع مسألة الحريات الثقافية والدينية والاجتماعية تعاملا استنسابيا وأداتيا، دون أن تكون لها أية قيمة في ذاتها. لكن هذه أيضا نقطة قوته: فهو متحرر من أية التزامات مبدئية تجاه الثقافة والعمل الاجتماعي المستقل. بالنتيجة، يجري كل شيء معززا من تحكم السلطة بالثقافة والمجتمع، ومن سلطة الأجهزة الدينية الموالية على الإيمان والمجتمع أيضا، ومن تحمل الثقافة والاستقلال الثقافي والاجتماعي للسكان الوطأة العظمى للسلطتين. والسلطتان غير متطابقتين رغم ولاء الدينية منهما للسياسية، بل إن العلاقة بينهما لا تخلو من شد وجذب أحيانا، لكن حرية الثقافة والاستقلال الاجتماعي هما ما يدفع ثمن التفاهم بينهما. السلطة السياسية تعادي الديمقراطية، ونفحة العلمانية المحمولة تلقائيا على مبدأ الدولة تتبخر على نار الرغبة في حيازة سلطة مطلقة؛ والسلطة الدينية تعادي العلمانية، وتنفر من الحريات والديمقراطية. لكن في الواقع لا تؤمن أي منهما بما تؤمن به الثانية. كما لا تنضبط علاقتهما بدستور أو فكرة مستقلة عنهما معا. وهذا مصدر ما بينهما من شد وجذب وراء ظواهر الولاء من واحدة و"حراسة الدين" من واحدة. الحصيلة سلطتان مطلقتان مقابل لا شيء تقريبا ضد الحرية السياسية والفكرية والاجتماعية.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صناعة الطوائف، أو الطائفية كاستراتيجية سيطرة سياسية
-
في دلالة انفصال -العمل السياسي- عن السياسة العملية في بلدانن
...
-
تحييد لبنان إقليميا وحياد الدولة اللبناني الطائفي
-
في أصول تطييف السياسة وصناعة الطوائف
-
أميركا الشرق أوسطية: هيمنة بلا هيمنة!
-
رُبّ سيرة أنقذت من حيرة! -هويات متعددة وحيرة واحدة- لحسام عي
...
-
في سورية، استقرارٌ يستبطن حصارا و..يستدعيه
-
حول الطائفية: ورقة نقاش ومقدمة ملف
-
عن حال القانون تحت ظلال الطغيان
-
بيروتُ سوريٍ ملتبس!
-
إهدار المعنى القرباني لإعدام صدام
-
اللهُمَّ أعزَّ الحرية بأحد الدالَيْن: الدين أو الدولة!
-
عمقان لإسرائيل وضحالات متعددة لنا
-
المعارضة الديمقراطية السورية في أزمة!
-
معضلة حزب الله ومحنة لبنان
-
حنين إلى الوطنية القبلية في حمى الدكتاتور
-
في أصل السخط العربي وفصله
-
تعاقب أطوار ثلاث للسياسة والثقافة العربية...
-
كل التلفزيون للسلطة، ولا سلطة للتلفزيون!
-
أزمة الهيمنة وعسر التغيير السياسي العربي
المزيد.....
-
مصر وقطر تؤكدان استمرار الوساطة بأزمة غزة بتنسيق أمريكي
-
الجيش الأردني يحبط محاولة تسلل وتهريب مخدرات من سوريا (صور)
...
-
السيسي يتوجه إلى موسكو بدعوة من بوتين
-
فرنسا تؤكد استمرار جهودها للإفراج عن رهينتين فرنسيتين في إير
...
-
في مساهمة رئيسية.. روسيا تُنجز عملية تزويد المفاعل النووي ال
...
-
مصر.. حبس رجل أعمال في قضية هزت الأوساط الرياضية
-
نائب روسي: يجب استدعاء بايدن للاستجواب في قضية تفجير -نورد س
...
-
وكالة: مودي يرجئ زيارته المقررة إلى أوروبا
-
مقربون من برنياع يشيدون بوساطة قطر رغم الهجوم الإسرائيلي الع
...
-
مراسلنا: عشرات القتلى والجرحى بقصف إسرائيلي على قطاع غزة
المزيد.....
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
المزيد.....
|