ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1880 - 2007 / 4 / 9 - 11:00
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
المثقفون والنشطاء السوريون الذين يتمحور تفكيرهم ونشاطهم العام حول شعار الديمقراطية يحجمون عادة عن الانشغال بمسألة العلمانية أو ينزعون إلى التقليل من شأنها. وبالعكس، يميل من يتمحور تفكيرهم ونشاطهم حول شعار العلمانية إلى إهمال قضية الديمقراطية أو منحها موقعا ثانويا في تفكيرهم. تمثل هذه الملاحظة خاصية دالة من خصائص الحقل السياسي الإيديولوجي السوري، الذي يتميز بأن له مركزان: السلطة والدين. من يجذبهم أحد المركزين قلما يبالون بما يجري في المركز الآخر. ومن يشغلون أنفسهم بموقع الدين في الحياة العامة لا يظهرون اهتماما يذكر بطبيعة النظام السياسي، والعكس بالعكس.
وقد يبدو أن الخاصية هذه تتصل بدورها بالتركيب الاجتماعي الثقافي للمجتمع السوري، أعني بتمايزاته الدينية والمذهبية، لولا أن قلة اهتمام العلمانيين بمسألة السلطة وقضايا الحريات (حين لا ينحازون علانية إلى نظم الاستبداد) من جهة، وضعف اهتمام الديمقراطيين بمخاطر هيمنة دينية محتملة من جهة أخرى، شأن يعم البلاد العربية ولا يخص سورية وحدها. وبشيء من التبسيط يبدو أن عداء العلمانيين العرب للإسلاميين دفعهم إلى الاصطفاف إلى جانب النظم الحاكمة، فيما دفع عداء الديمقراطيين للنظم هذه إلى الوقوف في صف الإسلاميين.
وفي السياق السوري، تستجيب العلمانية بصورة تفضيلية للقلق الوجودي لأقليات دينية ومذهبية تخشى الاضمحلال أو الانقراض، وتستجيب الديمقراطية بصورة تفضيلية للقلق السياسي لأكثريات أهلية تهجس بالتهميش. ويتكفل التجاذب السياسي والإيديولوجي بين النخب متعددة الأصول بتوظيف الفكرتين، الديمقراطية والعلمانية، في تثبيت وتسييس التمايزات الأهلية، الدينية والمذهبية، أعني تزويدها بوعي ذاتي حديث وبإردة مستقلة، لا تستطيع هي تزويد ذاتها بهما.
يتوسط في عملية التثبيت تعريف الديمقراطية بأنها حكم الأكثرية، وتعريف العلمانية فصل الدين عن الدولة. أية أكثرية؟ وأي دين؟ لا نجد إجابات على هذين السؤالين، رغم أنها واضحة للجميع ضمن حقلنا السياسي الإيديولوجي. الدين الذي يتعين فصله عن الدولة هو الإسلام (السني)، و"الأكثرية" التي يتعين أن تحكم هي المنسوبة إليه. وهكذا يجري اجتذاب مدركي الديمقراطية والعلمانية نحو دلالات أوثق صلة بخصائص الحقل هذا وتركيب المجتمع السوري وأبعد عن مراميها الأصلية في سياقات اجتماعية أكثر اندماجا. لا ريب أن أكثر العلمانيين والديمقراطيين سيرفضون هذه القراءة. لكن ما نتحدث عنه ليس خططهم ونياتهم، بل التوظيف المحتوم الذي يخضع له المفهومان/ الشعاران في شروط سياسية واجتماعية وتاريخية عيانية. وهو توظيف لا يستطيع الديمقراطيون والعلمانيون تحديه دون وعيه، ودون إدراك أن مفاهيمنا لا تحوز منهما حصانة ذاتية تمنع توظيفها ضد "مقاصدها الأصلية"، وبما يتوافق مع أوضاع وآفاق تتميز بالاستبداد أو بالطائفية أو بهما معا.
أوضاعنا الراهنة لا تسمح بتوظيف الشعارين والمفهومين باتجاه قيم الحرية والمساواة المكنونة في تجاربهما المكونة. التخلي عنهما غير ممكن بالمقابل. فلا سبيل في الأفق المنظور للاستغناء عن مدركين أساسيين هما في الوقت ذاته مفهومان نظريان لهما تاريخ، وقيمتان مركبتان موجهتان للعمل العام، وشعاران جذابان ومعبئان. أي مخرج ممكن من هذه المعضلة؟ نقترح التحول نحو مستوى مختلف: عقلنة الدولة.
نعني بعقلنة الدولة عملية بناء الدولة كسلطة سيادية ممأسسة متعالية على حيثيات الحاكمين وعصبياتهم، ومضادة للامتيازات والاستثناءات التي تنخر الدولة وتجوف الوطنية وتفرغها من مضامينها التحررية والمساواتية. من شأن قيام الدولة هذه أن يجعل منها إطارا جذابا للتماهي العام بين متحدرين من أديان وجماعات مذهبية وإثنية مختلفة. نشوء الدولة، كمقر لوطنية عقلانية تضمن المساواة بين الإفراد وتلغي تجزؤ المجتمع وتناثره الأهلي، يؤهل مستوى للتشارك والتعارف والتعاطف بين الأفراد أرقى مما يمكن أن يقوم على أرضية الدين أو المذهب أو الإثنية أو العشيرة. أرقى بالمعاني الثلاثة التاريخي (أكثر تقدما) والأخلاقي (أوفق للمساواة) والاجتماعي (يلبي مصالح أكثرية أكبر). وبروز المستوى الأرقى هذا هو أكبر خطوة ممكنة نحو انفصال الدولة عن الدين الذي لا يضمن، بطبيعة الحال، إلا مستويات تماه أضيق نطاقا، بشريا وثقافيا وتاريخيا. فإذا كنا نتحدث اليوم كثيرا عن فصل الدين عن الدولة، فلأن عملية انبثاق الدولة كمستوى مستقل عن الانتماءات الدينية والأهلية، أي انفصالها عن العصبيات وسيادتها عليها، قد أخفقت. ويتراءى لنا أن وراء الإخفاق التقاء عمليات ثلاثة مترابطة: تعثر قيام اقتصاديات منتجة تكون قاعدة نهوض طبقة وسطى مستقلة (إن الارتباط بين اقتصاديات الريع والاستبداد العصبوي يبدو أكيدا، وإن لم يكن سببيا؛ وكذلك الارتباط بين الاقتصاد المنتج وعقلنة الدولة)؛ الحضور الكثيف والعدواني للمحور الأميركي الإسرائيلي وتسببه عبر سلسلة وقائع مشهودة في تقزيم الدولة لدينا وإضعاف شخصيتها وزعزعة كيانها ذاته؛ والتكوين الاعتقادي وغير النقدي لقطاعات واسعة من النخب المثقفة العربية. فشل عملية انفصال الدولة، وعجزها عن تأمين إطار تماه إيجابي منافس للأطر العصبوية والدينية ومتفوق عليها، هو ما ينعكس إيديولوجيا بطلب إرادوي للفصل، ما يعني طلب الاستبداد. بهذا المعنى، العلمانية الرائجة شعار إيديولوجي يعكس تعثر عملية عقلنة الدولة العقلانية كأساس لاستقلالها بأمر الأمة، أمة المواطنين.
من ناحية أخرى، يقلل تكون الدولة كإطار أعلى للتماهي العام الوطني من القيمة السياسية للتمايزات الدينية والمذهبية والإثنية، ويؤسس تاليا "بنية تحتية" للديمقراطية، شعبا، تتمايز منه أكثريات وأقليات عصرية متجاوزة للأطر الأهلية. في غياب الشعب تجنح الديمقراطية لأن تكون "توافقية" في أحسن الأحوال، وبابا لتفكك الدول المعتلة القائمة في أسوئها.
والدولة الوطنية العقلانية كأساس صلب للديمقراطية والعلمانية هو ما يضمن أن تتقدمان معا، بينما يبدو حاليا أن إحداهما لا تتقدم إلا ضد الأخرى. (في ورشة نقاش التأمت مؤخرا في دمشق، لاحظ ريجيس دوبريه أن العلمانية والديمقراطية تراجعتا معا في فرنسا في العهد الفيشي، وأن تقدم العلمانية كان على حساب الديمقراطية في تركيا المعاصرة. العراق الحالي يعرض احتمالا ثالثا: لا علمانية ولا ديمقراطية ولا.. دولة).
لكن كيف تتكون دولة وطنية عقلانية؟ من المؤهل لتولي عملية عقلنة الدولة ومطابقتها للوطنية؟ من أين له العقلانية؟ هل يمكن أن تجري العقلنة وإلغاء الامتيازات الفئوية والاستثناءات دون عنف؟ من هي القوة الاجتماعية القادرة على الهيمنة، أي على دمج ممارسة القوة بتأسيس القانون؟ من يملك القوة والشرعية على اتخاذ القرار بشان توحيد السلطات الدينية المتناثرة وعقلنتها وإخضاعها للقانون؟ هذا أسئلة معرفية وتاريخية تذكر بأسئلة مشابهة طرحها عبد الله العروي قبل خمسة وثلاثين عاما. الفرق أن اللاعقلانية التي شكا منها العروي كانت تجد ترجمتها الأبرز في إخفاقاتنا القومية في واجهة إسرائيل. أما اللاعقلانية التي نشكو منها اليوم فتتمثل في مخاطر انهيار الدول القائمة لمصلحة تكوينات عصبوية لطالما رعتها هذه الدول ذاتها. على أننا قد نكون اليوم أميل إلى التفكير بالعقلنة من زاوية شروطها أكثر مما من زاوية فاعليها. ونخمن أن من شأن التقاء تراجع الهيمنة الخارجية مع تنامي التفكير النقدي في أوساط الانتلجنسيا (مثقفون ونشطاء..) ومع نهوض الطبقة الوسطى أن يحرض عملية العقلنة ويدشن القطيعة مع الاستبداد العصبوي.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟